الجمعة، 23 أكتوبر 2020

حكم الاحتفال بالمولد النبوي بنظرة أصولية مقاصدية

 

 حكم الاحتفال

بالمولد النبوي

بنظرة أصولية مقاصدية

 

 

 

د. أحمد محمد الصادق النجار


 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد, فإن من مقاصد الشرع إخراج العبد من اتباع هواه والتسليم التام المطلق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فيكون عبدا لله مستسلما لأوامره, ولذا مُنع من الابتداع في الدين وإدخال ما ليس منه فيه, والكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي فرع تحقيق الكلام في ضابط البدعة, وهذا يستدعي بيان ضابط البدعة ثم النظر بعد ذلك في انطباق هذا الضابط على الاحتفال بالمولد أو لا.

ومفتاح الكلام: ما علة كون الفعل بدعة؟

العلة في البدعة غير محصورة في أمر واحد, وإنما في علتين على سبيل البدل, تستقل كل واحدة منهما عن الأخرى.

وكون كل واحدة منهما مستقلة في التأثير: محله حال الانفراد, لا الاجتماع, أما إذا اجتمعا فإن الحكم يكون أقوى.

ومن الأمثلة: انتقاض الوضوء بالبول والريح والنوم, فهذه كلها علل مستقلة حال الانفراد يثبت بها الحكم على سبيل البدل.

والتحقيق أن للبدعة علتين على سبيل البدل وهما:

1-التعبد والتقرب إلى الله.

2-مضاهاة الطريقة الشرعية, وإجراؤها مجرى الشرعيات.

ومعنى المضاهاة وإجراؤها مجرى الشرعيات: مشابهة الشرعية في الالتزام, والتخصيص بهيئة أو زمان أو مكان أو عدد.

ويؤيد هذا ما سيأتي من أمثلة.

قال الشاطبي في الاعتصام: (( ...فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة , أو زمان مخصوص ، أو مكان مخصوص ، أو مقارناً لعباده مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية ، أو الزمان ، أو المكان ، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه . كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه))

وقال: (( ... فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة؛ لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك ))

وقال السيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع: ((...العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سنناً ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية المتعبد، فإذا أُحدث اجتماع زائد كان مضاهاة لما شرعه الله تعالى وسنة رسوله، وفيه من المفاسد ما تقدم التنبيه عليه، بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحياناً، أو نحو ذلك يفرق بين الكبير الظاهر، والقليل الخفي، والمعتاد وغير المعتاد، وكذلك كل ما كان مشروع الجنس، لكن البدعة فيما اتخاذه عادة لازمة حتى يصير كأنه واجب. ))

والسر في ذلك: أن المضاهاة جعلت أسبابا للحكم الطلبي, فكانت سببا لأن يعتقد فيها أنها سنة, ولها فضيلة؛ ذلك أن من أسباب كون الفعل سنة: الالتزام والمداومة, والتخصيص والتقيد, فأدخل في الدين ما ليس منه, فكان ذلك داخلا تحت حد البدعة.

فتبين لنا: أن وصف البدعة أمران على سبيل البدل.

وهذان الأمران يدخلان تحت حد البدعة؛ لأن البدعة ما أحدث في الدين مما لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم, والدين أعم من العبادة والتعبد.

وهذا الذي ينسجم مع قواعد الشريعة, والمقاصد العامة.

فالحكم بالابتداع على المستحدثة يثبت بوجود إحدى العلتين, وإن لم توجد العلة الأخرى؛ وذلك أن العلة ليست مجموع الأمرين, ولا هي منحصرة في التعبد وحده, ولا يلزم من نفي العلة المعينة: نفي الحكم إذا وجد بدلها وهي العلة الأخرى, كما أن اجتماع العلتين: يوجب توكيد الابتداع.

وهذا التوكيد حصل بمجموع العلتين, لا بإحداهما, فكل واحدة منهما تعتبر جزء علة للمجموع, وهذا لا ينفي الاستقلالية حال الانفراد.

ووجه كون مضاهاة الشرعية, وإجرائها مجرى الشرعيات علة: دوران حكم الابتداع عليها من غير قصد التعبد وجودا وعدما, فإذا وجدت وجد الابتداع, وإذا عدمت عدم الحكم.

ومن الأمثلة على دوران الحكم على هذا الوصف من غير قصد التعبد:

1- التزام شيء معين في زمان أو مكان مع قصد الزمان والمكان.

قال السيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع: (( وكل اجتماع يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة هو المبتدع، ففرق بين ما يفعل من غير ميعاد وبين ما يتخذ سنة وعادة؛ فإن ذلك يضاهي المشروع ))

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع في الالتزام, فالطريقة الشرعية ملتزمة, وتتكرر مع قصد الزمان أو المكان, فإذا انتفت هذه العلة انتفى الحكم فصار جائزا.

 2-التزام قيام الليل جماعة.

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع فيه بالالتزام, فإذا انتفت هذه العلة انتفى الحكم فصار جائزا.

3- تخصيص عمومات النصوص, أو تقييد مطلقها  على طريقة العمل بالمشروع بلا دليل, كتقييد النصوص التي أطلقت الذكر مخصوصة أو عدد مخصوص على طريقة العمل بالمشروع.

قال الشاطبي في الاعتصام: (( ووجه دخول الابتداع هنا: أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً .))

4-الأعياد المحدثة.

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع في التكرار في زمن مقصود, فشابه تكرار عيد الفطر والأضحى في زمن مخصوص مقصود.

ويدخل في ذلك: الاحتفال بالمولد النبوي, فالمحتفل بالمولد النبوي لا يخلو: إما أن يتقرب بذلك إلى الله, وإما أن يفعله على طريقة العمل بالمشروع, وعلى كلا الاحتمالين انطبق عليه حد البدعة بإدخال ما ليس من الدين في الدين.

وأعظم دليل يمنع من الاحتفال بالمولد ترك الصحابة الاحتفال, وهو: إجماع منهم, وتركهم هنا وجودي؛ لوجود سببه ولا مانع.

 وتركهم هذا لا يخلو من حالين:

١-تركهم له مع رؤيتهم له أنه مشروع.

٢-تركهم له مع رؤيتهم له أنه غير مشروع

فأما الأول فباطل قطعا؛ لأنه يلزم منه الطعن فيهم؛ لتركهم المشروع والتفريط فيه، ولخلو زمن عن عمل بالحق مع وجود داعيه ولا مانع.

وأما الثاني فحق، وإذا كان غير مشروع في زمنهم مع وجود داعيه ولا مانع فزمن من بعدهم من باب أولى.

فإن قال قائل: هو عادة من هم بعد الصحابة ووسيلة لمقصد حسن.

قيل: أقَصَّر الصحابة وفرطوا في جعْله عادة ووسيلة، أم هم أشرف ممن جاء بعدهم؛ لمعرفتهم أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من أن يجعل الاحتفال بمولده محل العادات, فالاحتفال بمولده لا يصح أن يجعل عادة محضة، ولو صح أن يجعل عادة فإنه يذم من جهة أن بداية جعله عادة كان من الرافضة.

وعليه أفنترك عادة الصحابة في عدم الاحتفال ونقتدي بعادة الرافضة في الاحتفال؟!

فإن قيل: إذا قصد بالاحتفال استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل، والتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم، من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم، فيكون من باب المصالح المرسلة كجمع القرآن.

قيل: هناك تشابه بين المصلحة المرسلة والبدعة من بعض الوجوه، وبسبب هذا التشابه يقع الخلط بينهما، وقد يستغل ذلك لإمرار البدع، والتلبيس على الناس.

ولذا لا بد من بيان الفرق بينهما؛ ليتضح للقارئ الكريم وجه غلطِ من خلط بينهما:

المصلحة المرسلة هي: المنفعة التي لم يشهد الشارع باعتبار عينها ولا الغائه, إلا أن جنسها يلائم تصرفات الشارع, فالمعنى أو الوصف له جنس اعتبره الشارع في الجملة.

وأما البدعة فهي: ما أحدث في الدين مما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم.

ووجه التشابه بينهما:

١-كلاهما محدث.

٢-اعتبار الشارع جنس الوصف فيهما .

ووجه الافتراق:

١-أن المصلحة المرسلة لا تصادم الشرع، ولا تعارض دليلا خاصا، بخلاف البدعة فإنها تصادم الشرع وتعارض دليلا خاصا.

٢- عدم الفعل في البدع مقصد للشارع، بخلاف المصلحة المرسلة.

٣- المصالح المرسلة وسيلة لحفظ مقصد من مقاصد الشارع، وضروري من الضرورات الخمس، بخلاف البدع فهي إحداث في الدين.

بعد هذا التأصيل نطبق ما تقدم على الاحتفال بالمولد:

الاحتفال بالمولد: جنس منفعته معتبرة وهي: محبته والتذكير بسيرته والاقتداء به, إلا أن عين المنفعة في الاحتفال بالمولد صادمها دليل خاص، وهو ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها مع وجود المقتضي وزوال المانع, وكذلك ترك الصحابة، وهو إجماع منهم.

وهذه المصادمة من أدلة خاصة جعلت حكم الاحتفال بالمولد بدعة لا مصلحة مرسلة.

أضف الى ذلك: أن الذي شرع في يوم الاثنين الذي ولد فيه: الصيام -الذي ينافي الاحتفال وجعله عيدا, فالعيد ينهى عن صيامه-، فلا يجوز ترك المشروع والاشتغال بغير المشروع تذكيرا لمولده.

ثم إن الاحتفال اتخذ عيدا، والعيد شريعة، وقد صار الناس يلتزمونه، وظُن فيه مصلحة، وهي ليست مصلحة لمصادمتها الشرع, فلا يكون الاحتفال وسيلة لمقصد شرعي وانما هو إحداث في الدين.

ولو سلم جدلا أن الاحتفال فيه مصلحة التذكير بالسيرة، وإذكاء المحبة, ففيه أيضا مفسدة، وهي الابتداع في الدين، ولازم الابتداع اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة الأمانة، وفيه فتح الباب لأهل الغلو أن يغلوا في النبي صلى الله عليه وسلم ويرفعوه فوق منزلته, وهذه المفسدة أرجح من المصلحة المتوهمة, ودفع المفسدة الراجحة مقدم على جلب المصلحة المرجوحة، فكيف بالمتوهمة؟!!

ومما ينبغي أن يعلم: أن للمجوزين شبهات يوردونها, منها:

الشبهة الأولى: على افتراض أن الدولة العبيدية أول من أحدث المولد فليس هذا دليلا على المنع؛ فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم يوم عاشوراء من اليهود

والرد من وجوه:

الأول: الذي يشرع التعظيم والاحتفال هو الله, فكل ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون شرعا سواء وافق يوما يعظمه اليهود أو لا, وإنما محل النزاع مع المجوزين أن يشرع الاحتفال غير النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: هؤلاء المجوزون كأنهم – من باب اللزوم- يساوون في تشريع الشرع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرافضة الدولة العبيدية, وهذا كفر نعوذ بالله منه.

الثالث: تعظيم يوم عاشوراء إنما شرع بتشريع الله له لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ تشريعه من اليهود.

 

الشبهة الثانية: أن المولد بدعة حسنة.

والرد من وجوه:

الوجه الأول: أن القول بالبدعة الحسنة حمال أوجه؛ لإطلاق بعضهم على المصلحة المرسلة أنها بدعة, إلا أن البدعة الشرعية لا تكون حسنة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) وهو عموم محفوظ لا مخصص له, ولا قول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن البدعة الشرعية من الاستحسان المذموم, وقد قال الشافعي رحمه الله: ((من استحسن فقد شرع)) أي: نصب نفسه مشرعا مع الله, وهو الاستحسان بمجرد الهوي من غير دليل شرعي, وهذه هي حقيقة البدعة الحسنة التي يدعونها.

الوجه الثالث: ما ورد عن السلف من إطلاق لفظ البدعة على ما كان مشروعا أرادوا به البدعة اللغوية لا الشرعية؛ بدليل أن الفعل الذي أطلق عليه أنه بدعة قد جاء الشرع به, فخرج عن حد البدعة الشرعية؛ لأن البدعة الشرعية هي ما أحدث مما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم, قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم :(( وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه ))

ومن ذلك قول الشافعي: (( البدعة بدعتان بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً وأثراً عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعه ضلاله وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة ))

فأراد بالحسنة ما كان مشروعا, وهذا خارج محل النزاع لو كانوا يفقهون.

الوجه الرابع: قال الشاطبي ردا على من قسم البدعة بحسب الأحكام الخمسة: (( هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو نفسه متدافع; لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي; لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده.

إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة; لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.))

الوجه الخامس: أن الاحتفال بالمولد بدعة شرعية مذمومة؛ لأنه لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم, فهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (( كل بدعة ضلالة )).

 

الشبهة الثالثة: أن يوم المولد فضل بالصيام فيه, فعظم النبي صلى الله عليه وسلم يوم مولده بالصيام, فيصح تعظيمه بالاحتفال؛ قياسا.

والرد عليهم: أن العبادات والتعظيم يقتصر فيه على ما ورد به النص من غير تجاوز له, فنعظم يوم مولده صلى الله عليه وسلم بالصيام؛ لورود النص به دون غيره, كما أننا نصلي الظهر أربعا من غير زيادة على ذلك.

ثم إن التعظيم الذي ورد به النص متعلق بيوم الاثنين, ولهذا يصام كل اثنين من غير أن يختص بشهر معين, ولو كان صلى الله عليه وسلم يريد منا أن نعظم الشهر التي ولد فيه لحدده لنا, فلما لم يحدده دل ذلك على أن المراد تعظيم يوم الاثنين بالصيام فيه لا خصوص الشهر.

وقد اختلف المؤرخون في تحديد الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على عدم قصد الشارع له بالتعظيم.

ثم لو كان الاحتفال مشروعا يوم الاثنين لأرشد إلى ذلك وأومأ إليه, فلما لم يرشدهم مع وجود السبب وانتفاء المانع دل على المنع.

أضف إلى ذلك: أن قياس الاحتفال على الصوم قياس مصادم لإجماع السلف؛ بتركهم الاحتفال مع قولهم بمشروعية الصيام يوم الاثنين, فيكون فاسد الاعتبار.

 

الشبهة الرابعة: أن المولد يستند على أصول شرعية كالأمر بالصلاة عليه, وعليه فإحداثه ليس بدعة ولو لم يعمل به السلف.

والرد من وجوه:

الأول: أن تخصيص عام أو تقييد مطلق لابد فيه من دليل خاص, والا كان تشريعا, وهو خاص بالله وحده.

الثاني: لا يجوز أن يتعدى المشروع إلى غير المشروع, فالأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة سيرته وردت مطلقة فتقييدها بوقت مخصوص من البدع التي تحتاج إلى دليل خاص.

الثالث: إجماع السلف على ترك الاحتفال مع وجود السبب وانتفاء المانع دليل على منعه, ولا يصح أن يعارض هذا الإجماع الخاص بالأصول العامة؛ لأنه دليل خاص على فعل خاص, والخاص يقضي على العام.

 

الشبهة الخامسة: أن جمهور العلماء يرون مشروعية الاحتفال بالمولد.

والرد عليهم: أن إجماع السلف من القرون الثلاثة, بل إجماع العلماء إلى القرن السادس على عدم جواز الاحتفال بالمولد, فأين هؤلاء الجمهور؟!

فإن لم يكن هذا الاجماع حجة على من جاء بعدهم فقد لا يكون هناك إجماع يصح الاعتماد عليه؟

قال الفاكهاني ت734هـ في المورد في عمل المولد: ((لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين؛ بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون ))

 

الشبهة السادسة: قول بعضهم: (من يمنع الاحتفال بالمولد النبوي ينبغي أن يمنع أيضا تنظيم المسابقات في القرآن الكريم والاحتفال به وتوزيع الجوائز على الفائزين...، فكلّ من الأمرين لم يفعلهما النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم ولا الصحابة ولا السلف...، وكلاهما فعل للتعبد والتقرب...).

 والرد عليها من وجوه:

الوجه الأول: تنظيم المسابقات ونحوها إذا كان على وجه التعبد فإننا نلتزم بأنه بدعة، ولا فرق بين الاحتفال بالمولد تعبدا وبين تنظيم المسابقات تعبدا، فكلاهما اشتمل على زيادة عبادة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، والزيادة في الدين كالنقص منه.

الوجه الثاني: أن مُورد هذه الشبهة لم يحسن إيرادها, وسأصحح له الإيراد: اذا كان تنظيم المسابقات الدينية جائزا، فلماذا لا يكون الاحتفال بالمولد كذلك؟, والجامع: وسيلة محدثة لتحقيق مقصد حسن.

والجواب:

١-الأذان للعيد وسيلة لتحقيق مقصد الاجتماع للصلاة ومع ذلك هو بدعة، فانتقض الجامع.

٢-لا نسلم أن الاحتفال بالمولد وتنظيم المسابقات الدينية يشتركان في هذا الجامع؛ لأن الاحتفال بالمولد إحداث في الدين لما جعل عيدا، وكان الزمان مقصودا، أخذ حكم البدعة؛ لأنه جعل طريقة تضاهي الطريقة الشرعية.

بخلاف تنظيم المسابقات فالزمن فيه ليس مقصودا، وهو وسيلة لتحقيق مقصد شرعي.

3-الاحتفال بالمولد يصادم دليلا خاصا، بخلاف تنظيم المسابقات فإنه لا يصادم دليلا خاصا.

 

 الشبهة السابعة: قول بعضهم: إن الاستدلال بصيامه صلى الله عليه وسلم إنما هو في جوابه "ذاك يوم ولدت فيه " وهذه علة الصيام فيقاس على الاحتفال بمولده؛ لاشتراك العلة.

والرد عليها من وجوه:

الوجه الأول: منع أن تكون هذه هي العلة؛ وذلك أن لفظ الحديث في مسلم: وسئل عن صوم يوم الاثنين قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه.

فالعلة مركبة وليست بسيطة, فهي مجموع ما ذكر, والولادة فيه إحدى جزئي العلة، فلا يصح أن تجعل علة وحدها.

ثم إن هذه العلة المركبة لم تجتمع في الثاني عشر من ربيع الاول وانما اجتمعت في مطلق الاثنين، فلا يصح تخصيص الثاني عشر من ربيع الأول بشيء.

الوجه الثاني: إن سلم أنها هي العلة فقط فنمنع من التعدية؛ ذلك أن هذه العلة قاصرة فلا يتعدى بها محلها.

ومما يدل على أنها قاصرة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاحتفال بمولده مع وجودها، وكذلك لم يعدها أحد من السلف.

الوجه الثالث: لو سلم بتعديتها فالاحتفال بالمولد عارضه دليل خاص، وهو الترك، فيكون قياس الاحتفال على الصيام قياسا فاسد الاعتبار.

الوجه الرابع: أن الفرع معلوم الحكم وهو التحريم، لترك النبي صلى الله عليه وسلم, ومن شرط الفرع: ألا يكون معلوم الحكم.

 

وأختم الكلام في حكم الاحتفال بالنظر إلى الواقع وما أفضى إليه القول بالجواز, فإن واقع المحتفلين بالمولد النبوي وهو واقع الكثير أو الغالب أنه يصاحب احتفالهم أدعية تشتمل على أمور شركية وبدعية كالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الحاجات منه, وكذلك يصاحب احتفالهم ألعابا نارية تهدر فيها الأموال وتذهب ببعض الأعضاء وربما الأنفس؛ حتى صار هذا الواقع  مصاحبا للاحتفال في الكثير أو الغالب مصاحبة لا تنفك, فأصبح الاحتفال وسيلة إلى وقوع حرج في الضرورات الخمس؛ لأنها سبب للتعدي على الدين وسبب لقتل الأنفس.

 فلو سلمنا جدلا بأن احتفال من قبيل العادة التي تصيره مباحا, فالقاعدة الشرعية المقاصدية أن كل ما أدى إلى المفسدة كثيرا أو غالبا تأتي الشريعة بالنهي عنه وإن كانت فيه مصالح, ولذا حرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم, ونهى عن بناء المساجد على القبور, وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

قال الشاطبي في الموافقات (3/ 85): (والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني)

ولا يقال: الأصل فيها الإباحة؛ لأن المقصود بالأشياء هنا التي لم يدل دليل على النهي عنها إما بدليل كلي أو جزئي, والمانعون يقولون: فيها ضرر غالب أو كثير , وهذا يستدعي تحريمها.

ولا يقال أيضا: وسيلة لها أحكام المقاصد؛ لأنها- بالنظر المتقدم- تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم.

ولا يقال أيضا: تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأنها تفضي إلى الحرام.

هذا كله إذا سلم أنه غير منهي عنها ابتداء.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق