الحمد لله وحده,
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن الأخطاء
في باب العقيدة أخطاء عظيمة لا يسوغ السكوت عنها؛ لعظم باب الاعتقاد, وعظم
المخالفة فيه.
ولذا كان من الواجب
بيان خطأ من أخطأ فيه كائنا من كان؛ انتصارا للحق, وذبا عن العقيدة, من غير أن
يلزم من ذلك أن يكون كل مخطئ في العقيدة مبتدع إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء
الموانع؛ وذلك فيما إذا كانت المسألة أصلا من أصول أهل السنة, على ما فصلت في ذلك
في كتابي:"تبصير الخلف بضابط الأصول التي من خالفها خرج عن منهج السلف".
وقد سمعت مقطعا
للدكتور عبد الله بن عبد الرحيم البخاري ينفي فيه كتابة الملائكة لما في قلوب
العباد, وخلط بين هذه المسألة ومسألة عدم علم الملائكة بالغيب المطلق, فظن الشيخ
أنهما مسألة واحدة, وليس الأمر كما ظن؛ للفرق المؤثر بين المسألتين.
ومما قاله الدكتور
البخاري في التسجيل لما سئل هل الملائكة ستعلم أعمال القلوب من حسد وغل وإخلاص: ( لا يمكن إطلاق هذا؛ لأن هذا أمر مخصوص
بالله؛ لقوله جل وعلا: [يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور]
...فيعلمون مما علمهم الله ويسر لهم معرفته
فلا يعلمون إلا ما
علمهم الله
[يعلمون ما تفعلون] والفعل
لا يكون مما حدثت به النفس, كما في الحديث الصحيح ما لم تقل أو تعمل
...أما ما حدثت به
النفس فهذا من اختصاص الله, ولا يمكن أن يعلموا إلا ما علمهم الله إياه
ولا يمكن أن يكون إلا
بعد أن يصدر من العبد, وإلا فهذا من علم الغيب ... )
والرد المختصر من
وجوه:
الوجه الأول: لا نسلم أن الملائكة لا يعلمون ما في قلوب
العباد قبل العمل, وأن ذلك من علم الغيب المخصوص بالله.
والشيخ لم يقم الدليل
على أن ذلك من الغيب المخصوص, فيكون قوله عاريا عن الدليل.
الوجه الثاني: على التسليم بأنه غيب, إلا أنه غيب نسبي,
لا غيب مطلق.
ولا يلزم من كونه
غيبا على الإنسان أن يكون غيبا على غيره كالملائكة؛ لاختلاف الحقائق, وما أقدر الله
كل جنس, فليس كل ما يكون غيبا على الإنسان يكون غيبا على غيره.
والغيب الذي لا يعلمه
إلا الله هو الغيب المطلق على الخلق كلهم, لا النسبي.
وهو الذي قال الله
فيه[قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله] والاستثناء هنا متصل لا
منقطع.
قال ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (16/ 110): (( والغيب المقيد: ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن
أو الإنس وشهدوه, فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هو غيبا عمن شهده .
والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا, فيكون
غيبا مقيدا, أي: غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين, لا عمن شهده ليس غيبا مطلقا غاب
عن المخلوقين قاطبة ))
الوجه الثالث: النقض؛ وذلك أن قول الدكتور البخاري يحتمل
ما يأتي:
1-
ما سكن في القلب وكان عملا من أعماله, كالحب, والبغض,
والحسد, والعجب.
2-
ما سكن في القلب وكان عملا من أعمال
الجوارح.
3-
ما خطر على القلب من غير أن يساكنه, ويعقد عليه
قلبه, كالوساوس.
فأما الاحتمال الأول
والثاني؛ فمنقوضان بكتابة
الملك لما هم به الإنسان, فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها
كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات
إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة
كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» رواه البخاري ومسلم.
فالملك يطلع على ما
في قلب العبد.
يدل عليه أيضا: ما جاء عن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن
يعمل سيئة وهو أبصر به, فقال: أرقبوه, فإن عملها فاكتبوها )) أخرجه مسلم
وهذا نصٌّ في الباب.
قال أبو جعفر الطحاوي:
(( في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها, خلافا لمن قال:
إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة )) شرح النووي على مسلم (2/ 152)
وأما الاحتمال الثالث؛ فمنقوض بقوله تعالى: [ولقد خلقنا الإنسان
ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ]
قال ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (5/ 235): (( فإنه سبحانه هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد, كما
ثبت في الصحيحين : { إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها قال الله لملائكته : اكتبوها
له حسنة فإن عملها قال : اكتبوها له عشر حسنات وإذا هم بسيئة }إلى آخر الحديث .
فالملائكة يعلمون ما
يهم به من حسنة وسيئة و " الهم " إنما يكون في النفس قبل العمل ))
ومنقوض أيضا: ما جاء عن ابن مسعود: (( إن للملك لمة، وإن
للشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله، ولمة
الشيطان إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله )) أخرجه أبو داوود
في الزهد.
قال ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (4/ 253) جوابا على سؤال:" عن قوله صلى الله عليه وسلم { إذا هم
العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة } الحديث . فإذا كان الهم سرا بين العبد
وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه ؟ " : (( قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب
هذه المسألة قال : { إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة وإذا هم بسيئة شم رائحة
خبيثة} .
والتحقيق : أن الله
قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء, كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر
على ما في الإنسان .
فإذا كان بعض البشر
قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان : فالملك الموكل
بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك .
وقد قيل في قوله
تعالى { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } أن المراد به الملائكة : والله قد جعل
الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله ابن مسعود: إن للملك لمة
فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإبعاد بالشر. وقد
ثبت عنه في الصحيح: أنه قال: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة
وقرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله ؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني
عليه فلا يأمرني إلا بخير}.
فالسيئة التي يهم بها
العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان علم بها الشيطان، والحسنة التي يهم بها العبد إذا
كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضا بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك
أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم ))
فما تقدم تخلف فيه
عدم علم الملائكة مع وجود الدليل وهو كونه غيبا, لكن كما تقدم ليس غيبا مطلق.
الوجه الرابع: القلب,
وذلك في قوله تعالى: [كراما
كاتبين يعلمون ما تفعلون ) فـ"ما" موصولة تفيد العموم, أي: كل ما
تفعلون, والفعل يدخل فيه: القول والعمل, والقول يدخل فيه: قول القلب واللسان.
فالفعل أعم من العمل
على الراجح.
قال البغوي في تفسيره(8/
357): (( {كراما} على الله {كاتبين}
يكتبون أقوالكم وأعمالكم. {يعلمون ما تفعلون} من خير أو شر )).
وقال ابن أبي العز في
شرح الطحاوية (2/ 561): (( ... ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول
والفعل, وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم [يعلمون ما تفعلون] )).
وقال السفاريني في لوامع
الأنوار البهية (1/ 450): (( وظاهر النص: أنهما يكتبان أفعال العباد من خير، أو
شر، أو غيرهما، قولا كان أو عملا أو اعتقادا، هما كانت أو عزما أو تقريرا، فلا
يهملان من أفعال العباد شيئا في كل حال وعلى كل حال )).
وهذا فيه رد على قول
الدكتور:" والفعل لا
يكون مما حدثت به النفس ..."
ولاشك أن علمهم بما
في القلب يكون بإقدار الله
لهم, وبما يهيئه من أسباب.
أما استدلال الدكتور بقوله تعالى: [يعلم خائنة الأعين وما تخفي
الصدور], ومعنى ما تخفي الصدور, أي: تكنه وتبطنه؛ فليس فيه حجة على ما ذكره؛ لأن كونه
جل وعلا يعلم ما تخفيه صدور العباد لا ينفي علم الملائكة بها؛ لأنه إثبات,
والإثبات لا يمنع المشاركة, ولما دلت عليه النصوص الأخرى المتقدمة.
وأما حديث :" إن
الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل"؛ فهذا في
المؤاخذة, لا في علم الملائكة.
وصلى الله على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار