مناقشة مجوزي إخراج #زكاة_الفطر_نقودا لغير المصلحة الراجحة
د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (فرض ... صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ ) وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: كنا نُعطِيها في زَمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعامٍ...): يحتمل أن المنصوص عليه مقصود بعينه لا يجوز العدول عنه, ويحتمل أن المنصوص عليه ليس مقصودا لذاته فيجوز العدول عنه, ولذا اختلف العلماء, فليس هذا الحديث من باب النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا, وإنما هو من باب الظاهر الذي يحتمل معنيين بالنظر إلى مراد المتكلم.
والصحيح - عندي- أن المنصوص عليه طعاما مقصود, فلا يعدل عنه إلى غيره مع وجوده إلا إذا وجدت الحاجة أو المصلحة الراجحة, ولا يجوز إخراج القيمة.
وعدم جواز إخراج القيمة لغير الحاجة هو قول:
جميع الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين, وهو مذهب أكثر السلف
وهو قول عامة أهل العلم, قال القاضي عياض كما في شرح النووي على مسلم (7/ 60): (ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة) وفي رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام للفاكهاني (3/ 354): ( ولم يجز عامة العلماء إخراج القيمة، وأجازها أبو حنيفة).
وأقوى حجة يستمسك بها المجوززن بإطلاق: أن النص معلل بإغناء الفقير، وحصول الإغناء بالنقود أتم وأوفر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة.
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: عدم التسليم بأن المقصود من زكاة الفطر مطلق الإغناء في كل حال بأن يحصل الإغناء بكل مال متقوم, وإنما المقصود إغناء مخصوص وهو الإغناء بجنس ما يحصل به الإفطار من رمضان؛ إذ إن سبب إيجابها: الفطر من رمضان, والفطر إنما يكون بالطعام, فناسب أن تكون الزكاة طعاما.
وهو المناسب للمقصود من يوم العيد, فيوم العيد يوم أكل وشرب, فناسب أن تكون الزكاة طعاما.
وهو الأقرب إلى العلة المنصوصة وهي قوله: (طعمة للمساكين).
ولأن النظر إلى القيمة لم يعتبره الشارع؛ لتفاوت قيم الأصناف المذكورة, وإنما الذي اعتبره الشارع هو الصاع.
الوجه الثاني: التعليل بالإغناء بإطلاق منقوض بالسكنى في دار المخرِج عوضا عن قيمة المنصوص عليه, ووجود العلة مع اختلاف الحكم يقدح في العلة.
الوجه الثالث: التعليل بالإغناء بإطلاق فاسد الاعتبار؛ لأنه قياس في محل النص, ولأن إجماع الصحابة العملي منعقد على إخراج الطعام, فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: كنا نُعطِيها في زَمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقطٍ، أو صاعًا من زبيبٍ.
فترك الصحابة إخراج غير الطعام مما يعد قيمة وتنصيصهم على الطعام يدل على منعه؛ لوجود مقتضيه ولا مانع, وغير الطعام مما يعد قيمة أعم من النقود.
أضف إلى ذلك: أن الشارع ذكر النقود بدلا في زكاة الإبل, فخير مزكي الإبل بين الشاتين أو عشرين درهما, فعدم ذكرها وترتيب الحكم عليها في زكاة الفطر يدل على أنها غير مقصودة ولا تجزئ, وهذا يدل على ضعف قول من زعم أن عدم ذكر النقود في زكاة الفطر؛ لندرة استعمالها في زمن التشريع.
الوجه الرابع: التعليل بالإغناء بإطلاق يعود على إلغاء المنصوص عليه, وشرط العلة الصحيحة ألا تعود على الأصل بالبطلان.
الوجه الخامس: التعليل بمطلق الحاجة والمصلحة منقوض بوجودها في زمن التشريع من غير اعتبار فتكون ملغاة.
الوجه السادس: تجوبز إخراج القيمة بإطلاق فيه إسقاط فائدة تعيين الطعام فيكون باطلا.
الوجه السابع: أن في زكاة الفطر حقا لله وحقا للعبد, فحق الله تعلق بكون المخرج طعاما فلم يجز إخراج قيمته كالضحايا.
الوجه الثامن: لا يصح قياس النقود على الطعام في زكاة الفطر؛ لأن النقود ليست قوتا ولا طعاما.
وختاما:
لما كان باب الزكاة معقول المعنى وله مقاصد فيجب على المجتهد أن يراعي مقاصده وعلله ولا يقف عند ظواهر النصوص,وأعظم معانيه المعقولة: مواساة الفقراء وسد حاجاتهم, فهو مقصد أصلي.
إلا أن إغفال رجوع الباب إلى الحاجيات وإلغاء ظاهر النص؛ بناء على مجرد التعليل بسد الحاجة والمواساة مسلك غير صحيح؛ إذ يجب أن يراعى في الخروج عن ظاهر النص الحاجة التي يرجع إليها باب الزكاة, فيحصل الجمع بين التعليل وظاهر النص والمقصد.
ومن أمثلة الجمع بين ظاهر النص وبين التعليل والنظر المقاصدي: تقييد جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر بالمصلحة والحاجة,والمصلحة المعتبرة هي التي تحافظ على مقصود الشارع ومراده من زكاة الفطر.
فلو منعناهابإطلاق كنا قد أهملنا التعليل بالمواساة والنظر المصلحي المقاصدي, ولو أجزناهابإطلاق خرجنا عن مقصد الباب ورجوعه إلى الحاجيات وأهملنا ظاهر النص