الجمعة، 17 مايو 2024

تقييد قاعدة حمل الكلام على أحسن المحامل

 مسألة توجيه كلام المتكلم على محمل حسن حصل فيها خلط بين مقامين:

الأول: مقام الكلام من حيث هو كلام

الثاتي: مقام مراد المتكلم ومقصوده 


فالمقام الأول ينظر فيه إلى اللفظ من حيث استعماله وظاهره، فإن كان اللفظ ظاهرا في الفساد فإنه يُغَلَّط بغض النظر عن مقصود المتكلم

والإجمال بمعناه العام الذي يقع في الكلام قد يكون موهما بحيث إنه يحتمل احتمالين، وقد يكون ظاهر الغلط

وعلى كلا الأمرين يغلط الكلام نفسه، ويذم سلوكه، وإنما يغلط الكلام؛ سدا للباب، لاسيما ما تعلق منه بالتوحيد.

وعلى هذا قامت عقائد أهل الحديث-أهل السنة والجماعة-

قال الإمام أحمد كما في رواية أبي طالب: (من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع)

فغلط الإطلاق نفيا وإثباتا؛ لأنه موهم، وحفاظا لجناب التوحيد.


وأما المقام الثاني فهو المتعلق بالمراد والمقصود، فالكلام لا ينسب إلى القائل إلا على الوجه الذي قصده وكان مرادا له

لاسيما في باب التكفير والتفسيق

ويظهر مراد القائل بالنظر إلى أصوله ومفصل كلامه في المسألة نفسها

فقد جاء في «مسائل ابن هانئ»(2/193/2046)، قال: وسئل -أي أحمد- عن قول شعبة: «إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة»؟ فقال: لعل شعبة كان يصوم، فإذا طلب الحديث، وسعى فيه؛ يضعف فلا يصوم، أو يريد شيئًا من الأعمال، أعمال البر، فلا يقدر أن يفعله للطلب؛ فهذا معناه»

وقال ابن تيمية في (2/640) قال: «لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن عُلم إيمانه؛ لم يُحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة، فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المعنى الصحيح؟!» 


ولما حكم بعضهم على ابن حبان بالزندقة لأنه قال: النبوة العلم والعمل 

قال الذهبي في السير(16/95-96): «قلت: هذه حكاية غريبة، وابن حبان فَمِنْ كبار الأئمة، ولسنا ندَّعي فيه العصمة من الخطأ،لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها؛ لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر...)

ففرق الذهبي بين مقام تغليط الكلام ومقام الاعتذار للقائل بحمل كلامه على مقتضى أصوله.

ولا يلزم من هذا المقام تصحيح المقام الأول. 


وينبغي التنبيه هنا إلى أنه لا يصح الانطلاق من مسألة حمل الكلام على أحسن المحامل إلى تصحيح القول وحمله على المحمل الحسن الذي يخالف أصول القائل ومراده

وقد يكون للمتكلم كلام يحتمل ويكون له كلام مفصل حسن لكن يظهر من كلامه الغلط أو المحتمل أنه يريد المعنى السيء فهنا لا يحمل كلامه على أحسن المحامل؛ لظهور مراده، ويكون ذلك رجوعا منه عن الكلام المفصل الحسن.

وإذا كان للكلام ظاهر فاسد، لكن المتكلم يحتمل أن يقصده ويحتمل ألا يكون مقصودا له، ولا دلالة على واحد من الأمرين حمل الكلام على ظاهره الفاسد. 


كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق