قرأت مقالا أرسله لي أحد الإخوة -هداني الله وإياه- حاول فيه الكاتب أن يفرق بين النصيحة والإنكار، ورتب على هذه التفريق أنه في مقام النصيحة ينصح الحاكم سرا، وأما في مقام الإنكار فينكر عليه علنا وباسمه سواء كان حاضرا أو غائبا...
وهنا أقول:
لا فرق بين نصيحة السلطان والإنكار عليه من جهة سد ذريعة الفتنة العامة
وقد أجمع السلف على أصل كلي وهو: منع كل وسيلة تفضي إلى الخروج أو إثارة الناس على السلطان، وكانوا ينهون عن سبّ الأمراء؛ لما فيه من إيغار الصدور وإثارة الفتنة
ومما يدل على أن النصيحة والإنكار يشتركان في هذا الباب:
حديث عياض بن غنم -رضي الله عنه الذي جاء بلفظ النصيحة-:«مَن أرادَ أن ينصحَ لذي سلطان في أمرٍ فلا يُبدِهِ علانية ولَكِن ليأخذْ بيدِهِ فيَخلوَ بهِ فإن قبِلَ منهُ فذاكَ وإلَّا كانَ قد أدَّى الَّذي علَيهِ لَهُ»
كان سبب وروده منكرا وقع من الحاكم، فقد أنكر هشام بن حكيم -رضي الله عنه- على عياض بن غنم -رضي الله عنه- -وكان أميرا- جَلْدَهُ لصاحب الدارٍ....
فمع أن المقام مقام إنكار سماه نصيحة وجعل الأصل فيه الإسرار.
وبهذا تعلم أن النصيحة وإن كانت أوسع دائرة من الإنكار إلا أن الإنكار إذا تعلق بالحاكم ساوى النصيحة في الإسرار؛ لعلة مظنة الإفضاء إلى الفتنة العامة، ولا ينفك عنه إلا في الصور التي تنتفي فيها مظنة الإفضاء.......
وهذا أصل كلي يُسدّ به باب الفتنة والتهييج، وهو مقدّم على الوقائع الجزئية،والأصوليون يقررون: أن المعنى الكلي إذا عارضه جزئي نادر، قدّم الكلي، ويحمل الجزئي على أحوال خاصة.
قد يُقال: الإنكار العلني وقع من الصحابة والتابعين.
فنقول: نعم، لكنه لم يكن منهجًا مطّردًا ولا أصلاً عامًا، بل كان وقائع عارضة لها سياقات خاصة. والسؤال الأهم: هل الإنكار الذي منعه الأئمة هو نفس ما فعله الصحابة؟ أو أن ما وقع منهم كان استثناءً مقيدًا بظروف؟
للإنكار العلني صور:
الأولى: إنكار الفعل من غير تسمية الفاعل، وهذه الصورة فعلها الأئمة
الثانية: إنكار المنكر أمام الحاكم وبين يديه، وهذه فعلها السلف.
الثالثة: أن يتكلم الحاكم بمسألة شرعية فيُبَين له خطؤه، وهذا الصورة فعلها السلف
الرابعة: ذكر منكر الحاكم وتسميته في مجلس خاص لا يترتب على هذا الذكر فتنة ولا تهييج العامة، وهذه الصورة فعلها بعض السلف
الخامسة: ترك طاعة الأمير في معصية والنهي عن طاعته في ذلك ، وهذه الصورة فعلها ابن عمر رضي الله عنه
السادسة: الإنكار على الحاكم وهو غائب والتشهير به أمام الناس وتسفيهه والطعن فيه، وهذه الصورة لم يفعلها إلا الخوارج وأذنابهم
ويتفق كل من انتسب للسلفية على منعها، وتجويزها لا يصدر إلا ممن تأثر بالفكر المنحرف، وهي علامة ظاهرة على انحراف الرجل وتبدل أصوله...
السابعة: الإنكار على الحاكم وهو غائب بذكر المنكر وتسميته لكن من غير طعن وسب ولا نزع أصل الولاية، مع الأمن من الفتنة، وهذه الصورة هي التي تبناها بعض من ينتسب للسلفية، حيث زعموا أنه لا تلازم بين هذا النوع من الإنكار والخروج ونزع أصل الولاية، واستدلوا ببعض الآثار لكن استدلالهم مردود؛ إذ إن الآثار التي احتجوا بها إنما تعود للصور الجائزة لا لهذه الصورة.
ولو فرضنا أن بعضها يصح الاستدلال به على هذه الصورة
لكن غاب عن هؤلاء المجوزين أن هذه الآثار أفعال اقتضاها واقع خاص وليست هي منهجا مطردا عند السلف ولا أصلا عاما
فكيف يأتي من يجعل العارض أصلا مطردا، ويساوي بين الاستثناء والقاعدة؟!!
وكيف غاب عنهم أن السلف كانوا يحذّرون من الوسائل المفضية إلى الخروج؟!.
ثم إننا في زمن أصبح الإنكار العلني حال الغيبة شعارا على خوارج العصر
فحتى لو قلنا بأن أصلها الجواز إلا أنه لما أصبحت شعارا على الخوارج وعلامة عليهم لم يصح لمنتسب للسلفية أن يقول بجوازها في وقتتا هذا.
فالخوارج في أصلهم فكر قبل أن يكونوا سيفًا مسلطا على الأمة؛ شعارهم التشهير والطعن في الولاة وإيغار الصدور، ثم آل أمرهم إلى السيف. ولهذا عد الأئمة التشهير من سمات الخوارج.
نعم
قال الشيخ الألباني" فإذا الحاكم خالف الشريعةَ علنًا فالإنكار عليه علنًا لا مخالفةَ للشرع في ذلك"،
لكن ما مقصوده بالإنكار؟ وعلى أي صورة يتكلم؟ وهل كان من منهج الشيخ وطريقته التشهير بالحكام وسبهم؟
الجواب، لا، فكلام الشيخ محمول على الصور الجائزة....
كتب د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق