الجمعة، 29 يناير 2016

ردا على مقال: "إقامة العَدْل في مسألة صفة العَسْل"




 الأفعال المضافة إلى الله واشتقاق
 الصفات منها




الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن من المنكر العظيم أن تُغيَّر القواعد الصحيحة وتبدل, فيقيَّد إطلاقها, ويخصَّص عموما, والمسوِّغ لذلك: نصرة فلان وفلان, والذب عنهم.
وهذا أمر جلل وقع فيه من وقع .
 وقد أوقفني أحد الإخوة على مقال زعم فيه كاتبه: بيان قاعدة في أفعال الله سبحانه.
 فرأيت أن أعلق على هذا الكلام؛ نصرة للعقيدة, وذبا عن صفات الله.
ونص كلام الكاتب:" فإنَّ الأفعال المضافة إلى الله تعالى منها ما هو نوعٌ مستقلٌّ أُطلق على تعالى في سِيَاقِ المدح، فيُشتقُّ لله تعالى منه ما يناسبه من الصِّفة، وذلك مثل الحُبِّ والبغض، والكلام، والنُّزول، والخلق، والرَّزق، والإحياء والإماتة، والعفو والمغفرة، ونحو ذلك، فهذه لا شكَّ في أنَّه يوصف الله تعالى بها، فتجري عليها قاعدةُ الصِّفات، وقد قرَّر هذه القاعدة جمعٌ من أهل العلم والسُّنَّة.
ومن الأفعال المضافة إلى الله تعالى نوعٌ أُطلِق عليه سبحانه، وليس هو نوعًا مستقلًّا، وإنَّما هو من أوصافِ وأحوالِ أفعالِ الله تعالى، يكون لله تعالى الصِّفة من الصِّفات تنشأ منها جملةٌ من أفعالِ الكمال، فهذه الأفعالُ كلُّ واحدٍ منها فعلٌ على وجهٍ خاصٍّ، يخبَرُ به عن الله تعالى، ولا يؤخذ منه صفةٌ يوصف بها الله تعالى مطلقًا.
وهذا النَّوعُ كثيرٌ جدًّا في الكتاب والسُّنَّة، ولم يَعُدَّه العلماء من الصِّفات، ولا يلتزم المجيب ولا غيره أن يدخلوا هذا النَّوع في صفات الله تعالى بإطلاق."
إلى أن قال: ومن هنا تقرَّر عند العلماء أنَّ باب الأفعال أوسعُ من باب الصِّفات، فليس كلُّ فعلٍ أضيف إلى الله تعالى تشتقُّ له منه الصِّفَةُ بإطلاق، كما لا يشتق لله منه الاسم أيضًا
وهذا من أعجب التقريرات التي وقفت عليها وأغربها, وفيها مغالطات عظيمة.
فقد قسم الكاتب الأفعال التي يشتق منها الصفات إلى : أفعال هي نوع مستقل, وأفعال هي ليست نوعا مستقلا وإنما هي أوصاف وأحوال أفعال الله, فالأول يشتق منها صفة, والثاني هي من باب الخبر.
والرد عليه:
أولا: عدم التسليم بهذا التقسيم, وهو تقسيم محدث مبتدع, لم يقل به أحد من الأئمة.
ثانيا: أنه منقوض بعدة صفات.
قال ابن القيم في شفاء العليل: (( قوله تعالى: [وأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة] وقوله [وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ]
وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه  ))
وقال أبو القاسم التيمي في الحجة: ((فصل في إثبات النداء صفة لله عَزَّ وجَلَّ))
وقال ابن أبي العز الحنفي: ((ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضى والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة)
وقال الشيخ الهرَّاس: ((تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل؛ من الرضى لله، والغضب، واللعن، والكره ... ))
فهذه الأفعال منها يصدق عليها أنها ليست نوعا مستقلا, ومع ذلك أثبتها الأئمة صفات لله عز جل.
وكم من أفعال ليست مستقلة وأثبتها الأئمة صفات.
ثالثا: أن الكاتب نقض نفسه, فقال:" ففعلُ «عَسَلَ» لا يلزم منه إثبات صفة العَسْلِ، وإنَّما الصِّفة هي التَّوفيق إلى الطَّاعةِ والهدايةُ إليها "
والتوفيق نوع من أنواع الهداية, فليس مستقلا.
رابعا: أن الفعل الذي لا يكون مستقلا وإنما يدخل تحت جنس أو نوع فإنه يكون ثابتا بثبوت جنسه أو نوعه إذا دل عليه الشرع.
وما لم يدل عليه الشرع فنتوقف فيه مع إثباتنا للجنس الذي دل عليه الشرع.
وكما نأخذ من الجنس أو النوع صفة كذلك نأخذ مما يدخل تحتها مما دل عليه الشرع؛ إذ لا فرق مؤثر بين ما كان مستقلا وما ليس مستقلا, والشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
خامسا: يلزم على كون الأفعال غير المستقلة من باب الخبر أنها ليست قائمة بالذات, وإنما راجعة إلى الذات.
وهذا اللازم فاسد, وفساده يدل على فساد الملزوم.
وبهذا يتبين لنا بطلان تقعيده.
وكل ما ذُكِر بصيغة الفعل على سبيل الإطلاق فليس هناك ما يمنع من اشتقاق الصفة منه, ونلتزم بهذا, ولو لم يرد التنصيص عليها من الأئمة؛ لما سيأتي.
وأما كون باب الأفعال أوسع من باب الصفات؛ فلأن الأفعال منها أفعال مطلقة, ومنها أفعال مقيدة, والصفة المطلقة إنما تشتق من الأفعال المطلقة, لا المقيدة, ولهذا كان باب الأفعال أوسع من باب الصفات.
والفعل في نصوص الكتاب والسنة يأتي مطلقا, ومقيدا, ومضافا.
ومثال المطلق: (وكلم الله موسى) فتؤخذ منه صفة: التكليم.
ومثال المقيد: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ), فتؤخذ منه صفة: المستهزئ بالمنافقين.
ومثال المضاف: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ), فتؤخذ منه صفة: مخادعة من يستحق الخداع.
فما رد مطلقا فإنه يشتق منه صفة مطلقة, وما ورد مضافا فإنه يشتق منه صفة مضافة, وما ورد مقيدا فإنه يشتق منه صفة مقيدة.
والمراد بالصفة في قول بعض أهل السنة:" باب الأفعال أوسع من باب الصفات": الصفة المطلقة.
وهذا الذي لم يفهمه الكاتب, فظن أن وجه كون الأفعال أوسع من الصفات: أن من الأفعال ما ليس بنوع مستقل.
وقد نقل ما يدل على نقيض فهمه, فقال: وقد وقفتُ للشَّيخ صالح آل الشَّيخ ـ حفظه الله ـ على بيانٍ حسنٍ لما تقرَّر من سَعَةِ باب الأفعال وأنَّه لا يلزم من كلِّ فعلٍ أن يؤخذ منه صفةٌ لله تعالى، مع ربَطَهُ بما نحن فيه، فقد قال كما في دروس «شرح ثلاثة الأصول» ـ ومن نسخة «المكتبة الشَّاملة» أنقل ـ:
«
الأخ يسأل سؤالًا وجيهًا، وهو أنَّه جاء في حديث ابن عبَّاس: «تَعرَّف إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاء يَعرفْكَ فِي الشِّدَّة». وهنا يقول الأخ: وُصف الله بأنَّه ذو معرفة، وأنَّه يَعرف.
وهذا فيه نظرٌ، لأنَّه المتقرِّر في القواعد في الأسماء والصِّفات أنَّ باب الأفعال أوسع من باب الصِّفات، وباب الصِّفات أوسع من باب الأسماء، وباب الأخبار أوسع من باب الأفعال وباب الصِّفات وباب الأسماء، فقد يُطلَق ويضاف إلى الله ـ جلَّ وعلا ـ فعلٌ ولا يضاف إليه الصِّفة، كما أنَّه قد يوصف الله ـ جلَّ وعلا ـ بشيءٍ ولا يُشتقُّ له من الصِّفة اسم، ولهذا يدخل في هذا كثيرٌ ممَّا جاء، مثل ما وَصف الله ـ جلَّ وعلا ـ به نفسه في قوله «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ», و«الله يستهزئ بهم»، «إنَّ الله لا يملُّ حتَّى تملُّوا»، ونحو ذلك ممَّا جاء مقيَّدًا بالفعل، ولم يذكر صفة للاسم، فهذا يقال فيه أنَّه يُطلَق مقيَّدًا، ويمكن أن يحمل عليه حديث ابن عبَّاس هذا: «تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشِّدَّة»، نقول: إنَّ الله ـ جلَّ وعلا ـ يعرف في الشِّدَّة من تعرَّف إليه في الرَّخاء، على نحو تلك القاعدة، كما يقال: إنَّ الله ـ جلَّ وعلا ـ يمكر بمن مكر به, يستهزئ بمن استهزأ به، يخادع من خدعه, ولا يقال: إنَّ الله ـ جلَّ وعلا ـ ذو مكرٍ، وذو استهزاء، وذو مخادعة هكذا مطلقًا بالصِّفة، وإنَّما كما هي القاعدة أنَّ باب الأفعال أوسع من باب الصِّفات».
وله نحوٌ من ذلك هذا وقريبٌ منه في دروس «شرح الطَّحاوية»، ومن قوله فيه: «الفرق بين أفعال الله وصفاته أنَّ الأفعال مشتملة على صفةٍ وعلى زمنٍ؛ لأنَّ الفعل يشتمل على حدثٍ وعلى زمنٍ، والحدث هذا وصفٌ، ولمَّا كان كذلك كان الفعل المضاف إلى الله - عزَّ وجلَّ - لا يدلُّ على الصِّفة الَّتي اشتمل عليها هذا الفعل بإطلاق، بل قد يوصف الله - عزَّ وجلَّ - بها وقد لا يوصف؛ لأنَّ باب الأفعال أوسع بمن باب الصِّفات.
مثاله: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ»، فاستواء الله - عزَّ وجلَّ - صفةٌ أخذناها من فعل استوى؛ لأنَّ استوى مشتملٌ على حَدَثٍ وهو الاستواء (الصِّفة) ، ومشتمل على زمنٍ وهو الماضي، ويُثبَتْ الاستواء هنا صفة لله - عزَّ وجلَّ - كما يليق بجلاله وبعظمته، لأنَّه متضمِّنٌ كمالًا، فيُقال: من صفات الله الاستواء على العرش.
مثال الثَّاني: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ»، (يَمْكُرُ اللَّهُ) هذا فعلٌ مضارعٌ مشتمل على حَدَثٍ، على صفة وهو المكر؛ يعني على مصدرٍ وهو المكر، ومشتملٌ على زمنٍ وهو المضارع؛ لكن لا يقال: هذا الفعل يدلُّ على إثبات صفة المكر؛ لأنَّ صفة المكر ليست دائمًا صفةَ كمالٍ، فلهذا قال أئمَّة أهل السُّنَّة رحمهم الله تعالى: إنَّ باب الأفعال أوسع من باب الصِّفات؛ فقد يُضافُ الفعل إلى الحقِّ - عزَّ وجلَّ - ولا تُثْبَتُ الصِّفة الَّتي تضمَّنها هذا الفعل، كما أنَّ باب الصِّفات أوسع من باب الأسماء؛ فقد تطلق الصِّفة على الله - عزَّ وجل - ولا يُطلَقُ الاسم، من مثل الاستواء والمستوي، ومثل المكر بحقِّ والماكر وأشباه ذلك» اهـ.
والأئمة لم ينصوا على كل صفة جاء بها النص؛ لأن قاعدتهم إجراء النص على ظاهره, فيثبتون ما دل عليه النص لفظا ومعنى من غير كيف.
ولأنهم يفهمون أن الفعل يشتمل على حدث وزمن, والحدث هو الوصف, كما ذكر ذلك الشيخ صالح آل الشيخ.
ونكتة المسألة: أن الفعل يكون صفة باعتبار المصدر الذي تضمنه, ويكون فعلا باعتبار الزمن والتجدد, وهذه هي العلاقة بين الفعل والصفة.
فالمصدر أحد مدلولي الفعل.
والفعل ملازم للذات باعتبار المصدر.
ولا يشترط في إثبات الصفة من النص الشرعي أن ينص عليها السلف بعينها.
وهذا الذي فهمه أئمتنا وعلماؤنا من صنيع الأئمة فنصوا على إثبات صفات أخذوها من الأفعال, ولم ينص السلف على إثباتها صفة لله.
ومن ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/14) : ((ووصف نفسه بالعمل فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ))
ولم يأت عن السلف التنصيص على أن الله وصف نفسه بالعمل.
وقال ابن أبي العز الحنفي (463) : ((ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضى والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في الفتاوى (1/209) : (( ((فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا)) : من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر)) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه

د. أحمد محمد الصادق النجار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق