حكم سفر المرأة بدون محرم
لمصلحة راجحة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فالأصل في سفر المرأة بدون محرم المنع؛ لدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم) أخرجه مسلم
فهذا الحديث معقول المعنى وله ظاهر, فمنطوقه النهي
عن سفر المرأة بدون محرم, ومفهومه جواز سفرها بمحرم, والمعنى المعقول: هو الحفاظ
على عرض المرأة, والأمن على نفسها من وقوعها في الفتنة.
وإذا كان معقول المعنى, فالأصل أن يلتفت إلى
المعاني والمقاصد مع عدم إهمال ظاهر النص.
قال النووي في شرحه على مسلم (5/ 24): (وإنما حرم الشرع
مسافرة المرأة وحدها؛ لأن السفر مظنة الطمع فيها وانقطاع ناصرها والذاب عنها وبعدها
منه)
وهذا المعنى وجوده في الزمن الأول ظاهر, إلا أنه
ضعف وجوده في زمننا في كثير من أحواله, ومع ذلك لا يصح الإقدام على مظنته وهي السفر
بدون محرم بالنظر إلى الحكمة؛ لعدم انضباطها, إلا إذا رجحت مصلحة السفر على
المفسدة وأمنت المفسدة, كما سيأتي
تقريره.
ومما يدل على أنه معقول المعنى ما جا في البخاري
قال: وقال لي أحمد بن محمد هو
الأزرقي: حدثنا إبراهيم، عن أبيه، عن جده، «أذن عمر رضي الله عنه، لأزواج النبي
صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن
عوف»
وكان ابن عمر يحج معه نسوة
من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصرى. [انظر: شرح صحيح
البخارى لابن بطال (4/ 532)]
فهنا روعي أمن الفتنة
بوجود الرفقة المأمونة.
ولسفر المرآة بدون محرم صور تختلف باختلاف تحقيق
مقصد الشارع من الحفاظ على العرض وتحقق أمن الفتنة وبالنظر إلى ما يعارض المنع من
المصلحة الراجحة على المفسدة التي يخشى منها في السفر.
ولما كان السفر يرجع إلى المصالح الحاجية كان لابد
أن نراعي في المنع مقصد التيسير
ورفع الحرج, ونراعي أيضا عدم تفويت المصلحة الراجحة.
وعليه فيحمل المنع على الصور التي تكون فيها مفسدة وليس فيها مصلحة راجحة, ولا يتحقق معها مقصد رفع
الحرج.
والسفر له صور بحسب متعلقه, فمنه ما يتعلق بواجب, ومنه ما يتعلق
بمباح.
فما تعلق منه بواجب حتى يصبح
السفر في نفسه واجبا كسفر المهاجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام يكون سفر
المرأة بدون محرم جائزا وهو محل إجماع.
وأما إذا تعلق بواجب من
غير أن يتعين السفر واجبا كالحج, فسفرها بدون محرم محل اجتهاد, وقد جوزه المالكية
قياسا على الصورة الأولى, وعدوا الجواز إلى كل سفر واجب. [انظر: مواهب الجليل (3\490)]
والأقرب: أن نحمل منع سفر
المرأة في الحج ونحوه بدون محرم على وجود محرم يمكن أن يسافر معها, أو عند عدم أمن
الفتنة؛ لأن المحافظة على مقصد حفظ العرض أقوى,
وأما مع أمنها عن نفسها
بوجود رفقة مأمونة وتعذر سفر المحرم معها فالمصلحة الراجحة في جواز حجها مع رفقة
مأمونة حتى لا تفوت على نفسها الواجب؛ إذ إن مصلحة إدراك الواجب أعظم من مراعاة
مظنة المفسدة.
وقد أذن عمر رضي الله عنه،
لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان، وعبد
الرحمن بن عوف.
وأما إذا تعلق السفر بمباح
مع أمن الفتنة والطريق بوجود رفقة مأمونة فالأصل هو المنع؛ لظاهر النص
إلا أنه يجوز الخروج عن
الأصل بالنظر إلى كون مصلحة سفرها راجحة ومتعدية النفع وتفوت بفوات سفرها ولا يمكن
تحققها إلا بالسفر, كسفر الطبيبة لأخذ خبرة من الخارج لا يمكن تحصيلها إلا بالسفر,
أو لعلاج لا يتأتى في البلد, أو لدراسة يحتاج إليها.
فهنا والحال هذه يجوز لها
أن تسافر بدون محرم بعد إذن وليها؛ لأن ما حرم لغيره أبيح للمصلحة الراجحة, وما
نهي عنه؛ سدا للذريعة يباح للمصلحة التي
لا تحصل إلا به.
وأما إذا كانت مصلحته
مرجوحة, فيقوى الأصل وهو المنع.
قال ابن مفلح عن أبي
العباس ابن تيمية في الفروع وتصحيح الفروع (5/ 245): ( وعند شيخنا: تحج كل امرأة آمنة
مع عدم المحرم, وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة, كذا قال, ونقله الكرابيسي عن الشافعي
في حجة التطوع, وقاله بعض أصحابه فيه وفي كل سفر غير واجب, كزيارة وتجارة, وقاله الباجي
المالكي في كبيرة غير مشتهاة)
ولما حكى الحافظ ابن حجر
في فتح الباري (4/ 76) قول البغوي: لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض
إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت... إلى
أن قال الحافظ: وأغرب القفال فطرده في الأسفار كلها, واستحسنه الروياني قال: إلا
أنه خلاف النص, قلت: وهو يعكر على نفي الاختلاف الذي نقله البغوي آنفا .
كتبه: أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق