توحيد الحاكمية ...
القصة الكاملة مع التيار الجهادي التكفيري المنفلت
إن لنشأة هذا المصطلح مع
ما يحمله من معنى فاسد علاقة وطيدة بسوء فهم النصوص الشرعية, والتأثر التام بما
حمله الواقع من اضطهاد وتعذيب وسجون مع طغيان الاستبداد وفشو التأثر بالعلمانية
الديمقراطية الكافرة ...
فأرضية هذا المصطلح بذاك
الفهم: العاطفة والجهل بحقيقة الإسلام مع وجود الظلم والطغيان..
ولذا ترى عامة المنتسبين
إلى هذا التيار تحركهم العاطفة للإسلام وظهوره وقيام الخلافة الراشدة مع ما هم فيه
من جهل عظيم وعدم معرفة بالحقائق الشرعية...
وأما متعلموهم فرأس أمرهم:
التمسك بالمتشابهات وما أطلقته النصوص الشرعية, وما احتمله كلام الأئمة المشهود
لهم بالإمامة ..
ولذا لا تجد فيهم راسخا في
العلم متبعا للأثر, ويذكرني هذا بمناظرة ابن عباس رضي الله عنهم للخوارج لما قال
لهم: (أتيتُكُم من عند أصحابِ النبيِّ rالمهاجرين
والأنصار, ومن عندِ ابنِ عمِّ النبيِّ rوصهرِه,
وعليهم نزل القرآن, فهم أعلمُ بتأويله منكم,
وليس فيكم منهم أحد...) ([1]).
لما تغلغل هذ الفكر الذي
يقوم على الخلل في تفسير كلمة التوحيد, والفهم الخاطئ للألوهية حصل معه ما لا يحمد
عقباه, وما جر الويلات على المسلمين...
فصل: [توحيد الحاكمية
وقيامه على الخلل في فهم كلمة التوحيد وما نتج عن ذلك]
قام توحيد الحاكمية على
تفسير كلمة التوحيد بـ: لا حاكم إلا الله ولا مشرع إلا الله..
وأنه لا فرق معنى وجوهرا
بين الألوهية والحاكمية...
وأن مطلق الحكم بغير ما
أنزل الله كفر أكبر مخرج من الملة...
قال أبو الأعلى المودودي: « فخلاصة القول أن أصل
الألوهية وجوهرها هو: السلطة, سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا
العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع
لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان »([2])
وقال: « ... أن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم
الأخرى وأنه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح »([3])
ونتج عن ذلك: التوقف في المسلم الذي ينطق
الشهادتين, وجعلوا ديار المسلمين ديار كفر, وأنه ليس هناك جماعة ولا إمام.
وحكموا على البشرية بالردة, قال سيد قطب: « لقد
استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله, فقد ارتدت
البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان, ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل
فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني
هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد
لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب.
فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن
البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص
الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على
المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع..
وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من
بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!.. »([4])
وتلقف ذلك المصري سيد إمام فصار هو المنظر الأشهر
الأبرز في الوقت الحالي...
لما خالط هذا الفكر شغاف قلوبهم وتغلغل في أعماق
صدورهم, وظنوا أنه الإسلام الحقيقي: كونوا جماعات عرفت بالجماعات الجهادية ,
والقاعدة وأخيرا داعش, وبدءوا في أعمالهم التفجيرية والتخريبية الذي ظنوه جهادا في
سبيل الله بعد أن كفروا المجتمعات الإسلامية وكل من يعمل أو رضي بالنظام من أفراد
الشرطة وغيرهم, واعتبروا تلك الديار ديار كفر؛ لمناقضتها "لا إله إلا
الله" التي تعني توحيد الحاكمية.
فهؤلاء وإن كانوا يعترفون أن منهجهم بني على كتب
المودودي وسيد قطب, كما قال الظواهري في جريدة الشرق الأوسط: (إن سيد قطب هو الذي
وضع دستور الجهاديين في كتابه الديناميت معالم في الطريق ..)
وقال أبو مصعب السوري في دعوة المقاومة الإسلامية:
(إن المدرسة الفكرية لتنظيم الجهاد بدأت بمكتبة سيد قطب, والتي تضم أساسيات الفكر
الجهادي المعاصر)
إلا أنهم حاولوا إلصاق منهجهم بعلماء لهم مكانتهم
في العالم الإسلامي كابن تيمية وابن كثير وغيرهما, فأخذوا من مطلقات كلامهم ما
حملوه على منهجهم من غير نظر إلى سياقه ولا إلى أصول قائله وما يفسر كلمة التوحيد
به.
وأضرب لذلك مثالا؛ ليتضح ما وراءه:
قال ابن كثير: «وقوله: ﴿ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ﴾ [المائدة: ٥٠] يُنكر تعالى على من خرج عن
حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل، إلى ما سواه من الآراء
والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل
الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما
يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم
(اليساق)، وهو: عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من
اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره
وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على
الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ومن فعل ذلك منهم فهو كافر
يجب قتاله»([5]).
فابن كثير لم
يطلق كلامه، وإنما قيده بقيدين:
الأول: أنهم جعلوها شرعًا متَّبَعًا.
الثاني: يقدمونها على الكتاب والسنة.
وهذا يدل على تجويزهم الحكم
بغير ما أنزل الله، وأنه شرعٌ مُتَّبَع، وهذا راجع إلى مسألة الاستحلال، والتبديل،
وكذلك التفضيل.
ومن نظر إلى حال التتار فَهِم
مقصود ابن كثير, قال ابن تيمية: «اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان
عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله، من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح»([6]).
هذا قبل إسلامهم،
وأما بعد دعوى إسلامهم فقد قال ابن تيمية: «فهذا وأمثاله من مقدَّميهم كان غايته بعد
الإسلام أن يجعل محمدًا ﷺ بمنزلة هذا الملعون -يعني: جنكسخان-»([7]).
وقد بينت هذا
ونظيره في رسالتي المطبوعة: "الأصول الجامعة التي ترجع إليها مسألة الحكم
بغير ما أنزل الله"
ومما استندوا
عليه أيضا كلام بعض أهل العلم في التكفير باستبدال الشريعة بالقوانين الوضعية
ونحوه.
والملاحظ ابتداء
أن كلام هؤلاء العلماء في حكم خاص وليس في مطلق الحكم بغير ما أنزل الله, فالحكم
الذي جعله بعض علماء أهل السنة كفرا أكبر: ما كان مظنة التكذيب أو الامتناع وهو استبدال
الشريعة كلها ونحوه, فجعلوا هذا دليلا على التكذيب والامتناع, كما قال الشيخ صالح
الفوزان: (... لأن من نحى الشريعة وجعل القانون الوضعي بديلا منها فهذا دليل على
أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ...)
فليس عندهم خلل في
تفسير كلمة التوحيد, ولا بنوا كلامهم على تفسير خاطئ للألوهية
بخلاف المنهج المرتسم للجماعات الجهادية الذين
جعلوا مطلق الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أكبر؛ لمناقضته جوهر التوحيد وأصل
الألوهية وأعظم خصائصها, فمنطلق هؤلاء؛ تفسيرهم الخاطئ لكلمة التوحيد, والتصور
الضال للألوهية.
ومنطلق أولئك العلماء أنها مظنة الوقوع في الكفر
الأكبر, فمناط الكفر: التكذيب أو الامتناع, فأنزلوا المظنة مقام المئنة.
وإن كنت أخطئ هؤلاء العلماء في اعتمادهم على التكفير
بالقرينة والمظنة, ولا أراه مسلكا للسلف, على كلام يطول بينته في الرسالة المشار
إليها آنفا.
فاحتجاج من احتج من الجماعات التكفيرية ببعض علماء
أهل السنة؛ لموافقتهم لهم في بعض الفروع من غير تطابق الأصول: لا يجعل منهج هؤلاء
هو منهج أولئك, ولا يجعل بذور التكفير مأخوذة من هؤلاء العلماء, ولا من كتب ابن
تيمية وابن كثير والشنقيطي ...!
وإلا للزم أن يكون منهج أهل التكفير المنفلت منهج
القرآن؛ لاحتجاجهم بالمتشابهات منه.
وهنا ملحظ يجب التنبيه إليه وهو: أن من تأثر ببيئة
وعلماء قبل أن يدخل عليه المنهج التكفيري المنفلت حاول أن يستدل بإطلاقات معظميه
ومتشابه كلامهم, فمن نشأ في بيئة سلفية حاول أن يستدل بكلام بعض علمائها, ومن نشأ
في بيئة صوفية حاول أن يستدل بكلام بعض علمائها, وهكذا.
ولما كان غالب شباب الصحوة في الثمانينات وبعدها قد
تأثروا بابن تيمية وعلماء السلف حاولوا أن يشركوهم في هذا التيار الجهادي التكفيري
المنفلت.
ولا أنفي وجود غلو في بعض كتب أئمة الدعوة؛ لكن ليس
راجعا إلى خلل في تفسير كلمة التوحيد, ولا هو ينطلق من نفس أصول الجماعات الجهادية
التكفيرية, وليس هذا الموضع موضع بيانه, وإن كنت أشرت إليه في بعض رسائلي
المطبوعة.
هذه القصة أرويها كما أعرفها.
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار
([1]) –
أخرجه النسائي في السنن الكبرى باب ذكر مناظرة عبد الله بن عباس الحرورية
واحتجاجه فيما أنكروه على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t (7/479-480) والحاكم في
المستدرك (2/150) وقال: (( صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه )). وعبد الرزاق في
المصنف باب ما جاء في الحرورية (10/157) كلهم من طريق عكرمة بن عمار عن أبي زميل
به.
وعكرمة قال فيه ابن معين:(( صدوق ليس به
بأس )) . وقال النسائي:(( ليس به بأس إلا في حديثه عن يحيى بن أبي كثير )) تهذيب التهذيب (5/208-209)
وأما أبو زمُيل: فهو سماك بن الوليد قال
عنه أبو حاتم كما في الكاشف للذهبي (2/402):(( صدوق )) فيكون سنده حسنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق