الأحد، 31 أغسطس 2025

مناقشة دعوى الشريف حاتم العوني في اعتبار الاحتفال بالمولد من المصالح المرسلة

 

انتشر كلام الشريف حاتم العوني في تقريره أن الاحتفال بالمولد النبوي يمكن اعتباره من باب المصالح المرسلة إذا كان لمجرد التذكير بالسيرة النبوية، وإذكاء محبة النبي ﷺ في القلوب، دون اعتقاد فضيلة خاصة ليوم المولد.
وقد وجد هذا الرأي قبولًا عند بعض من كان يعتقد بدعية الاحتفال، بسبب ضعف تأصيلهم الأصولي.

قال العوني:"صورة يكون فيها المولد من المصالح المرسلة، وذلك إذا كان بقصد استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل، للتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم، أو لإذكاء جذوة محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب، من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم، تجيز تخصيصه بعبادة أو باعتقاد لا دليل عليه".

والرد على هذه الدعوى من أوجه:

أولًا: هناك تشابه بين المصلحة المرسلة و البدعة الإضافية من بعض الوجوه، وهو ما قد يوقع في الخلط ويستغله بعض الناس لتمرير البدع والتلبيس على العامة.
ولذا لابد من ييان الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة:

• المصلحة المرسلة: هي المنفعة التي لم يشهد الشرع باعتبار عينها ولا بإلغائها، لكن جنسها ملائم لتصرفات الشريعة، وقد اعتبره الشارع في الجملة، ولم يرد دليل خاص يصادمه في عين المسألة.
• فمثلا جمع القرآن، المنفعة منه وهي حفظ القرآن   وصيانته اعتبرها الله في الأحكام الشرعية، إلا أنه لم يرد دليل خاص على اغتبارها في جمع القرآن، واعتبارها في ذات الجمع ليس هناك دليل يصادمه  ويمنع من اعتبارها فكان جمع القرآن من المصالح المرسلة  وكذاك تأليف الكتب وبناء المدارس والمسابقات الشرعية ووو

• وأما البدعة: فهي ما أُحدث في الدين مما لم يأت به النبي ﷺ، سواء قصد به التعبد مباشرة، أو جُعل طريقًا يضاهي الطريقة الشرعية.
• وليست البدعة خاصة بما يقصد به التقرب والتعبد كما يتصور بعضهم!!!

أوجه التشابه بين المصلحة النرسلة والبدعة:

• كلاهما أمر محدث.
• أن جنس الوصف فيهما قد اعتبره الشارع.

أوجه الافتراق:

• المصلحة المرسلة لا تعارض دليلا شرعيًا خاصًا، بخلاف البدعة فإنها تصادم الشرع وتعارض دليلاً خاصًا. قال ابن تيمية في "المجموع":"المصالح المرسلة: أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه".

• في البدع: عدم الفعل مقصود شرعًا، أما في المصالح المرسلة فالأمر على العكس.

• المصالح المرسلة وسيلة لحفظ مقصد من مقاصد الشارع، وضروري من الضرورات الخمس، بخلاف البدع فهي إحداث في الدين وهي تؤدي إلى هدم الدين.

تطبيق هذا على الاحتفال بالمولد:

• لا شك أن جنس المنفعة معتبر: محبة النبي ﷺ والتذكير بسيرته والاقتداء به.

• لكن اعتبار هذه المنفعة في عين الاحتفال بالمولد يصادمه دليل خاص، وهو:
• ترك النبي ﷺ للاحتفال مع قيام المقتضي وزوال المانع.
• ترك الصحابة لذلك، مما يعد إجماعًا منهم.
وهذا يدل على أن الاحتفال معارض للدليل الخاص، فيخرج من كونه مصلحة مرسلة إلى كونه بدعة محدثة.

وهناك أوجه مصادمة أخرى للشرع:

• أن المشروع في يوم الاثنين هو الصيام، لا اتخاذه يوم احتفال. فترك المشروع والانشغال بغيره مخالفة للشرع.

• جعل المولد احتفالًا متكررًا على جهة التعظيم يجعله في معنى العيد، والعيد شريعة توقيفية تحتاج إلى دليل خاص.

• التزام الناس بالاحتفال لما اعتقدوا فيه من "المصلحة" هو في حقيقته التزام بما لم يشرعه الله، فيفتح باب البدع.

والخلاصة:
• الاحتفال بالمولد ليس وسيلة شرعية صحيحة لمقصد شرعي معتبر، بل هو إحداث في الدين.

• ولو سلّمنا جدلًا أن فيه مصلحة (كتذكير السيرة والمحبة)، فإن فيه مفسدة راجحة، وهي:

• الابتداع في الدين، ولازمه اتهام النبي ﷺ بأنه لم يبلّغ هذه "المصلحة".

• فتح باب الغلو فيه ﷺ بما يرفعه فوق منزلته.

ودفع المفاسد الراجحة مقدم على جلب المصالح، فكيف إذا كانت هذه المصلحة موهومة أصلاً؟

وأخيرا:
يتضح مما سبق أن تنزيل العوني للمصلحة المرسلة على الاحتفال بالمولد غير صحيح؛ لأنه لم يراع القيود والضوابط الأصولية. والخلل في التصور أنتج خللاً في الحكم، فكان قوله خطأً ظاهرًا.

وقد سبق أن ناقشت شبهات أخرى لأصحاب القول بجواز الاحتفال بالمولد في مقال مستقل منشور على الشبكة، ولم نعرض هنا إلا واحدة من جهات الخطأ في تقرير العوني، مع أن وجوه بدعية الاحتفال بالمولد كثيرة.

✍️ كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

الجمعة، 29 أغسطس 2025

مناقشة كلام د #سعيد_الكملي في تجويز #الاحتفال_بالمولد عبر تدريس السيرة والتذكير بها

مناقشة كلام د  #سعيد_الكملي في تجويز #الاحتفال_بالمولد عبر تدريس السيرة والتذكير بها


قال د. سعيد الكملي: (نقول: ما موضوع الاحتفال؟ وبأي شيء يُحتفل؟

فإذا كان الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم بأن تُدرس سيرته، ويُذكَّر بأيامه، ويُنشر دينه، ويُدعى غير المسلمين إلى الإسلام وفق دعوته وما يرضاه هو صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا، فهذا احتفال حسن.

وأما إذا كان الاحتفال مشتملًا على ما يسخطه صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يُحتفل بالنبي صلى الله عليه وسلم بما يبغضه).


#المناقشة:


#أولًا: انطلق الشيخ من مقدمة غير مسلَّمة، وهي أن *الاحتفال بالمولد في أصله مشروع أو مباح*، ثم بنى حكمه على مضمون الاحتفال: هل هو على وفق الشرع أو لا؟

بينما البحث الصحيح يجب أن يبدأ من *أصل مشروعية الفعل نفسه*: هل الاحتفال بالمولد –من حيث هو– ثابت في الشرع أو أنه من جنس البدع المحدثة؟

فإذا لم يثبت أصل المشروعية، سقط التفريع على الكيفية أو الموضوع.


# ثانيًا: مناط البدعة في المولد

الاحتفال بالمولد قائم على *تخصيص زمن معين للتعظيم والعبادة*، وهذا التخصيص من خصائص التشريع التي لا تكون إلا لله تعالى.

ولا فرق في هذا بين أن يكون موضوع الاحتفال *ذكر السيرة النبوية* أو غيرها من الموضوعات، لأن حقيقة البدعة تكمن في تخصيص زمن للتعبد أو التذكير دون دليل شرعي.


* نكتة المسألة: أن تخصيص هذا اليوم مظنة اعتقاد أنه أفضل من غيره، وأن ذكر السيرة فيه أفضل من ذكرها في سائر الأيام.

* والمعلوم أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على فضل الشهر أو اليوم بذاته. ولو سلمنا جدلًا بفضل الزمن، فهذا لا يستلزم فضل العمل فيه.


إذن: التخصيص بذاته هو عين المحظور، مهما كان موضوع الاحتفال.


#ثالثًا: شبهة التذكير بالسيرة


لو قيل: الباعث هو **التذكير والمحبة**.

قيل: التذكير بالسيرة مشروع في كل وقت، ولا يحتاج إلى تخصيص يوم بعينه. بل التخصيص يناقض هذا المقصد، لأنه يربط الذكرى بزمن مخصوص، فيُفهم منه التعظيم أو الموافقة لأهل الاعتقاد الفاسد.


وإذا قيل: المناسبة تدعو للتذكير.

فالجواب: المناسبات ليست سببًا شرعيًا للتخصيص، لأن التخصيص المتكرر ينشأ منه اعتقاد الفضل، وهو مفسدة عظيمة.


#رابعًا: الموازنة بين المصلحة والمفسدة


قد يُقال: فيه مصلحة التذكير بالسيرة وإذكاء المحبة.

فنقول: هذه المصلحة –إن وُجدت– تقابلها مفسدة عظيمة، وهي:


* الابتداع في الدين.

* اعتقاد الفضل في غير ما فضل الله.

* فتح باب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم.

* اتهام النبي صلى الله عليه وسلم –بلازم القول– بأنه كتم شيئًا من الدين ولم يبلّغه.


وهذه المفسدة أرجح من المصلحة المتوهمة، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فكيف إذا كانت المصلحة موهومة أصلًا؟


#الخلاصة


الاحتفال بالمولد –مهما كان مضمونه– هو في حقيقته **بدعة محدثة**، والتقرب إلى الله بها مما **يسخط الرب ويغضب النبي صلى الله عليه وسلم**، لأنه لم يشرعها لأمته ولم يرضها لهم.


---


✍️ د. أحمد محمد الصادق النجار 


---

http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/blog-post_29.html

الأربعاء، 27 أغسطس 2025

للتاريخ وفضح التآمر على الدعوة السلفية إمارة كُنَر الإسلامية (1990–1991)

للتاريخ وفضح التآمر على الدعوة السلفية
[إمارة كُنَر الإسلامية (1990–1991) ]

🔹شهدت الساحة الأفغانية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات حالة من الانقسام الحاد بين الفصائل، خصوصاً بعد انسحاب القوات السوفيتية. فقد كانت الصراعات قائمة بين قادة مثل حكمتيار (الحزب الإسلامي)، وبرهان الدين رباني، وأحمد شاه مسعود، وغيرهم. في خضم هذا التناحر برزت تجربة مختلفة في ولاية كُنَر بقيادة الشيخ جميل الرحمن رحمه الله، حيث أسس إمارةً إسلامية اتسمت بقدر من الاستقرار والنزاهة مقارنة ببقية المناطق.

🔹لم يكن الخلاف مع الشيخ جميل الرحمن مجرد "نزاع على السلطة"، بل كان صراعاً عقدياً ومنهجياً بين السلفية التي تبنّاها الشيخ، وبين تحالف الفصائل ذات المرجعيات المختلفة كالإخوانية وغيرها.
وقد قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه "مقتل الشيخ جميل الرحمن "  : " فقد أخبرني بعض إخواني في الله أنه كان في بعض المعسكرات وسمع بعض الأفغان يقول : إذا انتهينا من الشيوعيين سنبدأ بالوهابية."

وهذا يكشف أن الصراع كان بالأساس ضد المنهج السلفي الذي جسّدته إمارة كُنَر.

🔹أعلن الشيخ جميل الرحمن إمارة كُنَر الإسلامية عام 1990م، مستنداً إلى منهج السلف الصالح في تطبيق الشريعة، ورافضاً إدخال الفكر الحزبي إلى المشروع الإسلامي.
وقد جاء إعلان الإمارة نتيجة فراغ سياسي وأمني، إذ لم تكن "الحكومة المؤقتة" التي شكّلتها بعض الفصائل تملك أي سلطة فعلية على الأرض.

🔹وعندما ضغطت الأحزاب على الشيخ لإجراء انتخابات، وافق أخيراً وأقيمت الانتخابات، ففاز بها الشيخ وأُعلن أميراً لإمارة كُنَر. لكن النتيجة لم ترضِ الأحزاب، فبدأت المؤامرات والتحريض ضده بسبب منهجه السلفي.

يذكر الشيخ مقبل الوادعي: "...(...الأحزاب السبعة تمالأت والحمد لله عندنا وثائق قدر مجلد صغير وصلت هذه الوثائق في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وألف (8 ربيع أول 1412?). وبعد ذلك اتضحت الحقيقة، وعرف الناس أنه أمر متواطأ عليه بين الأحزاب كلها، وبين الإخوان المفلسين وإلا فما معنى المقابلة التي نشرتْها جريدة (الصحوة) لا بارك الله فيها مع (حكمتيار) وتسأله عن ولاية (كنر)؟ فيقول: (إن بها عملاء لأعداء الإسلام). ..."

وقد ظهر ذلك جلياً في مقابلة نشرتها جريدة الصحوة مع حكمتيار، حيث وصف ولاية كُنَر بأنها تضم "عملاء لأعداء الإسلام".

🔹وقد كان للدكتور عبد الله عزام دور في عدم إيصال المساعدات إلى الشيخ جميل الرحمن، والتشويش عليه، وقد عقّب الشيخ الألباني رحمه الله على ذلك قائلاً:

"عبد الله عزام مع الأسف يعني مع أنه عنده اتجاه سلفي ، لكنه مغلوب بالإخوانية أي نعم ، يعني الحزبية هذه من الصعب أن الإنسان يتخلى عنها ."

🔹وفي أجواء التحريض الإعلامي ضد الإمارة، عاش شاب مصري يُدعى عبد الله الرومي في صفوف الحزب الإسلامي (حكمتيار)، وكان يعمل صحفياً في مجلة الجهاد الصادرة عن مكتب الخدمات في بيشاور.
أُقنع الرومي بأن الشيخ جميل الرحمن هو العقبة الوحيدة أمام إقامة "دولة إسلامية" بقيادة الحزب الإسلامي، وأنه يفتت الصف الأفغاني.
فتمكّن القاتل صباح يوم الجمعة من دخول بيت الشيخ بحجّة السلام عليه، فجلس ينتظر حتى يفرغ الشيخ من اجتماعه. وبعد أن انتهى الشيخ من مجلسه جلس في ساحة البيت مترقبًا وقت الصلاة، فإذا بالقاتل يدنو منه ويطلق عليه الرصاص الغادر.

لقد توهّم هؤلاء أن بقتل الشيخ ستنطفئ جذوة الدعوة السلفية، تلك الدعوة المباركة التي ما زالت تُحارَب إلى يومنا هذا على أيدي الماتريدية الصوفية المتعصبة للمذهب الحنفي.

كان الخلاف بين الشيخ جميل والفصائل الأخرى خلافًا عميقًا في العقيدة والمنهج، لا مجرد خصومة سياسية. فقد أبى الشيخ المزايدات الحزبية والانتماءات الضيقة، وتمسك بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح. وكونه قد انتسب في بداياته إلى صفوف حكمتيار لا ينفي أن الخلاف العقدي قد ظهر لاحقًا، حين تكشّفت الممارسات المخالفة للشريعة.

وقد شهد المشايخ الثلاثة: الألباني وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله، بصفاء دعوته ونبل مسعاه، فما كانوا يومًا ضد الشيخ أو ضد منهجه السلفي، بل أثنوا على جهوده ودعوا إلى الصلح وحقن الدماء..

إن إعلان الإمارة لم يكن مؤامرة خارجية ولا إملاءً سياسيًا، بل كان قرارًا ذاتيًا اتخذه الشيخ بعد أن مكّنه الله من أرض كنر، ليقيم شرع الله ويُظهر السنة. وكل من عايشه يشهد بزهده واستقلاله ووضوح دعوته، بعيدًا عن دهاليز المخابرات ومكائد السياسة.

د. أحمد محمد الصادق النجار
http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/19901991.html


الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

أصول النظر في اللحوم المستوردة


 


🔹 عندنا أصلان معتبران: 


• الأصل في اللحوم التحريم حتى يثبت ما يبيحها. 


• الأصل في ذبيحة المسلم والكتابي الحل، ففعل المسلم والكتابي محمول على الصحة والسلامة، ما لم يُعلم أنه وقع على وجه غير مشروع.


     

🔹وعند النظر في اللحوم الواردة من الدول المنسوبة إلى أهل الكتاب، فإن الانطلاق يكون من الأصل الثاني لا من الأول. 


🔹 وبناءً على ذلك، فإن أحوال اللحوم المستوردة تكون على ثلاثة: 


• ما عُلم بعينه أنه ذُبح على الطريقة الشرعية ومن كتابي → فهذا جائز باتفاق. 


• ما عُلم بعينه  أنه لم يُذبح على الطريقة الشرعية، أو ذبحه غير كتابي → فهذا محرم باتفاق. 


• ما جُهل حاله → وهو محل الخلاف، وينقسم إلى حالين: 


• إذا جُهل حال المذكي، ولم يغلب على البلد أهل الكتاب، حُرِّم اللحم؛ لقوة الشك في السبب المبيح.

      

• إذا جُهلت طريقة الذبح مع كون الذابح كتابيًا، فهنا يتجاذب المسألة الأصل والظاهر: 


• فالأصل: الحل، لأن الذبيحة صدرت من أهلها، والأصل في فعلهم الصحة  ولم يعلم أن هذا اللحم بعينه ذبح بطريقة غير شرعية 


• والظاهر: ما ثبت من وقائع كثيرة أن الذبح في تلك البلاد يجري بغير الطريقة الشرعية.


🔹الترجيح 

غير أن الذي أميل إليه أن كثرة الوقائع والمشاهدات ولّدت ظاهرًا راجحًا يُغلب على الظن أن القوم لا يلتزمون بالتذكية الشرعية. وهذا الظاهر مستنده الحس والمشاهدة، وهو معتبر شرعًا. ومن ثمّ، فإن الشك في السبب المبيح قائم، وإذا وجد الشك في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل الأول: الأصل في اللحوم التحريم.


كتب د. أحمد محمد الصادق النجار

الجمعة، 22 أغسطس 2025

#اللحوم_المستوردة

#اللحوم_المستوردة 


✍️ بقلم د. أحمد محمد الصادق النجار 


أثير في ليبيا جدل واسع حول اللحوم المستوردة، خاصة القادمة من البرازيل، وكان من أسباب ذلك أن الجهة التي تبنّت التحقيق في المسألة لم تكن محل ثقة عند كثير من الليبيين؛ لصدور فتاوى سابقة عنها اتسمت بالتعميم وعدم الانضباط.

فلما أصدرت حكمًا عامًا بالتحريم على جميع اللحوم المستوردة، وجعلت كل من يأكلها كمن يأكل جيفة، جاء الاعتراض والإنكار. إذ إن مثل هذه القضايا لا يُعالج بالتعميم، وإنما بالتحقيق العلمي الدقيق، مع التفريق بين الشركات والبلدان، ومخاطبة المسؤولين مباشرة لإيضاح الحقائق. 


الأصل الشرعي في الذبائح واللحوم 


مذهب أكثر العلماء أن الأصل في الذبائح واللحوم: التحريم حتى يثبت تذكيَتُها على الوجه الشرعي. فإذا حصل شكّ: هل ذُبحت بطريقة صحيحة أم لا؟ فالأصل الحرمة. 


فالشك معتبر في المنع من الأكل، لما في صحيح مسلم:(وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل،فإنك لا تدري أيهما قتله).

قال النووي عند شرح الحديث:[فيه بيان قاعدةٍ مهمةٍ وهي أنه إذا حصل الشكُّ في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه،وهذا لا خلاف فيه]شرح النووي على صحيح مسلم13/116

وقال ابن العربي المالكي:[...فإذا ورد الشكُّ في الصائد والذابح بقي على أصل التحريم]أحكام القرآن2/35.

وقال ابن دقيق العيد: «إن الأصل التحريم في الميتة، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، وكذلك إذا شككنا أن الصيد مات بالرمي أو لوجود سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يحل» [إحكام الأحكام (2/288)]. 


فإذا وردت شبهة قوية على اللحوم المستوردة من البرازيل وغيرها 

فإننا نمنع من أكلها إلا لمن علم أنها ذبحت بطريقة يجوزها الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات]مجموع الفتاوى32/190.


الاعتراض بقاعدة "الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل" 


قد يقال: إن الله أباح ذبائح أهل الكتاب، فالأصل الحل.

والجواب: نعم، هذا أصل معتبر، لكن الأصول قد تعارضها القرائن والوقائع والظواهر القوية التي مستندها الحس. 

والواقع اليوم في جملة من المذابح الأوروبية والبرازيلية قائم على: 


• التدويخ بالكهرباء أو الصعق بالمسدس قبل الذبح.

• ضعف أو غياب الرقابة الشرعية الفعلية، والاكتفاء بتواقيع شكلية من بعض المراكز الإسلامية.

• أن الذابح قد يكون مسلمًا، أو كتابيًا، أو وثنيًا، أو حتى ملحدًا، ولا يُتحقق من حاله.

• 

ولما راسلت الرئاسة العامة لإدراة البحوث الغلمية والإفتاء بالسعودية الدعاة والروابط والهيئات في دول الكفر جاءت الأحوبة في مجملها صادمة في طريقة الذبح وفي كون الذابح لا يدرى عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد؟ وبعض ابذابحيين يكون وثنيا...مما يبقى الشك ويقويه في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية..

وبناءً على ذلك: إذا وُجدت شبهة قوية في اللحوم المستوردة، فإنها لا تُباح إلا بعد التحقق من أنها ذُبحت بطريقة شرعية. 

ومع ذلك لا يمكن أن نقطع بالحكم ولا أن نجعل من يأكلها في حكم من أكل الجيفة إلا عند ما تيقن أو غلب على ظنه أنها لم تذبح بالطريقة الشرعية


تغليب جانب التحريم عند الشك

من القواعد المقررة أنه إذا اجتمع فيما أصله التحريم سببان أحدها مبيح والآخر محرم يغلب جانب التحريم؛ لموافقته الأصل... 


ولا يتعارض ذلك مع ما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إِنَّ قَوْمًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَ بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا، أَفَنَأْكُلُ مِنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا». فالمسألة هناك متعلقة بذبيحة مسلم قد يترك التسمية جهلًا أو نسيانًا، 

والمسألة مبحوثة في مذابح عصرية في دول كفرية قويت فيها الشبهة في أصل السبب المبيح: هل وقع الذبح الشرعي أصلًا أم لا؟

وغلب على هذه الدول الإلحاد واللا دينية...

ومسألة التسمية إذا تركت جهلا أو نسايا من مسلم فيها خلاف معروف في حكم أكل ذبيحته...


الخلاصة

الصحيح أن الأصل في ذبائح النصارى الإباحة، لكن مع الشكوك القوية القائمة في كثير من اللحوم المستوردة اليوم، وخاصة من بعض الدول كالبرازيل، فالواجب التوقف حتى يثبت أنها ذُبحت وفق الطريقة الشرعية، ولا نعمم فنجعل كل من أكلها فهو آكل للجيفة، فمن ثبت عنده أن شركة معينة تذبح بالطريقة الشرعية فله أن يأكل ولا شيء عليه.ط، وإلا فلا.

http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/blog-post_22.html

الخميس، 21 أغسطس 2025

التناقض بين الخطاب والواقع عند بعض الجماعات ذات النزعة #القطبية أو المتأثرة بها كالصحوية

 

التناقض بين الخطاب والواقع عند بعض الجماعات ذات النزعة #القطبية أو المتأثرة بها كالصحوية
✍️ بقلم د. أحمد محمد الصادق النجار

( الكلام هنا على الجماعات لا على الحكومة السورية، فهي حكومة لها ولاية شرعية)

زعم بعض المنتسبين لهذه الجماعات أن من حرر سوريا إنما كان على خلفية قطبية…!
وقالوا: إن المنهج الذي "يدك حصون الصهاينة ويربي الأبطال" هو منهج #سيد_قطب…!
فهل سيثبتون على ما زعموه، أو أن خطابهم سيُصيبُه ما أصابهم من التناقض والتأتأة؟

إن المتأمل في خطاب هؤلاء يدرك حجم التناقض الصارخ بينهم وبين ما يظهرونه من دعوى الثبات على المنهج والمبدأ، فقد رأيناهم في بلادنا على صورتين متضادتين:

– في التنظير:
• يصفون #الحكومات بالردة بحجة الاستبدال، أو بإسقاط حكم الطائفة الممتنعة عليها.
• ويهاجمون كل من يخالفهم في "منهج سيد قطب" أو غيره من الشعارات التي يتبنونها.

– في الممارسة العملية:
• إذا فُتحت لهم أبواب التمويل من الحكومة، أو مُكِّنوا في أرضها من بعض المناصب، أو وُعدوا بالمكاسب، انقلب خطابهم فجأة من العداء والتكفير إلى المدح والتزكية.
• وكأن معيار “الثبات على الحق” عندهم ليس صدق المعتقد، وإنما حجم ما يُغدَق عليهم من منافع، أو رفع شعار الأسلمة...

والخلاصة:
أنهم يتخذون من الشعارات الكبرى – كالحاكمية، ومحاربة المشروع الصهيووني، وحكم الطائفة الممتنعة – أدواتٍ للتهييج والتعبئة، فإذا تبدلت الظروف وصرفت لهم الميزانيات ، تغيّر الخطاب فجأة من حدّة العداء إلى نعومة الدفاع والتسويغ.

الموقف الشرعي من #التطبيع

• التطبيع محرّم شرعًا، لأنه نوع إقرار بالاحتلال وتنازل عن حق ثابت للأمة، فضلًا عن مخالفته لقطعيات الشريعة.

• لا يجوز تسويغه بحجج "المصلحة"، أو "وقف العمليات العسكرية"، أو "الاعتراف بالقيادة الجديدة"، أو "التفاوض حول الجولان".

البديل المشروع

إذا اقتضت الضرورة، فالمشروع هو الهدنة المشروطة المؤقتة – كما فعل النبي ﷺ في صلح الحديبية – دون اعتراف بشرعية الاحتلال، ودون إقامة علاقات طبيعية معه.

✍️فالتطبيع لا يصبح حلالا مهما كانت الضغوطات لكن إذا أُجبر الناس قهرًا وفق ما يقتضيه فقه الضرورة، فيدخل في باب الإكراه، وحكمه يختلف:
• الدولة تعذر بقدر الضرورة بعد التحقق من دخولها تحت فقه الضرورات..
• ولا يسقط ذلك عن الأمة واجب رفض الاحتلال والسعي لتحرير الأرض بالضوابط الشرعية.

الأربعاء، 13 أغسطس 2025

مناقشة موقف الشيخ فيصل قزاز من النقد زمن الحرب


مناقشة موقف الشيخ فيصل قزاز من النقد زمن الحرب

بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار –

يُثار هذه الأيام سؤال مهم: هل يجوز نقد القيادات المقاومة زمن الحرب، خاصة إذا كان القتال مع الكفار أو أن هذا النقد يُضعف الصف ويُعد خيانة أو نفاقًا؟؟
وقد عبّر الشيخ فيصل قزاز عن موقف مانع من النقد وجعله من باب الخيانة والنفاق، معتبرًا أن هذا النقد لا يُعرف في تاريخ المسلمين إلا من الخونة والمنافقين.

قال:"لا يعرف في تاريخ المسلمين أن حربًا قامت بين المسلمين والكفار ووقف عالم من علماء المسلمين ينتقد المسلمين والحرب قائمة، بل لا يعرف هذا إلا من الخونة والمنافقين...

وإذا أردنا مناقشته:
.أولا: من حيث التأصيل الشرعي

النهي عن نقد المسلمين زمن الحرب ليس حكمًا مطلقًا عند علماء أهل السنة، بل هو مقيّد بحال تحقق الجهاد الشرعي واستكمال شروطه وانتفاء موانعه، مع رجحان المصلحة في السكوت
• أما إذا كان القتال فاقدًا لشروطه الشرعية، أو محققًا لمفسدة أكبر، فإن بيان الحكم الشرعي يصبح واجبًا، ولو في زمن الحرب، بشرط أن يكون بأسلوب منضبط يراعي المصلحة ويدرأ المفسدة.

والواقع أن الشيخ فيصل ومن على شاكلته يتكلمون عن أحكام الجهاد الشرعي الذي وُجد سببه وتحقّق شرطه، بينما يتحدث السلفيون عن قتال وُجد سببه لكن لم يتحقق شرطه الشرعي...

ثانيا: من حيث الاستقراء التاريخي

الاستقراء الذي يذكره الشيخ فيصل غير مكتمل؛ فالتاريخ الإسلامي شهد حالات نقد وتصحيح زمن الحرب إذا كان القتال غير مستوفٍ لشروطه.
ومن ذلك ما جرى زمن اجتياح التتار لدمشق، حيث خرج كثير من الناس يستغيثون بالأموات، فأنكر العلماء ذلك رغم أن العدو على الأبواب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا..."

فهذا المثال يدل على أن النقد زمن الحرب قد يكون مشروعًا إذا كان الهدف إصلاح المسار وتصحيح الفعل قبل المضي فيه.

ومن هنا، فإن من ذمّ الإقدام على قتال لم تكتمل حقيقته الشرعية، لم يذمه لأنه قاتل الكفار أو شارك في جهاد مستوفٍ لشروطه، بل ذمه؛ لأنه أقدم على فعل ناقص الشروط، ترتّب عليه ضرر عام ومفسدة راجحة لا تقرّها الشريعة...

وأما رميه لمخالفيه بتهم التخذيل والخيانة والنفاق فهو تعد ظاهر ولم يراعِ المعنى الذي اعتبرته الشريعة في النهي عن التثبيط والتخذيل في جهاد وجد سببه وتحقق شرطه، وهو:التأثير السلبي المباشر والراجح على سير الجهاد في ساحة المعركة.[انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (12/217)]
فما كان ضرره على الجهاد في ميدان القتال عظيماً، مُنع منه شرعاً.
أما ما كان ضرره مرجوحاً ومصلحته راجحة، أو كان الشروع في القتال خطأً لعدم تحقق شرطه الشرعي – ولو كان جهاد دفع – فإن التصحيح واجب؛ حماية للأرواح والمصالح الشرعية.

والذي يؤسفني -حقيقة- الحال الذي وصل إليه الشيخ فيصل قزاز بسبب خصوماته مع بعض المشايخ، فضيع البوصلة...

http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/blog-post_13.html

الاثنين، 11 أغسطس 2025

هل الأنظمة والحكومات في عصرنا فقدت مقومات الولاية الشرعية أصلا وبالتالي لا ينطبق عليهم كلام السلف في حكام زمانهم؟

 هل الأنظمة والحكومات في عصرنا فقدت مقومات الولاية الشرعية أصلا وبالتالي لا ينطبق عليهم كلام السلف في حكام زمانهم؟

بقلم د. أحمد محمد الصادق النجار
الجواب:
ليست الإشكالية – كما يظن بعض الإخوة – في تنزيل النصوص على الواقع مع سلامة التأصيل، بل الإشكالية الحقيقية تبدأ من تأصيل المسألة نفسها. فهناك من يؤصل على طريقة السلف، وهناك من يؤصل على طريقة غيرهم.
وسبب ورود هذا السؤال أن تحكيم الشريعة كمرجعية عليا لم يعد قائمًا في أغلب البلدان...وان الحكام مقيدون بأنظمة دولية واتفاقيات...وأن الكفار شاركوا تنصيبهم  بشكل أو بآخر
• فالخلاف الحقيقي بينهم والتأصيلي هو هل مناط نصوص الولاية هو مجرد إسلام الحاكم ولو طلق الشريعة تطبيقا جزئيا، أو إسلامه مع تحكيم الشريعة؟
وهذا يفتح الباب لسؤال آخر وهو ما هو "القدر الواجب" من تحكيم الشريعة حتى تتحقق به أصل الإمامة الشرعية؟ وهل عدم الاستقلالية في الحكم ومشاركة الكفار في التنصيب يؤثر في أصل الولاية؟

• التقرير الصحوي وأشد منه القطبي عادةً يجعل التطبيق الجزئي للشريعة ليس كافيا لبقاء الشرعية، بل هو إخلال جوهري بشرط أصل الولاية، فيربط بين شرط "تحكيم الشريعة" وشرط "الكفر البواح" بحيث يجعل غياب التحكيم الكامل للشريعة أو التحاكم للقوانين الوضعية من انتفاء شرط إقامة الدين أو من صور الكفر البواح، ويسقط بهما أصل الولاية الشرعية حتى في حال الاضطرار  ...ويعتبر أن دعم الكافر الحاكم للوصول للحكم كافٍ لانتفاء أصل الولاية؛ بناءً على قراءة سياسية تربط بين التنصيب الأجنبي وبين انتفاء شرط التحاكم الكامل للشريعة.

• في المقابل، التقرير السلفي يجعل مجرد كون الحاكم مسلمًا، مع تطبيق جزئي للشريعة مصحوبا بالإقرار بوجوب تطبيقها ومرجعيتها، كافيًا لبقاء الشرعية في حال الاضطرار، فيربط مناط الولاية بوجود الحاكم المسلم الذي استقر له الأمر، ويعتبر الحكم بالقوانين الوضعية في بعض أو أكثر الأمور، مع الإقرار بالشريعة ذنبًا عظيمًا لكنه ليس كفرًا أكبر إلا بجحود أو امتناع؛ مستندا في ذلك على أصلي سد الذرائع ودرء الفتنة أكثر من الاستدلال على تمام شروط الإمامة؛ حفظا لوحدة الجماعة
• فوجود ضغط خارجي أو قيود سياسية في التقرير السلفي لا يغير حكم النصوص الشرعية ما لم يتحقق المناط الشرعي لزوال الولاية،
•  ولا يشترط في الولاية الاضطرارية أن يكون تنصيب الحاكم قد تم بالطريقة الشرعية الكاملة حتى تثبت له الولاية، بل يكفي أن يستقر له الأمر وتنعقد له البيعة ولو قهرًا، ما دام مسلمًا ولم يظهر منه كفر بواح.
• ومجرد أن الكفار ساعدوا أو دعموا في الوصول إلى الحكم لا يسقط ولايته عند السلف، إذا تحققت فيه مناط الإمامة (الإسلام، عدم الكفر البواح، استقرار الحكم).
• والتاريخ الإسلامي نفسه فيه أمثلة لحكام وصلوا إلى السلطة عبر تحالفات أو دعم خارجي من أطراف غير مسلمة، ولم يُسقط السلف ولايتهم بمجرد ذلك، كبعض ولاة الأندلس الذين استعانوا بملوك النصارى في الصراعات الداخلية..


👈أعود فأقول: القول بأن "الأنظمة المعاصرة فقدت مقومات الولاية" قول غير منضبط علميًا، لأن البحث في هذا لا بد أن يبدأ أولًا بـ تخريج مناط أحاديث الصبر على الولاة، لا بالقفز إلى الحكم على القياس بالفساد أو الصحة بلا ضبط مناطه، ولا بتحقيق المناط في ولايات زماننا.

🔹 أولًا: مناط هذه الأحاديث – كما قرره أئمة أهل السنة – ليس كمال صلاح الحاكم ولا التزامه التام بالشريعة، وإنما:
• كونه مسلمًا في الجملة.
• استقرار الحكم
• عدم ظهور كفر بواح عليه ببرهان قاطع من الكتاب أو السنة.
• والحكمة التي رعاها الأئمة: دفع المفسدة الكبرى والفوضى العامة.

🔹 ثانيًا: النصوص الشرعية في السمع والطاعة والصبر على الجور، لا تُستبعد من واقعنا إلا إذا انتفى مناطها انتفاءً بيّنًا، وإلا فهي باقية الحكم.
👈 فـ "طبيعة الجور وتغير حال الحكام في زماننا" ليسا مناطين أصلا في النصوص، لا في زمن السلف ولا في غيره، وهذا وحده يسقط دعوى إسقاط الأحاديث بحجة اختلاف الواقع.
👈 فهذا الإمام أحمد عاش في عصر تغير فيه الحاكم واختلف حاله عن حال من تقدمه، فقد شرعن الكفر وعاقب من خالف، ومع ذلك أبقى النصوص على إطلاقها، ولم يخترع شرط "طبيعة الجور" أو "هوية النظام" لإسقاط الولاية قال الإمام أحمد: "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمّي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا، برًّا كان أو فاجرًا"[أصول السنة].

• فالفكر الصحوي في هذه القضية ينطلق من تغيير مناط النصوص الشرعية.
• فالنصوص عند السلف مناطها: الإسلام – عدم الكفر البواح – استقرار الحكم.
• وأما الصحويون فغيّروا هذا المناط إلى: التحاكم للشريعة بصورة كاملة – استقلال القرار السياسي – طريقة الوصول للحكم
• وهذا التغيير يجعل الحكم الشرعي تابعًا لظروف سياسية متغيرة، بدل أن يكون منضبطًا ببرهان شرعي قطعي.

🔹 ثالثًا: دعوى "فقدان مقومات الولاية" من غير برهان شرعي قطعي هي المدخل الذي سلكه القطبيون والسروريون لنسف النصوص، وتحويلها من مسألة توقيفية منضبطة إلى قضية اجتهادية
فوسّعوا معنى الكفر البواح حتى أدخلوا فيه المظالم والسياسات، ثم زعموا أن النصوص الواردة في الصبر على الأئمة لا تنطبق على "الواقع المعاصر" لأن "طبيعة الجور مختلفة"!
وهذا تلبيس وتغيير للمناط الشرعي بنظرية سياسية، ليصبح الحكم الشرعي رهين اجتهادات...
👈وهو يخالف منهج أهل السنة، الذي يضبط المسألة بشروط صارمة، ويمنع التوسع في زوال الشرعية بلا برهان قاطع؛ دفعا للفتننة العامة....

👈وقد تميز منهج أهل السنة عن غيره:
• ضبط المناط بشروطه.
• منع التوسع في زوال الشرعية بلا برهان قاطع.
• ردّ كل تأويل سياسي يُفضي إلى إسقاط النصوص على أهواء الفرق الحركية.

🔹رابعا: أصل الخلاف مع هؤلاء ليس في توصيف فساد الواقع، فنحن نقر بفساد الواقع ومغايرته لواقع السلف، وإنما أصل الخلاف في المنهج في تنزيل النصوص؛ فمن أبقى المناط على ما هو عليه عند السلف، لزمه إبقاء الحكم. ومن بدّله وقع في الانحراف المنهجي الذي قاد إلى الفوضى الفكرية والحركية.

🔹خامسا: وصف القول بأنه فكر قطبي أو سروري أو أنه على سَنن الخوارج والمعتزلة ليس من “التعصب المقيت” إذا كان القول بالفعل يوافق أصولهم ومآلاتهم، لأن الحكم على الأقوال بمآخذها ومآلاتها منهج علمي معتبر عند أئمة السنة.
ومن تبنى أصلاً فاسدًا من أصول الفرق الحركية، ثم شابههم في التنزيل والنتيجة، فإن وصفه بمقتضى ذلك ليس ظلمًا، بل هو توصيف علمي للمسار الفكري الذي يسلكه.


































الأحد، 10 أغسطس 2025

إنزال حكم #الطائفة_الممتنعة على الحكومات اليوم

إنزال حكم #الطائفة_الممتنعة على الحكومات اليوم
بقلم د. أحمد محمد الصادق النجار

يرى بعض المغرضين من أفراد الجماعات الجهادية أن الحكومات المسلمة المعاصرة تأصيلا تُكيَّف شرعًا على أنها طوائف ممتنعة بشوكة عن تطبيق شرع الله، فيوجبون قتالها؛ مستندين إلى حكم الطائفة الممتنعة .....

ولتمرير باطلهم، استدعوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال التتار، وأخرجوه من سياقه التاريخي والفقهي، وأسقطوه على واقع مختلف تمامًا. فقد كان ابن تيمية يتكلم عن قوم يجمعون بين الكفر الصريح والشرك البواح، ويخلطون جيوشهم من الكفار والمنافقين ومن يظهر الإسلام، حتى قال عنهم: ( وبالجملة فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفي الذي بعث رسوله به لاهتدوا وأطاعوا) وقال:(فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدا كجنكسخان)
بل ذكر أنهم لم يكونوا حتى يؤذنون في معسكراتهم. وهذا يختلف جذريًا عن حال أكثر الحكومات المسلمة اليوم.

ومع هذا التحريف الصارخ لكلام شيخ الإسلام، يأتي من يزعم أن هؤلاء "نبتة تيمية وهابية"؛
والحقيقة أنهم أبعد ما يكونون عن منهج ابن تيمية، وإنما هو استغلال لكلامهم الحق وإسقاطه في غير سياقه، كما أسقط الخوارج الأول  "،إن الحكم إلا لله" في غير سياقه...

🔹 ضابط الطائفة الممتنعة
-أن تكون طائفة ولها شوكة وقوة
-أن تترك شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة
-أن تتطالَب من دولة قوية بفعل ما تركته من الواجبات الظاهرة أو بترك ما فعلته من المحرمات الظاهرة فترفض وتقاتل على ذلك..

🔹 خلاف العلماء في أصل المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم الطائفة الممتنعة إذا قاتلت مع إقرارها بوجوب الشرائع:
• هل تكفر وتقاتل قتال كفار؟
• أو لا تكفر وتقاتل قتال بغاة؟
قال ابن تيمية مبينًا مذهب الإمام أحمد:«كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها، على روايتين».

🔹 محل المسألة
ومحل هذه المسألة عند أهل السنة وجود دولة قوية قائمة عندها القدرة على قتال الطائفة الممتنعة بعد مطالبتها بفعل ما تركت من الشرائع، كما كان الحال في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين قاتل مانعي الزكاة بعد وفاة النبي ﷺ، وكما هو الحال في قتال التتار
وهو قتال منظم تحت راية إمام شرعي ودولة مستقرة، لا مغامرة فوضوية لجماعات متفرقة.

فالسؤال الذي يجب أن يُطرح عليهم: هل الحكومات المعاصرة واجهت حالة شبيهة بحال مانعي الزكاة أو التتار، حيث طالبهم إمامٌ شرعي لدولة قوية بإقامة الشريعة فامتنعوا وقاتلوا؟!!

🔹 تحريف الجماعات الجهادية للمسألة:
الغريب أن هذه الجماعات نقلت المسألة من سياقها الشرعي إلى سياق فوضوي؛ فجعلوا أنفسهم – وهم مجموعات متفرقة – أصحابَ الحق في الحكم على الحكومات المسلمة بأنها "طوائف ممتنعة"، ثم استباح بعضهم بذلك التفجير والاغتيال في بلاد المسلمين، تحت شعار الجهاد....

🔹 خلاف الجماعات الجهادية الداخلي في التنزيل:
حتى داخل هذه الجماعات، اختلفوا في كيفية إسقاط حكم الطائفة الممتنعة على الحكومات ومن تحتها:

• بعضهم قال: كل فرد في الحكومات له حكم الطائفة؛ فإذا كان رأس الطائفة مرتدًا، فكل من تحت سلطانه مرتد.

• أبو محمد المقدسي قال: لا يُكفّر كل فرد، بل يكفر من يقر بباطلهم أو يعينهم على قوانينهم أو ينصرهم.
      وقال أبو بصير الطرطوسي :" تكفير الحكام المبدلين للشريعة والذين لا يحكمون بما أنزل الله .. لا يستلزم كفر وتكفير كل من يعمل في حكوماتهم ـ كما يروج البعض ترهيباً لعامة المسلمين من تكفير طواغيت الحكم! ـ وإنما الذي نقوله: من دخل في نصرة الحاكم الطاغوت وظاهره على المسلمين .. فهو كافر مثله .. ومن بطانته .. وهذا وصف لا يلزم كل من عمل في الحكومة"

• طائفة أخرى جعلت مسألة تكفير أعيان الحكام ومناصريهم مسألة فتوى وقضاء، مبناها على الاجتهاد، فهي من العلم الذي سبيله النظر والاجتهاد والاستدلال، ولم تصل إلى حد العلم الضروري المقطوع به....

🔹 الخلاصة والتحذير

إن تكفير الحكومات المسلمة بالجملة منهج باطل شرعًا، وما تفعله هذه الجماعات اليوم من إسقاط الأحكام في غير موضعها، ما هو إلا إشعال لنار الفتنة وتمزيق لصف الأمة، وتحويل سلاح المسلمين إلى صدور المسلمين.
http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/blog-post_10.html

الخميس، 7 أغسطس 2025

ركائز فكر #سيد_قطب الثلاثية

 ركائز فكر سيد قطب الثلاثية 


✍️ بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار 


لفهم المنظومة الفكرية لسيد قطب، لا بد من استيعاب المرتكزات الثلاثة التي قامت عليها رؤيته الفكرية والتربوية: الحاكمية، الجاهلية، المنهج الحركي.

فهي ليست مجرد مفاهيم منفصلة لا علاقة بينها، بل هي شبكة مترابطة تشكل "تصورًا عقديًا وحركيًا" شاملًا. 


أولًا: الحاكمية 


ركب لكلمة التوحيد مفهوما خاصا جعله مداره على الحاكمية التشريعية من قبل الحكام، والخضوع لجميع تلك الأحكام من قبل المحكومين،  

فالحاكمية هي المُعَبّر الرئيس لمعنى كلمة التوحيد

وأصبح سيد يرى المجتمعات من خلالها فيحكم عليها بكفر أو إسلام فهي معيار تقييم المجتمعات. 


فهو يرى أن المجتمع كوحدة سياسية وتشريعية إذا لم يحتكم لشرع الله فهو "مرتد"، لكن لا يلزم من ذلك تكفير أفراده.


غير أن هذا التصور يُعد انحرافًا عن منهج السلف في باب الإيمان والكفر؛ حيث رفع قطب الحاكمية إلى أعلى مراتب التوحيد، وعدّ تعطيلها كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، وهو ما لم يقل به علماء السلف، وإنما هو من تقريرات الخوارج القدامى


ثانيًا: الجاهلية 


وضع سيد قطب مصطلح "الجاهلية المعاصرة"، ليصف به المجتمعات الإسلامية التي انفصلت – بحسب رؤيته – عن منهج الله في الحكم والتشريع، حتى وإن حافظت على الشعائر الدينية. 


ولهذا قال"لقد ارتدت البشرية إلى الجاهلية... إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، وارتفعت راية الشرك مرة أخرى." 


ويرى سيد أن هذه الجاهلية لا تختلف في جوهرها عن جاهلية قريش، بل هي أعنف وأشد خطرًا لأنها تتزيّن بمظاهر الإسلام. 


ورتب على هذا التصور تقسيم المجتمعات إلى:

• مجتمع مسلم: حيث تُقام شريعة الله.

• مجتمع حاهلي مرتد: حيث لا تحكم فيه شريعة الله. 


وبناء على هذا، تصبح المجتمعات الإسلامية المعاصرة – بحسب قطب – أقرب إلى "دار الحرب"، وهو ما يقتضي في ظل التهديد الانفصال الشعوري والعقدي عنها، انتظارًا لإقامة "دار الإسلام". 


فبغياب الحاكمية يغيب المجتمع المسلم، وسبيل النجاة الوحيد هو الانفصال والعزلة العقدية والشعورية عن أهل هذه الجاهلية.  يقول سيد: "لا نجاة للعصبة المسلمة -في كل أرض- من أن يقع عليها هذا العذاب" إلا إذا:انفصلت عقديا وشعوريا ومنهجَ حياة عن أهل الجاهلية من قومها إلى أن يأذن الله لها بقيام دار إسلام).

وبما أن المجتمعات المسلمة اليوم في حاهليتها تشبه الجاهلية الأولى فلابد أن تمر بذات المراحل التي مر بها الإسلام في بداية الدعوة:

• الدعوة السرية والتكوين العقائدي.

• الانفصال والاعتزال الشعوري عن الجاهلية.

• الهجرة إلى أرض آمنة.

• إقامة دولة الإسلام. 


يقول سيد: "فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم الله -سبحانه- عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام -كالجولة الأولى- تأخذ في التنظيم كل أحكامها المرحلية حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة، ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى بإذن الله فلا تعود هجرة، ولكن جهاد وعمل كما حدث في الجولة الأولى". 


ثالثًا: المنهج الحركي 


في فكر سيد قطب، لا يتحقق الفهم الصحيح للنصوص الشرعية إلا عبر بوابة التفاعل الحركي مع الواقع.

فالعقل الحركي – أي المجاهد والمنخرط في التغيير السياسي – هو وحده المؤهل لفهم دلالات القرآن وأحكامه. 


ومن هنا جاءت فكرة "الطليعة المؤمنة"، وهي جماعة مؤمنة معزولة شعوريًا عن المجتمع الجاهلي، تتحرك لإقامة الحكم الإسلامي، تمامًا كما فعلت الجماعة الأولى في مكة. 


هذا الربط بين الفهم الصحيح للنص والحركة الثورية يهمّش فهم الفقهاء والعلماء غير المنخرطين في العمل السياسي، ويُقصي الاجتهادات العلمية التي لا تنبع من "حركة مقاومة".


أخيرا

نعم سيد

ذكر أنه يفرق بين تكفير المجتمع وتكفير أفراد المجتمع

فهو لا يرى نفسه قاضيا وحاكما على الأفراد ولهذا كان يقول أنا لا أكفر الناس 


وحتى لو سلمنا بصحة ذلك فقد تُرجمت نظريته إلى مشاريع تكفيرية تبناها تنظيم القاعدة وداعش وغيرهما، حيث تم إسقاط حكم الجاهلية والردة على الأفراد، واعتبارهم مشركين مرتدين تجب محاربتهم واستباحة دمائهم..؛ لأنه بقوة طرحه وغموض حدوده

ترك لهم الفراع ليملؤؤه، فهو أشبه بمن وضع البنزين بجانب النار وهيأ الأسباب لاندلاع نار عظيمة

ثم انسحب وترك الناس يشعلونها ...

فالفكر الذي يُحرّك الوجدان ويعبّئ القلوب دون أن يضع ضوابط محكمة وضمانات فقهية واضحة،  يتحول إلى أداة للفتنة وسفك الدماء، ....

الاثنين، 4 أغسطس 2025

حول مصطلح "#الجاهلية" في فكر #سيد_قطب

حول مصطلح "#الجاهلية" في فكر #سيد_قطب

✍️ بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار

يحاول بعض المدافعين عن فكر سيد قطب التقليل من دلالة مصطلح "الجاهلية" الذي يستخدمه، فيوهمون القارئ أنها مجرد وصف اجتماعي أو أخلاقي عابر، دون أبعاد عقدية خطيرة، وهذا تدليس واضح، وابتعاد عن التحقيق العلمي والتدقيق البحثي، ، إذ إن نصوص سيد قطب الصريحة، والسياق العام لفكره، تنقض هذا الادعاء من جذوره، فهم يتجاهلون نصوصًا صريحة وأبعادًا عقدية بالغة الأهمية في فكره.

أولًا:
لا أحد ينكر أن مجرد وصف مجتمع بـ"الجاهلية" لا يلزم بالضرورة تكفير جميع أفراده.
لكنّ المشكلة الحقيقية في فكر سيد قطب ليست في مجرد الوصف، وإنما في ربط هذا الوصف بـ حكم شرعي عقدي صريح بالكفر والردة على المجتمعات التي لم تطبق حاكمية الله، حتى ولو نطق أهلها بالشهادتين

قال سيد:(البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدّت عن لا إله إلا الله) (في ظلال القرآن ـ 2/1057- دار الشروق).
وقال (ارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : لا إله إلا الله)(في ظلال القرآن ـ 4/2009- دار الشروق)
فهو لا يتحدث فقط عن "وصف اجتماعي"، بل يُقرر حكمًا شرعيًا عقديًا بالكفر أو الشرك على من لا يطبق الحاكمية، ولو نطق بالتوحيد.

ثانيًا:
ارتباط مفهوم الجاهلية بمفهوم الحاكمية عند سيد قطب يعني تكفيرًا سياسيًا وعقديًا.
وهذا التصور كان هو الأساس النظري والفكري الذي تبنته لاحقًا جماعات الغلو والتكفير، كـ"القاعدة"، و"داعش"، و"التكفير والهجرة"، وغيرها، واعتبرته سندها الشرعي في تكفير المجتمعات، واستحلال الخروج والقتل والقتال.
وبعضهم يتوارى تحت مصطلح الامتناع...

ثالثًا:
قوله"لم نكفّر الناس" لا تُبطل النصوص العقدية السابقة.....
🛑قول سيد قطب في كتابه "لماذا أعدموني؟" ص22 :"إننا لم نكفّر الناس، وهذا نقل مشوّه. إنما نحن نقول: إنهم صاروا – من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح، والبعد عن الحياة الإسلامية – إلى حال تُشبه حال المجتمعات في الجاهلية."
لا يبطل نصوصه الصريحة السابقة
والغريب أن بعض المدافعين يستندون إلى هذا النص الواحد المتأخر لينفوا عنه كل التبعات العقدية والفكرية التي ظهرت في كتبه السابقة، ولا سيما:
• في ظلال القرآن (الطبعة الثانية)،
• معالم في الطريق،
• العدالة الاجتماعية في الإسلام،

وهي المصادر التي اعتمد عليها كثير من الجماعات التكفيرية مثل القاعدة، وداعش، وجماعات الهجرة والتكفير وغيرها.

🛑فاستناد هؤلاء المدافعين إلى نص واحد مجمل هو محاولة منهم نسخ العبارات الصريحة التي تُقرر حكمًا شرعيًا عامًا على المجتمعات المسلمة اليوم بأنها "مرتدة" و**"لا توحد الله"**.

هذا الأسلوب الانتقائي منهم في قراءة فكر سيد قطب يُعد نوعًا من التزييف المنهجي؛ لأنه يُعلّق الفكر العقدي الكامل على نص واحد مجمل ومتأخر، في مقابل نصوص كثيرة صريحة في التكفير، لم يُبدِ فيها قط تراجعًا واضحًا أو استدراكًا صريحًا.
وهذا هو الندليس بعينه وابتعاد عن المنهجية العلمية.....

فقوله: "لم نكفر الناس" دون أن ينفي نصوصًا سابقة له تحتوي تكفيرًا عامًا وصريحا، لا يُعتبر تراجعًا شرعيًّا .
👈 ولذلك فإن العلماء الكبار مثل ابن باز، الألباني، ابن عثيمين، لم يعتبروا هذا النص تراجعًا كافيًا، بل بقوا يحذرون من عباراته في الحاكمية والتكفير.

⚖️ تنبيه مهم:

إن نقد الفكر لا يستلزم بالضرورة الحكم على النيات أو المصير، ولا يعني الجزم بعدم التوبة أو المراجعة، فالحكم على الأقوال والأفكار شيء، والحكم على الذوات والمآلات شيء آخر.

http://abuasmaa12.blogspot.com/2025/08/blog-post_4.html

الأحد، 3 أغسطس 2025

من هو المُخوَّل شرعًا بتقييم المفسدة الراجحة في قرار القتال؟

 ✍️ جواب السؤال الثالث 

✍️ بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار 


الحمد لله، وبعد:

فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها إلى تأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع. 


❖ السؤال:

من هو المُخوَّل شرعًا بتقييم المفسدة الراجحة في قرار القتال؟


❖ الجواب: 


إنّ قرارات القتال والجهاد تتعلق بجانبين متكاملين:

• الجانب الميداني الفوري (واقع العدوان المباشر الفوري وما يستلزمه من رد)، أي ما تعلق بقتال الدفع الاضطراري،

• الجانب الشرعي التقديري (المصالح والمفاسد وتقدير العواقب حين تتعدد الاختيارات وتتنوع التقديىات)، أي ما تعلق بقتال الدفع الاختياري،

لأن الموضوع يجمع بين الفقه الشرعي والواقع السياسي والعسكري 


🔹 ففي الجانب الميداني: المرجع فيه إلى المقاتلين في الميدان؛ فهم الأقدر على معاينة العدوان وما يحتاجون إليه في الردّ الفوري، ولهم دور في تقديم الخبرة الواقعية اللازمة لاتخاذ القرار.

وكذلك الجهات السياسية التي تتصرف بناء على المعطى الشرعي الذي يقدره العلماء والمعطى الواقعي الذي يقدره القادة الميدانيون..فتشارك هنا بما تملكه من ربط بين الرؤية الميدانية والاعتبارات الإقليمية والدولية، وفقًا للمعطيات الشرعية التي يقدّرها العلماء.


🔹 وفي الجانب الشرعي التقديري: مردّه إلى أهل العلم والدين الصحيح، شريطة اطلاعهم على الواقع، وسعة نظرهم في التجارب السابقة. 


فقرار القتال يجب أن يُبنى على رؤية متكاملة تجمع الشرع بالواقع، مع اعتبار المآلات وقدرة الأمة على التحمل..

وهذه النظرة المتكاملة مستمدة من قوله تعالى:﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾📚 [النساء: 83]

فـ"الذين يستنبطونه منهم" هم أهل الاجتهاد، و"أولو الأمر" تشمل العلماء والأمراء ... 


⚠️ وهنا نقطة مهمة:

القول قول أهل الثغور في معرفة الواقع ومعايشته،

وليس قولهم في فقه الحكم الشرعي أو تقييم المصالح والمفاسد؛ لأن الاجتهاد الشرعي مناطه الفقيه المؤهّل، لا المقاتل الميداني.

فدور أهل الثغور في هذا السياق هو تقديم المعطيات الواقعية، لا الاجتهاد في الحكم الشرعي، فالاجتهاد مناطه أهل الفقه والبصيرة

📌 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"والواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا"📚 [مجموع الفتاوى 28/ 256]

⚠️وانتبه لقوله: "أهل الدين الصحيح" فإنه يخرج كلّ من كان منحرف العقيدة أو التوجّه، أو متبعا لهواه أو لقوى خارجية... 


📌وهنا سؤال يطرح إشكالًا مركّبًا وحساسًا، وهو:

ماذا لو كان المقاتلون الذين يتحكمون في قرار القتال: أصحاب توجه حزبي ضيق، أو أداة لقوى إقليمية؟ 


لاشك أنه في هذه الحال لا يُعتد برأي تلك الجماعة منفردة، بل يجب أن يتدخل العلماء المعتبرون أهل الدين الصحيح في الداخل والخارج لإصدار موقف شرعي واضح يعبر عن ميزان الشريعة لا ميزان المصلحة الحزبية أو الطائفية..

لاسيما إذا تعلقت القضية بالأمة كلها، فيجب أن يكون القرار جماعيا وعلمائيا، ولا يقتصر فيه إلا فئة مخصوصة بعلمائها إن وجد... 


❖ ماذا لو انفردوا بالقرار دون الرجوع إلى أهل العلم؟ 


إذا ترتب على ذلك القرار:

• إبادة جماعية،

• دمار شامل،

• تهجير الملايين،

فهم يتحمّلون التبعة الشرعية كاملة، ولا يعذرون بمجرد "سلامة النية"، لأنهم خالفوا أمر الله بالردّ إلى أهل الذكر. قال تعالى:﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾📚 [النساء: 83] 


📌ومن المعلوم أن الاجتهاد الذي يُعذر به صاحبه هو ما صدر عن أهلية، واستفراغ وسع، ومراعاة للشرع والمآل من غير إفراط ولا تفريط.

فمن لم يفرط عذر وإلا فلا 


📌والواجب على علماء الأمة بعد وقوع الواقعة أن يبينوا مواطن الخطأ وأن يجتهدوا في إصلاحه

فالوقوف مع المظلوم والجائع والمقهور فريضة شرعية لا خلاف فيها، ولكن هذا لا يعني السكوت عن أسباب الظلم والجوع والهلاك إذا كانت بسبب قرارات خاطئة أوردت الأمة موارد التهلكة.

فالشرع لا يجيز لك أن تُطعم الجائع، ثم تسكت عمن جعله جائعًا، لاسيما مع وجود من يزين ويسوغ له فعله من علماء السوء، فالسكوت عنه فيه تمكين للخطأ أن يتكرر...وأن ينسب للشريعة..


والكلام يطووول

السبت، 2 أغسطس 2025

هل يُشترط في جهاد الدفع أن يكون هناك هجوم بري مباشر وفوري من العدو؟

 ✍️ جواب السؤال الثاني

✍️ بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار

الحمد لله، وبعد:
فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها إلى تأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع. وفيما يلي الجواب على السؤال الثاني:

❖ السؤال:
هل يُشترط في جهاد الدفع أن يكون هناك هجوم بري مباشر وفوري من العدو؟ أو أن استمرار القتل، والحصار، وتدمير البيوت – ولو جزئيًا – يُعد صيالًا شرعيًا كافيًا لبدء القتال والدفاع دون شروط؟

❖ الجواب:

لا يُشترط في جهاد الدفع أن يكون العدوان هجومًا عاما فوريا مباشرًا أو مستمرًا، بل يكفي لاعتباره "صيالًا شرعيًا" يجب دفعه من حيث الأصل:
وجود عدوان محقق، كالقتل المتكرر، أو تدمير البيوت، سواء كان ذلك مستمرًا أو متقطعًا.

فالقتل اليومي، والاعتقال العشوائي، والتهجير القسري والجزئي، كلها صور من العدوان المتجدد الذي يتحقق به سبب جهاد الدفع، حتى ولو لم يكن الهجوم فوريا ومباشرا.

ومع أن جهاد الدفع من حيث الأصل لا يحتاج إلى شروط، إلا أنه عند التطبيق العملي وتنزيله على واقع خاص فإنه يتطلب في بعض صوره: الاستطاعة الشرعية، وتقدير النتائج والمآلات، وهذا من لوازم إيقاع الفعل الاختياري شرعا وعقلا، ...
فالقتال في جهاد الدفع يكون إما واجبًا مباشرًا أو مقيدًا بالتقدير العقلي والشرعي للمصلحة والمفسدة.
وبهٰذا نَجمع بين:
• أصل شرعي ثابت: وجوب دفع الصائل.
• وقاعدة مقاصدية فقهية: اعتبار المصالح والمفاسد.
• وشرط تطبيقي معتبر: توفر القدرة الشرعية والاستطاعة الواقعية.

وهذا هو التوازن الذي جاءت به الشريعة: الحسم في الأصل، والحكمة في التنزيل.

فـدفع الصائل واجب من حيث الأصل، ولا فرق فيه بين دفع اضطراري لا يُحتمل فيه غير القتال، وبين دفع اختياري تتعدد فيه الوسائل.،

لكن من حيث التطبيق العملي والنزول إلى الواقع يفرق فيه بين قتال دفع اضطراري لا يسع فيه إلا القتال وبين قتال دفع اختياري يسع فيه غير القتال

ففي الثاني: ينظر فيه هل سيؤدي إلى مفسدة أعظم (مثل قتل آلاف من الأبرياء، أو تمكين العدو من اجتياح أعظم)؟
أو هل الوسائل المتاحة غير مجدية وتؤدي لضرر أكبر على الضعفاء؟
فإن غلب على الظن وقوع المفسدة، أو كانت الوسائل المتاحة غير كافية لرد العدوان دون ضرر أكبر، فهنا لا يُلغى الحكم، بل يُؤجَّل تنفيذه حتى تتهيأ أسبابه أو تتغير الظروف.

ومن المعلوم أن الضرر لا يزال بالضرر الأعظم، بل يُرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما، وهذا أصل مقاصدي قطعي..
• فالنبي ﷺ تحمّل حصار الشعب ثلاث سنوات دون قتال، مع أنه كان مظلومًا محاصرًا.
• ولم يُقاتل قريشًا في مكة رغم شدة الأذى، لأن الواقع آنذاك لم يكن يسمح بمواجهة تحقق مصلحة راجحة.
وقد ذكر الأئمة المحققون أن هذه الأحكام لم تنسخ وإنما يعمل بها زمن الاستضعاف...

• ❖ تنبيه مهم:

القول بأن تقسيم جهاد الدفع إلى "اضطراري" و"اختياري" تقسيمٌ محدث لا أصل له، قول غير دقيق، ويُرد عليه من وجهين:

أولًا: هذا ليس تقسيمًا بديلًا أو مُحدثًا، بل تفصيل واقعي داخل إطار جهاد الدفع نفسه، يُقصد به بيان اختلاف الحال من جهة الوسائل المتاحة.
• فثمة حالات لا بد فيها من القتال (اضطراري).
• وأخرى يُمكن فيها اختيار وسيلة أنجع وأقل مفسدة (اختياري).

ثانيا: أن المقصود بقولنا "اضطراري" و"اختياري"، هو: هل هناك سعة في الوسائل أو أن القتال هو الوسيلة الوحيدة المتاحة؟
• فإن كان القتال لا مفرّ منه، تعيّن ووجب (وهو ما يُسمّى دفعًا اضطراريًا).
• وإن كان يمكن الدفع بوسائل أخرى، أو تأجيل المواجهة لتقدير مصلحةٍ أعظم، فهذا يُعد دفعًا اختياريًا، ويخضع لفقه المآلات والترجيح

الجمعة، 1 أغسطس 2025

التفريق بين قتال الدفع الاضطراري وقتال الدفع الاختياري [حرب 7 أكتوبر نموذجا]

 ✍️ د. أحمد محمد الصادق النجار

فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها لتأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع، ثم أعقبت ذلك ببيان الحكم الشرعي، وركزتُ في تلك المقالات على حكم شروع حماس ومن معها من الفصائل في القتال، مع التفريق بين هذا الحكم، وبين ما يخصّ أهل غزة الذين نزل بهم البلاء، وما ينبغي من فقه خاص في التعامل مع مصابهم.

وقد أثارت هذه المقالات عند بعض الفضلاء من المشايخ وطلبة العلم أسئلة دقيقة، ونقاشات علمية رفيعة، عكست رغبةً جادّة في تحرير المسألة وتأصيلها، بعيدًا عن غوغائية الجدل، ومواطن الطعن والتصنيف، وسعيًا جادًا لفتح أبواب الفهم الدقيق للفروق بين باب النصرة وباب التخذيل.

فما كان مني إلا أن وجدتُ نفسي منقادًا للمشاركة في هذا التحقيق، سوقَ المُكرَه لا المُختار، رجاءً أن يجعل الله لما أكتب قبولًا في السماء والأرض، وسائلاً منه سبحانه الإخلاص في القول، والتوفيق في التعبير، والإصابة في الفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

✍️ جواب السؤال الأول:

السؤال: ما المرجع الفقهي الذي اعتمدتَ عليه في التفريق بين "جهاد الدفع الاضطراري" و"الاختياري"؟

الجواب:

إن النوازل التي تنزل بالأمة في هذا العصر، وإن كانت لها أصول في كتب الفقهاء، فإن تنزيل أحكامها لا يكون على وجه المطابقة التامة لما في تلك الكتب؛ لاختلاف الوقائع وتغيّر صورها، إذ إن الفقهاء حينما قسّموا الجهاد إلى جهاد طلب وجهاد دفع، إنما قسّموه لتقريب فهم الأحكام، لا لحصر الواقع فيه.

وفي كثير من الأحوال المعاصرة، لا يتحقّق جهاد الدفع على صورته الخالصة، ولا جهاد الطلب على وجهه الصرف، وإنما تتداخل الأحوال، وتتشابك الوقائع، فيستدعي ذلك من الفقيه أن يُحدِث تفريقًا يناسب الواقع، حتى يُنزّل الحكم الشرعي بدقة وعدل، محافظًا على مقاصد الشريعة وكلياتها.

ومن هذا المنطلق جاء التفريق الذي اعتمدته بين:

• جهاد الدفع الاضطراري: وهو الذي يتنزل عليه كلام الفقهاء القدامى، ومن أخص خصائصه أنه جهاد ضرورة واضطرار، لا خيار فيه، كحال من باغته العدو في داره، فصار القتال هو السبيل الوحيد للبقاء، ودفع العدوان والحفاظ على الارواح.

• جهاد الدفع الاختياري: وهو الذي تنتفي فيه صفة الاضطرار؛ لوجود نوع من الهدوء النسبي أو الاستقرار الجزئي، حيث يكون العدو محتلًا للأرض، لكنه يُبقي لأهلها مساحةً من الحياة، وقد يسمح لهم باختيار من يدير شؤونهم، وإن كانت يده لا تزال قائمة، أو سلطته حاضرة جزئيًا.

وعليه، فإن هذا النوع -أعني الاختياري-لا يُنزّل عليه جميع أحكام الدفع الاضطراري، وإن اشتركا في اسم "جهاد الدفع"، لاختلاف الدوافع والمآلات، مما يوجب تفصيلًا في الحكم الشرعي. فالاضطرار يقتضي أحكامًا تناسبه، فيباح فيه ما لا يباح في غيره (كإسقاط الشروط المتعلقة بالإذن، وو ).
أما الدفع الاختياري، فلا تجري عليه هذه الأحكام بذات الوجه؛ لأنه لا ينبني على ضرورة ملجئة، بل على تقدير للمصلحة والمفسدة، وقراءة للمآلات، وتحقيق للمقاصد.

وفي هذا السياق، فإن الحديث عن غير القتال في حال الدفع الاضطراري تمكينٌ للمحتل وتخذيلٌ للمظلومين، بينما الحديث عن غير القتال أو العمل السياسي أو الدعوي في الدفع الاختياري معتبر شرعًا اي تجري عليه الأحكام في الشريعة، ولا يدخل في باب التخذيل، بل هو وجه من وجوه النصرة، إذا قُدّر أن فيه مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة متحققة أو راجحة.

فهذا التفريق، وإن لم يُذكر بصيغته هذه في كتب الأوّلين، إلا أن معناه مستفاد من كلامهم، ومستنِد إلى قواعد الشريعة وكلياتها، ومنها:
• قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات": تُطبّق في الدفع الاضطراري دون الاختياري.
• قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح": توجب التريث في الدفع الاختياري عند وجود مفاسد راجحة.
• قاعدة: "النظر في المآلات": وهي أصل عظيم في فقه النوازل.
• مقصد حفظ النفس: قد يقدّم في بعض السياقات على القتال نفسه.

وفي ختام جواب السؤال الأول أقول: التفريق بين "الاضطراري" و"الاختياري" ليس اصطلاحًا حادثًا من خارج التراث، بل هو امتدادٌ لفهمٍ مقاصدي، وتطبيق لأصول فقهية متينة، ومراعاة لتغير الزمان والمكان والحال، وهو اجتهادٌ مقصده بيان الحق..