المرجع في
الجرح والتعديل
المتعلق بالديانة
لأهل العقائد
أصالة
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فهذا الباب باب عظيم, القيام به على وجهه من الجهاد في سبيل
الله, وهو يفضي إلى حفظ الدين الذي هو أعلى الضرورات الخمس.
والجرح والتعديل منه ما هو متعلق بالرواية, ومنه ما هو متعلق
بالديانة.
فما تعلق منه بالرواية-أي: برواة الأحاديث- فأربابه علماء الحديث, وقد صنفوا فيه
المصنفات, كالجرح والتعديل لابن أبي حاتم, والضعفاء للعقيلي, والمجروحين لابن
حبان.
والمقصود منه: حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن هذا النوع فيه تداخل بين علم الحديث وعلم العقيدة؛ لكلام
الأئمة فيه عن العدالة والضبط, لكن يغلب عليه ما يتعلق بعلم الحديث.
ثم إن هناك خلافا بين المحدثين في قبول رواية المبتدع أو ردها.
وليس محل مقالي هذا النوع.
وأما ما تعلق بالديانة - وهو: الحكم على
الرجل بالسنة والبدعة- فأربابه علماء العقيدة؛ لأنهم أعرف الناس بالسنة والبدعة,
وما يتعلق بالفِرَق.
وقد ميزوا المسائل التي تُعدُّ أصولا يستحق صاحبها التبديع, وبينوا
ضوابط تنزيل ذلك على المعين.
فهم أحق الناس بهذا الباب.
ومقصودي بأهل العقائد: من كان متمكنا في العقيدة السلفية, عارفا
بأصول ال السنة والجماعة.
ذلك أن الجرح والتعديل المتعلق بالديانة يدور -في
الجملة- على مباحث العقيدة.
ومن الفروق بين باب الجرح والتعديل في
الرواية وبين باب الجرح والتعديل في الديانة:
1-اختلاف الموضوع, فموضوع الجرح والتعديل في
الرواية: البحث في الرواة من جهة قبول روايتهم أو ردها, وموضوع الجرح والتعديل في
الديانة: البحث في الناس من جهة السنة والبدعة.
2- اختلاف المقصود, فالمقصود من الجرح والتعديل في
الرواية: حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمقصود من الجرح والتعديل في الديانة:
حفظ الدين, وتغليب مصلحة حفظ الشريعة.
3-الجرح والتعديل في الرواية يُغلَّب فيه جانب
الضبط, فقد يقبل حديث المبتدع – على خلاف بين أهل الحديث في قبول رواية المبتدع-
ولا يقبل حديث السني الذي ليس بضابط, وأما الجرح والتعديل في الديانة فيغلب فيه
جانب الدين, فلا يؤخذ من المبتدع.
4- الجرح والتعديل في الرواية قد لا يخرج الرجل من
السنة, وأما الجرح والتعديل في الديانة فيخرجه من السنة.
5-اختلاف أنواع أسباب التجريح بينهما في الجملة.
فمثلا: أسباب التجريح المتعلقة بالضبط مختلفة عن
أسباب التجريح المتعلقة بالبدعة ومخالفة أصول أل السنة والجماعة.
6-ما يترتب على الجرح في الديانة أعظم مما يترتب على
الجرح في الرواية في الجملة.
فمثلا: يترتب على الجرح فيما يتعلق بالديانة:
الهجر, والتحذير, والعقوبة, وأما الجرح المتعلق بالرواية فيترتب عليه عدم قبول
روايته فقط.
وباب الجرح والتعديل المتعلق بالديانة: له ضوابط ومقاصد,
فمن خرج عنها فإنه يكون قد تجنى على الشريعة وعلى الناس.
وهو في الأصل مستثنى من باب الغيبة.
وهذا الباب إنما استثني من أجل علة, يدور معها وجودا
وعدما.
والمقصود منه: تحقيق مصلحة راجحة, وهي تعود إلى
حفظ الدين.
ومتى انتفت هذه المصلحة الراجحة رجع إلى حكمه الأصلي.
قال ابن كثير في تفسير القرآن (7/ 380): (( والغيبة محرمة بالإجماع، ولا
يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى
الله عليه وسلم ، لما استأذن عليه ذلك
الرجل الفاجر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة" ، وكقوله لفاطمة بنت قيس -وقد خطبها معاوية
وأبو الجهم-: "أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن
عاتقه" , وكذا ما جرى مجرى ذلك )).
وما استثني من أصل يسمى رخصة, ولا يتجاوز فيه مقدار الحاجة.
ومن تجاوزها فإنه يكون قد وقع في الغيبة المحرمة.
قال النووي في شرح النووي على مسلم (1/ 124): (( إنما يجوز الجرح لعارف به
مقبول القول فيه أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله
فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة كذا ذكره القاضي عياض
رحمه الله وهو ظاهر)).
وقال ابن القيم في الروح (240): (( والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة
يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع أو
فتان أو غاش أو مفسد فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به كما
قال النبي لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم فقال أما معاوية
فصعلوك وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وقال بعض أصحابه لمن سافر معه إذا هبطت
عن بلاد قومه فاحذروه .
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة
لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات وإذا وقعت على وجه
ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع منزلته من قلوب الناس فهي الداء
العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب ))
وهنا سؤال مهم, وهو: هل باب الجرح والتعديل المتعلق بالديانة من
قبيل الخبر أو الاجتهاد؟
والجواب: أنه من قبيل الخبر من جهة, ومن قبيل
الاجتهاد من جهة أخرى: فهو من قبيل الخبر من جهة أن المجرِّح إذا جرَّح
رجلا, فمفاد جرحه: أنه فاسق مخالف للسنة, وإذا عدَّل فمفاد تعديله: أنه على السنة.
والسنة هنا في مقابل البدعة, كما هو اصطلاح أهل العقائد.
فهو خبر لما عليه المعدَّل أو المجرَّح في نظر المعدِّل أو المجرِّح,
ويُتلقى بالسمع.
وهو من قبيل الاجتهاد من جهة تحقيق المناط في المعين في صورة من
لا يجرِّح إلا بسبب شرعي صحيح.
وأما من يجرح بما هو سبب مؤثر وبما ليس بسبب مؤثر فلابد أيضا من تحقيق هل
ذلك السبب مؤثر أو لا؟.
فحصل الاجتهاد من جهتين:
1-من جهة تأثير السبب وعدمه.
2-من جهة تحقيق المناط وعدمه.
قال الحاكم في المدخل إلى الصحيح (114): (( وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من
المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهادا ومعرفة بجرحهم لا تقليدا فيه لأحد من الأئمة
))
وقال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 456): (( فإن
التعديلَ من باب الإِخبار والحكم, لا من باب الشهادة)).
ويستفاد من هذا التفصيل أنه إذا جرَّح ثقةٌ
تقيٌّ عالمٌ بأسباب الجرح المعتبرة, ولا يجرح إلا من يستحق التجريح, ولم يعارضه غيره,
ولم يتسنَّ لغيره أن ينظر في الأسباب التي من أجلها جرَّح, ولم يعدَّل المجرَّح؛ فإنه يقبل.
فغُلِّبت هنا: جهة الخبر؛ حفظا للدين, ولأن إعمال قول المجرح
أولى من إهماله في هذه الصورة.
وقد اختلف في العدد؛ فقال مالك ومحمد بن الحسن والشافعى: لا يقبل في
التعديل والجرح أقل من رجلين.
ومن حججهم: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (أيما
مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قلت: واثنان؟
قال: واثنان، فلم نسأله عن الواحد)
وقال: أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل تعديل الواحد وجرحه.
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 25)
والأقرب: عدم اشتراط العدد.
وهل يشترط ذكر سبب التجريح؛ لتوقف معرفة كون الجرح
مقبولا أو لا على كون السبب مؤثرا أو لا؟
الأقرب: عدم الاشتراط فيمن عُرف عنه أنه لا يجرح
إلا بما كان مؤثرا, ويحسن تحقيق المناط, ولم يعدَّل المجرَّح ؛ وذلك حفظا للدين,
وتغليبا لمصلحة الشريعة.
قال الخطيب في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (100): (( ... إن
كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في اعتقاده وأفعاله , عارفا بصفة العدالة
والجرح وأسبابهما , عالما باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك , قبل قوله فيمن جرحه
مجملا , ولم يسأل عن سببه )).
وقال السخاوي في فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (2/ 32): (( ..المختار عند
شيخنا- أي ابن حجر- أنه إن خلا المجروح عن تعديل قبل الجرح فيه مجملا، غير مبين
السبب إذا صدر من عارف، قال: " لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز
المجهول، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله ")).
أما من ثبتت عدالته فإنه لا يقبل فيه جرح إلا إذا كان مفسرا
بما يكون مؤثرا؛ لأن الأصل فيمن ثبتت عدالته: العدالة, وهو اليقين, واليقين لا يزول
بالشك.
وقد بوب البيهقي بابا في السنن الكبرى للبيهقي (10/ 211): (( لا يقبل
الجرح فيمن ثبتت عدالته إلا بأن يقفه على ما يجرحه به )).
وأسند عن إبراهيم النخعي أنه قال: كان يقال: " العدل في المسلمين من
لم يظهر منه ريبة "
وعلق عليه بقوله: (( وهذا عندنا فيمن ثبتت عدالته فهو على أصل العدالة ما
لم يظهر منه ريبة ))
وقال أبو عبد الله المروزي: (( وكل رجل ثبتت عدالته برواية أهل العلم عنه
وحملهم حديثه فلن يقبل فيه تجريح أحد جرحه حتى يثبت ذلك عليه بأمر لا يجهل أن يكون
جرحة )) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (2/ 33)
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 1093): (( من صحت عدالته
وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن
يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من
المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد
والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه
والنظر، وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان
روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على
حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير
المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين: إن السلف رضي الله عنهم قد سبق من
بعضهم في بعض كلام كثير، منه في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن
عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما
قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا لا يلزم تقليدهم
في شيء منه دون برهان وحجة توجبه )).
وأما إذا تعارضت أقوال المجتهدين فهنا يكون الأمر
اجتهاديا, فقد يوافَق المعدِّل, وقد يوافَق المجرح بحسب ما يدل عليه الشرع, وصحة
التنزيل على المعين.
قال ابن القيم في حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (2/ 298): (( ... وحتى
لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه لم يقدح ذلك في روايته ما لم يبين سبب ضعفه
وحينئذ ينظر فيه هل هو قادح أم لا وهذا إنما يحتاج إليه عند الاختلاف في توثيق
الرجل وتضعيفه وأما إذا اتفق أئمة الحديث على تضعيف رجل لم يحتج إلى ذكر سبب ضعفه
هذا أولى ما يقال في مسألة التضعيف المطلق ))
وبهذا يظهر لنا: أن الجرح والتعديل إذا كانا مبهمين
فالتعديل يقدَّم.
وإذا تعارض الجرح المفسر مع التعديل المبهم؛ فإن الجرح المفسَّر المؤثر
يقدم على التعديل.
ويستثنى من ذلك: ما لو اطلع المعدل على سبب الجارح وذكر أنه
ليس بمؤثر, أو يقول: تاب منه؛ فهنا يقدم قول المعدِّل.
قال السخاوي في فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (2/ 35): (( أما إذا قال
المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه وحسنت توبته ; فإنه يقدم
المعدل ...))
وأما من يعتبر قوله في هذا الباب, فهو العالم التقي
العارف بأسباب الجرح, المنصف, المتيقظ, المتحري, المتقن.
وأسباب الجرح هنا: ما تعلق بالبدعة, ومتى يكون الرجل مبتدعا, وهذا يستدعي معرفة دقيقة بمواطن الاتفاق في العقيدة بين السلف, ومواطن الاختلاف, كما يستدعي معرفة دقيقة بالفرق وأقوال كل فرقة وما تميزت به عن غيرها.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 10): (( فحق على المحدث أن يتورع
في ما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى
أن يصير العارف الذي يزكى نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن
هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف
والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان )).
وقال النووي في شرح النووي على مسلم (1/ 124): (( إنما يجوز الجرح لعارف
به مقبول القول فيه أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله
فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة كذا ذكره القاضي ))
ولا عبرة بقول من لم يكن معتبرا في هذا الباب.
قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 456): (( وإذا تعارض
معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقولُ البخاري، وأحمد، وابن المديني،
والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم تلتفت إلى سواهم )).
فالاعتبار وعدمه عُلق بأوصاف لا بأشخاص, وحصر ذلك في أشخاص
معينين دون غيرهم ممن انطبق عليهم الوصف: تحكم, لا دليل عليه.
ويجر إلى التعصب, وتقديس الأشخاص.
وليس كل من قيل فيه إنه من أهل الجرح والتعديل يكون كذلك, وإنما العبرة
بتحقق الوصف المنضبط المعتبر فيه.
وقد دخل في ذلك الهوى والتعصب.
نسأل الله العافية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق
النجار
20-6-1437هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق