مفهوم حديث:
[أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر]
(الخلاصة: هذا الحديث يحتج
به على من أنكر على الحاكم الجائر أمامه وهو يسمعه وإن كان في حضور الناس مع غلبة
ظنه أنه سيقتله أو يعذبه فيكون فعله هذا أفضل الجهاد؛ لأنه لا يستطيع أن يمنع
الحاكم من قتله ومع ذلك يقول كلمة الحق ويبذل نفسه لها, ولا يحتج به على صحة فعل من ينكر
على الحاكم وهو لا يدري به ولا يسمع كلامه وإنما يهيج الشعب فقط)
والتفصيل:
هذا الحديث أخرجه أحمد
بلفظ: [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر]
وأخرجه أبو داود بلفظ: «أفضل
الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، أو أمير جائر»
وأخرجه الترمذي بلفظ: [إن
من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر]
واختلف في تصحيحه وتضعيفه,
ولن أخوض في سنده, وإنما سيكون الحديث عن دلالته؛ لأن المعنى له ما يشهد له
ويعضده.
1-قوله: "أفضل"
من صيغ التفضيل التي تُحمل في الأصل على ظاهرها فتقتضي الأفضلية المطلقة, فلا جهاد
أفضل من كلمة عدل عند سلطان جائر, فهو أعظم الجهاد على الإطلاق إلا أن لفظ الترمذي
الذي فيه إدخال لفظ "من" التبعيضية على صيغة التفضيل تمنع من حصر
الأفضلية في ذلك, أو يقال بالأفضلية المطلقة في الجهاد مع مراعاة المعنى الذي
لأجله هذا الفضل, كما سيأتي.
وكونه "أفضل" أو
"من أعظم" له علة سيأتي الحديث عنها.
ولا يفهم من قوله أفضل:
وجوبها, وإنما الذي يفهم بيان منزلة كلمة الحق عند سلطان جائر, وأما الوجوب فمداره
على الاستطاعة وأمن العقاب بما لا قبل للإنسان به, قال ابن مسعود: (يوشك من عاش منكم
أن يرى منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره).[ جامع العلوم والحكم
(2/ 245)]
فالخوف على النفس مسقط
لوجوب الإنكار, قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟
قال: إن خفت أن يقتلك، فلا، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، وقال:
إن كنت لا بد فاعلا، ففيما بينك وبينه.
وقال طاوس: أتى رجل ابن عباس،
فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة. [جامع العلوم والحكم
(2/ 248)]
بل ذهب بعض العلماء إلى ما
هو أبعد من ذلك –وهو الذي تقتضيه الأصول- أنه لو خشي من الإنكار الضرر العام على
المسلمين فإنه يجب عدم الإنكار, قال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/
224): ( لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر، وإن خشي على نفسه فله الإنكار، ولكن
يسقط الوجوب)
2-الجهاد كلمة شرعية
تحمل على الحقيقة الشرعية, وهو الجهاد الذي يكون لإعلاء كلمة الله.
3-قوله: "كلمة
عدل" وفي لفظ" كلمة حق" قيدت الكلمة بكونها عدلا وحقا, فليس كل
كلمة تكون من أفضل الجهاد وإنما يجب أن تكون عدلا وحقا, وكون الكلمة حقا وعدلا
يعرفها العالم الراسخ في العلم خصوصا فيما بتعلق بالأمر العام؛ لأن ما يتعلق
بمصلحة الرعية من دقيق العلم؛ لتعلقه بالمصالح والمفاسد, وربما يكون الأمر كله
مفاسد فيحتاج إلى نظر مقاصدي كلي في احتمال أدنى المفسدتين.
فيتبين لنا أن الإنكار على
الحاكم الجائر عنده لا يكون أفضل الجهاد إلا إذا كانت الكلمة الموجهة إليه حقا
وعدلا.
4-قوله: "عند" ظرف
مكتن تفيد اتحاد المكان وسماع الكلمة, فهي عندية مكانية, وتقييد كلمة العدل والحق
عند السلطان الجائر؛ منعا من إفضاء الإنكار إلى منكر أعظم وفساد أكبر, فالشرع ينظر
إلى مآلات الفعل ويعتبره.
وهذه العندية مؤثرة في
الفضل الوارد في أول الحديث وهو: "أفضل الجهاد"؛ لأن كونه عنده مظنة
قتله وتعرضه للتلف, فهو إنما كان أفضل الجهاد لغلبة الخوف, وهذا لا يتحقق فيما إذا
لم يكن عنده, فقد أخرج الطبراني والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر،
فنهاه وأمره، فقتله»؛ مما يدلل أيضا على العندية المكانية والسماع.
وهذا ما وقع من نصح بعض
الصحابة على أمرائهم, عن طارق بن شهاب - وهذا حديث أبى بكر
- قال أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل
الخطبة. فقال قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ». أخرجه مسلم
فهذا الرجل أسقط على نفسه الواجب فأنكر, لكن أمام
الحاكم, فهذا قيد مهم.
وعن سعيد بن جمهان قال لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو
محجوب البصر فسلمت عليه قال لي من أنت فقلت أنا سعيد بن جمهان قال فما فعل والدك قال
قلت قتلته الأزارقة قال لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنهم كلاب النار قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها قال بلى الخوارج
كلها قال قلت فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم قال فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة
ثم قال ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان
يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه أخرجه أحمد
فلا يصح الاستدلال بالحديث
على من أنكر على الحاكم وهو ليس عنده, لاختلاف المعنى.
قال الخطابي في معالم السنن
(4/ 350): ( إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو وكان متردداً بين رجاء وخوف
لا يدري هل يغلب أو يغلب؟, وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف
فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف والله
أعلم).
وقال العز بن عبد السلام
في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 111): (جعلها أفضل الجهاد لأن قائلها قد جاد
بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون
بذله نفسه مع تجويز سلامتها، كبذل المنكر نفسه مع يأسه من السلامة).
5-قوله: "سلطان
جائر" وفي لفظ "أمير جائر": وصف السلطان والأمير بالجائر؛ لأن
الجائر مظنة الفتك بالناصح وقتله, والناصح لا يستطيع أن يدافع عن نفسه كما يدافع
من كان يجاهد في المعركة, ولذا جعله من أفضل الجهاد, كما تقدم
وفيه إقرار السلطان على
سلطانه وتسميته أميرا وسلطانا مع جوره وظلمه؛ نظرا لمنع المفاسد الكبرى, سواء كان
الظلم خاصا أو عاما.
وأخيرا: هذا الحديث يدل
على أن منزلة الناصح للحاكم الجائر عنده مع تحقق الخوف أو غلبة الظن على أنه
سيقتله منزلة الشهداء, قال الحسن: (هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء)
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق