مشروعية
جهاد الدفع مقيدة بتحقيق المقصود منه
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فإن من الأمور التي أوكلها الله للحكام أبرارا
كانوا أو فجارا: جهاد الكفار والبغاة؛ لمصالحه العظيمة, وتصرفات الولاة فيه يجب أن
تكون منوطة بالمصلحة الشرعية التي يتحقق بها حفظ الضرورات, والافتيات عليه في هذا
الأمر يؤدي إلى فوضى ومفاسد عظيمة, وهو سلم للفتن.
ففي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/ 350): (وقال الشيخ
أحمد زروق في بعض وصاياه لإخوانه التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه
سلم الفتنة وقلما اشتغل به أحد فأنجح)
ولذا لم يكن لغير الحاكم أن يأمر به, وأن يخاطب به عامة
الناس, ومن فعل ذلك أوقع الأمة في الفتنة.
ففي مسائل حرب
الكرماني (3/ 1062): (وكان الحسن يقول: أربع من أمر الإسلام إلى السلطان: الحكم،
والفيء، والجهاد، والجمعة.
قلت لهشام: وإن بروا
أو فجروا؟ قال: وإن بروا أو فجروا).
وقال ابن قدامة في
المغني (10/ 368): (وأمر الجهاد موكول إلى الامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته
فيما يراه من ذلك)
ويدل على هذا ما جاء:
في صحيح البخاري (4/
15) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة
بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»
فعلق الدعوة إلى
الجهاد بالحاكم تعلق الشرط بالمشروط, ومفهوم المخالفة أنه إذا لم يستنفر فلا يؤمر
الناس بالنفير؛ مما يدل على أن الدعوة إلى الجهاد معلقة بالحاكم.
قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (6/ 118):
(والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور، فإن لم يغز معهم، لزم أن أهل الخير الأبرار
لا يجاهدون، فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد، فإما أن يتعطل، وإما أن ينفرد به
الفجار، فيلزم من ذلك استيلاء الكفار، أو ظهور الفجار، لأن الدين لمن قاتل عليه)
وفي صحيح مسلم (3/ 1471) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل
وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه»
قال ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (6/ 116): (وقوله
إنما الإمام جنة بضم الجيم أي سترة لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويكف أذى
بعضهم عن بعض والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس)
وقال النووي في شرح النووي على مسلم (12/ 230): (ومعنى
يقاتل من ورائه أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم
مطلقا)
ولتعلقه بالحاكم نص أئمة أهل السنة على إقامة الجهاد مع الأمراء أبرارا كانوا
أو فجارا
ففي أصول السنة للإمام
أحمد: (والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك) شرح أصول
اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص: 160)
وفي عقيدة الرازيين: (
ونقيم فرض الجهاد والحج مع ائمة المسلمين في كل دهر وزمان) شرح أصول اعتقاد أهل
السنة والجماعة للالكائي (ص: 177)
لكن هنا سؤال, وهو: هل يستثنى من ذلك
دفع الصائل؟
وجوابه: أن دفع الصائل
وهو ما يعرف بجهاد الدفع, أوجبه الله؛ لما فيه من دفع الكفر والإضرار بالمسلمين.
فهذا هو المقصود من
شرعيته.
وهذا النوع من الجهاد
قد يكون من الضروريات وقد يكون من التكميليات بحسب الحال, فإذا هجم الكفار على
بلاد المسلمين وتحقق النفير العام وترتب على تركه ذهاب مصالح الدين والدنيا ولم يترتب
على تركه إلا الإضرار بالمسلمين صار ضروريا ووجب على كل مسلم بحسب إمكانه وقدرته,
ولا يتعلق بالحاكم إذا تعذر استئذانه أو فوت مصلحة ضرورية تفوت, أو فرض عدم وجوده.
قال ابن تيمية في
الفتاوى الكبرى (5/ 538): (وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة
والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد
الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).
وفي هذا المعنى من
تعرض للتهديد المباشر في نفسه أو عرصه أو ماله؛ لما رواه أبو داود
والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“منْ قُتِل دُونَ مالِهِ
فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتِلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ
فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”.
فإذا هجم العدو على
البلد وتعذر الاستئذان فلا يتوقف وجود الجهاد على إذن الإمام بل ولا على وجوده؛
لأن في الجهاد هنا حفظا للضرورات, فتتحقق به المصلحة وتدفع به المفسدة العظمى.
وقد قدم الله الجهاد
على حرمة الزمان والمكان؛ فقال تعالى: [ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال
فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله
والفتنة أكبر من القتل ]
فعدم الاستئذان في
جهاد الدفع مقيد – كما سيأتي- بتحقيق المقصود منه وهو عدم الإضرار بالمسلمين.
أما إذا لم يتعذر
استئذانه ولم يفوت مصلحة ضروربة ولم يكن التهديد مباشرا فإنه لابد من استئذانه؛
للمصلحة العامة واجتماع الكلمة ووحدة الأمة وترتيب الصفوف.
ولا يتصور منه إلا
الإذن؛ لتعلق الأمر بالضرورات.
ففي البيان والتحصيل
(2/ 590) سئل مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين، أيقاتلهم المسلمون بغير
استئمار الوالي؟
فقال: أرى إن كان الوالي قريبا منهم - أن
يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم، وإن كان بعيدا لم يتركوهم حتى يقعوا بهم.
وفي مسائل الإمام أحمد
رواية ابنه عبد الله (ص: 258) قال سمعت ابي يقول: إذا أذن الإمام القوم يأتيهم النفير
فلا بأس أن يخرجوا.
قلت لأبي: فإن خرجوا بغير
إذن الإمام؟
قال: لا, إلا أن يأذن الإمام
إلا أن يكون يفاجئهم أمر من العدو ولا يمكنهم أن يستأذنوا الإمام فأرجو أن يكون ذلك
دفعا من المسلمين.
وقد يكون جهاد الدفع من
المكملات إذا ترتب على تركه كف أذى عن المسلمين وتقليل المفاسد والإبقاء على
الأرواح ولو كان ذلك فيه ذهاب أموالهم, وهذا له تعلق بالحاكم ويتوقف على إذنه إذا
وجد, فقد يستدعي الأمر مصالحة أو نحوها.
والجامع: أن هذا النوع
من الجهاد يخضع لكليات الشريعة وقواعدها, فينظر فيه إلى حفظ الضرورات وتقديمها على
حفظ الحاجيات والتحسينيات, ويعمل فيه بترك الواجب المطلق إذا تعين طريقا لدفع
الضرر الأكبر.
فجهاد الدفع شرع لحفظ
مصالح الدين والدنيا فيجب أن ينظر إليه من هذه الجهة, ولذا اندرج تارة تحت الضرورات وتارة أخرى تحت
المكملات.
وهو وسيلة إلى دفع
المفاسد وجلب المصالح, فيشترط في مشروعبته أن يحقق المقصود منه وما كان وسيلة له.
ويجب عدم الخلط بين
مقصد الشارع من جهاد الطلب وبين مقصد الشارع من جهاد الدفع, فإذا استصحبنا - مثلا-
مقصد الشرع من جهاد الطلب وهو النكاية بالعدو في جهاد الدفع مع وجود العجز والضعف لأدى
ذلك إلى مفسدة أكبر تنافي مقصد الشارع من جهاد الدفع وهو عدم الإضرار بالمسلمين
وإبقاء الأنفس.
ومن الانحراف في هذا
الباب: جعل جهاد الدفع مقصودا لذاته؛ حتى أخرجه طائفة عن باب المصالح والمفاسد
والموازنة بينهما, وأوجبوه مطلفا حتى مع العجز وإفضائه إلى نقيض المقصود منه, وألغوا
استئذان ولي الأمر فيه مطلقا.
ومعلوم أن الوسيلة إذا
أفضت إلى نقيض المقصود لم تكن مشروعة, فإذا ترتب على جهاد الدفع مفسدة أعظم وأمكن
دفعها بغير هذه الوسيلة تعينت.
وقابلهم من انحرف فعلق
جهاد الدفع بإذن ولي الأمر مطلقا من غير تفريق بين تكييف الجهاد بأنه من باب الضرورات أو بأنه من باب المكملات, ومن غير
تفريق بين حاكم يتصرف وفق المصلحة الشرعية وبين حاكم يتصرف وفق هواه فيما تعلق
بالضرورات.
وهناك إشكالية أخرى
عند طائفة من المعاصرين في تحقيق مناط جهاد الدفع في الواقعة الخاصة؛ إذ ليس كل
قتال للعدو الكافر يكون من باب جهاد الدفع, وإنما قد يكون فتنة...
كتبه د. أحمد محمد
الصادق النجار