[فقه الأئمة في فهم إطلاقات السلف في تكفير من قال بمقالة الجهمية]
معلوم أن تناول الأفراد في حقيقة أي إطلاق: تناولٌ لا على سبيل التعيين
فتعيين فرد بأنه هو المقصود بالحكم المطلق قدر زائد عن حقيقة الإطلاق؛ فيحتاج إلى موجب خاص.
فمثلا الإطلاق في تحرير رقبة يتناول رقبة لا بعينها، فلا يشمل كل رقبة، ويصدق على رقبة واحدة، ولا تكون رقبة بعينها هي المقصودة بالحكم، فإذا أردنا تعيين رقبة فلا بد من موجب خاص..
وإطلاق الأحوال والصفات قد يأتي ما يقيده
وقد دل الشرع على أنه لا يكفي في التنزيل على المعين في باب التكفير مجرد التناول بل لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع في المعين.
فإطلاقات السلف في التكفير بإنكار العلو، بخلق القرآن ...
تتناول:
١-حكم المقالة، بمعنى أنها مقولة كفرية
٢-فردا لا بعينه
فهي لا تتناول حكم المسألة فقط ولذا تراهم يقولون لا يصلى عليه ولا يورث ...لأن كلامهم يتناول أفرادا غير معينين، ويصدق في الواقع على صورة واحدة تحقق فيها موجبها الشرعي الخاص..
فهم لا يقصدون شخصا بعينه لا يصلى عليه.
فإذا أردنا تنزيل الحكم المطلق على معين يكون مقصودا بالدلالة المطلقة التي لم تفصل في الأحوال فلابد من موجب خاص؛ مراعاة لدلالة الشرع.
وهذا ليس خاصا بباب التكفير وباب الوعيد، بل هو عام في الشريعة كلها، فلابد من الموجب الشرعي الخاص.
فمثلا: قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة»
هذا حكم مطلق يتناول أفرادا غير معينين، فإذا سبح زيد لم يكن مقصودا بعينه بدلالة المطلق إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت فيه الموانع
فلا يُشهد له بأنه قد غرست له نخلة في الجنة بمجرد دلالة الإطلاق، وإنما لابد من موجب خاص شرعي؛ حتى نشهد له بذلك.
فالحكم على كل فرد بما يدل عليه الإطلاق من غير مراعاة الموجب الشرعي الخاص: خروج عن مقتضى الشرع.
ونظيره التأصيل الذي نستعمله في رد البدع في الفروع كالذكر الجماعي بصوت واحد، فالذكر الجماعي بصوت واحد وإن تناولته نصوص الذكر إلا أن تعيين هذه الكيفية أن تكون مقصودة للشارع يحتاج إلى دليل خاص، وقد جرى عمل السلف على ترك هذه الكيفية...
ومما يؤكد أن الحكم المطلق في التكفير لا يتنزل على المعين إلا إذا تحقق موجبه الشرعي الخاص: ما جرى عليه عمل السلف من ترك تنزيل حكم التكفير على كل معين.
فإن قلت: لا، هي ألفاظ عامة تستغرق كل فرد، وليست هي من باب الحكم المطلق.
قيل لك: ألفاظ العموم تستغرق أفرادها وفق عرف قائلها ومراده، فليس المرجع في الاستغراق: محض اللغة، وإنما المرجع فيه مركب من اللغة وعرف المخاطب ومقصوده.
وإذا نظرنا لأئمة السلف وجدنا أنهم كفروا أعيانا ولم يكفروا آخرين، وأنتم تتفقون معنا أنها لا تستغرق المكره ومن سبق لسانه دون قصد؛ فدل ذلك على أن الاستغراق عند السلف لا ينظرفبه لمجرد اللغة وإنما هو محكوم بقواعد الشريعة وأصولها.
وتقييد الاستغراق بعرف الشارع ومقصوده ليس مخصوصا بمسألة خلق القرآن وإنكار العلو بل هو عام في كل المسائل الشرعية.
فمثلا
من أنكر تحريم الخمر فهو كافر؛ لأن تحريم الخمر معلوم من الدين بالضرورة
لكن هل هذا العموم مستغرق بمحض اللغة، أو هو مستغرق وفق عرف الشريعة ومقصودها
لا شك أنه الثاني، بمعنى أنه مستغرق لمن لم يكن جاهلا ولا متأولا ولا مكرها ولا مضطرا...، فمن كان جاهلا ووو لم يدخل في اللفظ العام
ولك أن تقول: دخل من جهة محض اللغة، وخرج أو لم يدخل أصلا من حيث مقتضى الشرع وعرفه.
ولذا لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون الذي استحل شرب الخمر بتأويل..
فالحكم العام وإن كان قدامة قد دخل فيه بدلالة اللغة إلا أن الشرع منع من أن يكون دخوله مقصودا له، لأن الاستغراق مقيد شرعا بعدم وجود مانع كالتأويل.
وكذلك العموم في قوله تعالى: [ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم]
فهل هذا العموم مستغرق بمحض اللغة فيشمل كل من قتل نفسا متعمدا؟
الجواب: لا؛ لأن العموم مستغرق وفق عرف الشارع ومقصوده، فيستغرق من استحل دون من لم يستحل..
وأمثال هذا في الشريعة كثير...
وأنبه إلى أن القول باستغراق ألفاظ العموم من غير مراعاة استقراء فقه الشريعة وعرف الشارع ومقصوده هو مسلك الخوارج
ولهذا جاؤوا إلى ألفاظ العموم كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها..}
فاستغرقوها في كل الأفراد؛ حتى أدخلوا أهل الكبائر .
فإن قلت: كفر السلف جهما وبشرا وو فدل على أنهم يريدون بألفاظ العموم الاستغراق وشمول كل الأفراد، فيكفر كل من قال بخلق القرآن عالما كان أو جاهلا أو متأولا....
قيل لك: تكفير بعض الأعيان دليل على قيام الموجب الخاص للتكفير عند المكفر، فهم لم يكفروهم إلا بعد مناظرتهم وظهور السنة لهم، وقيام الحجة عليهم، وليس لأنهم يدخلون في ألفاظ العموم...
ونن شواهد ذلك ما ذكر ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال: كان في كتاب عن الربيع ابن سليمان قال حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص: عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد قال الربيع: فلقيت حفصا في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي.
فإن قلت: اذكر لنا من عذرهم الأئمة بناء على جهلهم وعدم معرفتهم؛ حتى يتم استدلالك؟
قيل: قد عذر الإمام أحمد المعتصم وعلل ذلك بالجهل، ففي المحنة قال الإمام أحمد:(كان أبو إسحاق لا يعلم ولا يعرف، ويظن أن القول قولهم ولا يدري..)
وقال:(قد جعلت أبا إسحاق في حل..)
وسامح كل من حضرر وحلله إلا أحمد بن أبي دراد ومن كان مثله..
واستغفر لهم ولو كانوا مرتدين لم يجز له الاستغفار لهم...
وكانت مسامحته للمعتصم قبل ندمه، فقد سامحه بعد أن خرج منه...
ويؤكد ما سبق وينقطع به النزاع أن عدم تنزيل الحكم المطلق على المعين إلا بعد قيام موجبه هو محل إجماع، فقد حكى ابن أبي عاصم في كتاب السنة أن مما اتفق أهل العلم على أن نسبوه للسنة وذكر أمورا إلى أن قال:(ومن قال مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل ان تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه)
فهذا الاتفاق المحكي متعلق بفرد بعينه ولا ينفي ما يحكيه أئمة السلف بأن من قال بخلق القرآن فهو كافر؛ لأنه محكي لبيان الحكم بإطلاق، كما تقدم توضيح ذلك.
فإن قلت: فرق السلف بين تجهيم من قال بخلق القرآن وبين تجهيم اللفظية(من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع)؛ بناء على أن السلف لم يأت في اطلاقاتهم في مسألة القول بخلق القرآن التفريق بين العالم والجاهل بخلاف تجهيم اللفظية فقد فرقوا بين العالم والجاهل.
قيل: هذه ظاهرية لا ينبغي أن يقع فيها من يفقه ما يقول، فتنصيصهم على التفريق في مسألة اللفظية بين العالم والجاهل يقيم الحجة عليك؛ ذلك أن التفريق لما كان مستقرا في نفوسهم، معلوم في الشرع بالضرورة لم ينصوا عليه في جميع إطلاقاتهم، فتنصيصهم عليه في اللفظية دليل على اعتباره في الخلقية..
وهذا مطرد في جميع مسائل الشريعة، وليس خاصا بهذا الباب، فهم لا ينصون على ما كان معلوما علم من استقراء نصوص الشريعة ، كما قال ابن تيمية قي مجموع الفتاوى:(" وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُذْكَرَ فِي كُلِّ خِطَابٍ؛ لِاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِهِ فِي الْقُلُوبِ)
ففقه الآثار مقدم على حفظها والاستدلال بها
وإلا ضاع الشباب بوقوعهم في الغلو
هدانا الله وإياكم لسلوكه صراطه المستقيم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار