الحاكمية ومناط التكفير بها عند أهل السنة والخوارج
الحلقة الرابعة
ذكرنا في مقالات سابقة أن الخوارج ضلوا في مفهوم الحاكمية، وأن من الكتب التي اعتمدوا عليها في التكفير بالمفهوم الخاطئ للحاكمية: كتب المودودي وكتب سيد قطب رحمهما الله
قال العشماوي في كتاب التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين ١٥٩:( وصلتنا رسالة من سبد قطب وهو في سجنه في عشر صفحات مكتوبة بخط اليد في العقيدة، أوصانا بوحوب تصحيح الاعتقاد أولا، وبدراسة كتب معينة منها كتب للمودودي وخاصة المصطلحات الأربع)
وقال الرجل الثاني للقاعدة أيمن الظواهري في كتابه فرسان تحت راية نبي الجزء الأول ص ١٠:(فقد كانت وما زالت دعوة سيد قطب -إلى إخلاص التوحيد لله والتسليم الكامل لحاكمية الله ولسيادة المنهج الرباني- شرارة البدء في إشعال الثورة الإسلامية ضد اعداء الإسلام في الداخل والخارج، والتي ما زالت فصولها الظانية تتجدد يوما بعد يوم)
وقال ابو مصعب السوري في كتاب دعوة المقاومة الإسلامية ٣٨:(رائد الفكر الجهادي في العصر الحديث كان بلا شك سيد قطب)
وقال القرضاوي في كتابه اوليات الحركة الإسلامية ص ١٢٣:(في هذه المرحلة ظهرت كتب الشهيد سيد قطب التي تمثل المرحلة الأخيرة من تفكيره والتي تنضح بتكفير المجتمع وتدعو إلى العزلة الشعورية عن المجتمع وقطع العلاقة مع الآخرين وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة...)
إلى غير ذلك
فتبين لنا بوضوح مصدر فكر خوارج العصر كالقاعدة وداعش...
ومع ذلك لم تخل كتب منظريهم من ذكر بعض إطلاقات في النصوص الشرعية وفي كلام أهل العلم التي لم يحسنوا فهمها مع بتر وإغفال الأوصاف المؤثرة.
نعود إلى موضوع الحلقة
فموضوع هذه الحلقة الذي يجب أن نركز عليه ونحققه هو: مناط التكفير بالحاكمية عند الخوارج.
مناط التكفير بالحاكمية عندهم: مجرد ترك حكم الله أو مجرد التشريع من دون الله.
فجعلوا مجرد التشريع أو مجرد ترك الحكم من الكفر العملي بنفسه الذي يضاد أصل الإيمان، ولم ينظروا فيه إلى الاستحلال والامتناع مطلقا.
وجعلوه مناط التكفير في كل صورة من صور الحكم بغير ما أنزل الله.
وذهب منظر القاعدة سيد إمام في كتابه الجامع إلى أن المناطات ثلاثة كلها ترجع إلى أن الفعل في نفسه كفر أكبر فقال في ص٨٩٨:(المناطات المكفرة التي ذكرناها في هذه المسألة: ترك حكم الله، أو تشريع ما يخالفه، أو الحكم بتشريع مخالف)
لكن يمكن إرجاع الأخيرين إلى مجرد التشريع سواء شرع بنفسه أو أخذ بتشريع غيره.
وإذا حققنا القول وجدنا أن الحكم بغير ما أنزل الله لا ينفك عنه التشريع؛ لأنه ما من حكم إلا ويجب أن يصاحبه تشريع؛ لأن الحكم بغير ما أنزل الله يتضمن ترك شرع الله والحكم بشرع آخر سواء شرعه هو أو أخذه من تشريع غيره.
والقياس الذي نصوغه لهم؛ لبيان حكم الحكم بغير ما أنزل الله بجميع صوره عندهم هو:
الحكم بغير ما أنزل الله تشريع من دون الله، وكل تشريع من دون الله كفر في نفسه مضاد للإيمان سواء استلزم انتفاء أصل الإيمان في القلب أو لا
إذن الحكم بغير ما أنزل الله كفر في نفسه مضاد للإيمان سواء استلزم انتفاء أصل الإيمان في القلب أو لا.
وكذلك قياس آخر:
الحكم بغير ما أنزل الله بكل صوره ترك لحكم الله، وكل ترك لحكم الله كفر في نفسه مضاد للإيمان سواء استلزم انتفاء أصل الإيمان في القلب أو لا
إذن الحكم بغير ما أنزل الله كفر في نفسه مضاد للإيمان سواء استلزم انتفاء أصل الإيمان في القلب أو لا.
هذا هو قياسهم.
وقد رد عليهم أئمة أهل السنة بعدم التسليم بالمقدمة الكبرى، ووجه الغلط عندهم: أن ترك الحكم أو فعل التشريع كفر عملي منه ما يضاد الإيمان إذا تحقق مناطه وهو إذا انتقض معه أصل الإيمان الذي في القلب، ومنه ما لا يضاد الإيمان.
ولو كان في نفسه كفرا أكبر مضادا للإيمان كما ذهب إليه الخوارج ما قبل هذا التقسيم.
ثم إن التكفير بمطلق التشريع منقوض بالمبتدع، وأيضا بمن حكم غير شرع الله هوى وظلما أو في مسألة عند من يرى أنه كفر أصغر.
أضف إلى ذلك: أن التشريع الذي يقتضي التكفير ما فيه منازعة لحق الله، وهو ما كان عن تكذيب أو امتناع لا مطلق التشريع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (3/267-268)-: ((الشرع المبدل: وهو الكذب على الله ورسوله...فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع))
فالمنازعة تكون في جعله دينا كما قال تعالى:[أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين]
فأهل السنة لا يجعلون مناط التكفير بالحاكمية ترك الحكم أو مطلق التشريع، ولا يرون أنه كفر في نفسه مضاد للإيمان، وإن حصل بينهم نزاع في التشريع المخصوص الذي يستلزم الاستحلال أو الامتناع كما سيأتي بيانه.
قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره [2/ 42]:( اعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ويقولون من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة لا يكفرون بترك الحكم).
فتبين لنا مناط التكفير بالحاكمية عند الخوارج قديما وحديثا
فلو أن رجلا: حكم بغير ما أنزل الله كفر عند الخوارج عينا؛ لأنه حكم بغير ما أنزل الله.
ولو سن قوانينا كفر عينا؛ لمجرد الفعل.
ولو شرع تشريعا عاما كفر؛ لمجرد أنه شرع.
ورتبوا عليه:
١-بطلان ولاية الحكام وترك طاعتهم.
٢-وجوب خلع الحاكم.
٣-أن قتال الحكام وجيوشهم مقدم على قتال غيرهم؛ لأنهم أقرب.
٤-أن الدار التي يحكم فيها بغير ما أنزل الله دار كفر وردة.
٥-أن القضاة وأعضاء البرلمان ومجلس الأمة والذين ينتخبونهم والجنود كفار كفرا أكبر.
وانظر كتاب الجامع لسيد إمام ٩٢٠ وما بعدها
ورموا خصومهم بمذهب المرجئة!!؛ لأنهم لما رأوا أن مطلق الحكم بغير ما أنزل الله كفر في نفسه كان من اشترط فيه الاستحلال مرجئا، كما قال سيد إمام في كتابه الجامع ص٨٩٧:(...القول بمقالة غلاة المرجئة الذين يشترطون الجحد في الذنوب المكفرة)
وقال سيد إمام في الجامع ص٩٣٤:(أن الذنوب المكفرة بذاتها كالحكم بغير ما انزل الله لا يشترط للتكفير بها جحد ولا استحلال، بل من اشترط هذا فقد قال بقول غلاة المرجئة).
ولا مدخل لمذهب المرجئة في تقرير أهل السنة؛ لأن مطلق الحكم بغير ما أنزل الله ليس من الذنوب المكفرة في نفسها المضادة للإيمان، ولا مطلق التشريع؛ لأن منه ما يستلزم انتفاء أصل الإيمان في القلب ومنه ما لا يستلزم.
ثم إن المرجئة لا يصفون الفعل المضاد للإيمان بكونه كفرا إلا من جهة أنه دليل على كفر الباطن، ولا يرون استلزاما بين كفر الظاهر وكفر الباطن، فقد يكفر عندهم ظاهرا ويكون عند الله مؤمنا.
ويجب التنبيه هنا إلى أن هناك فرقا بين من جعل مطلق التشريع أو ترك الحكم كفرا عمليا في نفسه مضادا للإيمان
وبين من جعل التشريع المخصوص كفرا أكبر؛ لكونه يلزم منه الاستحلال أو الامتناع كما ذهب إليه بعض علماء أهل السنة، وإن كنت لا أقول به ...
فمن جعل ترك مطلق الحكم كفرا في نفسه وهم الخوارج لم يفرقوا بين صور الحكم بغير ما أنزل الله، فيستوي الأمر عندهم في ترك حكم مسألة أو مسائل، وفي تغيير الشريعة كلها أو بعضها، وفي سن القوانين والإلزام بها أو لا...
وأما من جعل التشريع المخصوص هو مناط التكفير؛ لكونه مستلزما الاستحلال أو الامتناع خص التكفير بالتشريع العام وسن القوانين والتبديل، لا لكونها كفرا في نفسها، وإنما لكونها تدل على مناط التكفير وهو الاستحلال أو الامتناع.
وكذلك في تنزيل الحكم على المعين؛ فمن جعل ترك مطلق الحكم كفرا في نفسه أنزله على المعين من غير تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
ومن جعل التشريع المخصوص دليلا على المناط الشرعي لم ينزله على المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
فعلماء أهل السنة في مقابل الخوارج؛ منهم من يرى أن سن القوانين ليست كفرا أكبر إلا إذا صاحبها استحلال او امتناع ظاهر، فمجرد الفعل لا يستلزم الاستحلال او الامتناع مطلقا، ومنهم من يرى أنه كفر أكبر؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من استحل أو امتنع فيكون التشريع العام مستلزما الاستحلال أو الامتناع مطلقا -وهذا عندي خطأ ظاهر-
وهم كلهم يرجعون ذلك إلى مناط الكفر الحقيقي في المعين وهو الاستحلال أو الامتناع.
وهذا بخلاف ما يفعله الخوارج.
(وقد ناقشت القول الثاني في رسالتي الأصول الجامعة التي ترجع إليها مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
( https://t.me/dr_alnjar/588
والخلاصة المهمة: أن علة التكفير عند الخوارج: مجرد التشريع، أو مجرد ترك الحكم بما أنزل الله..
فيرون أنه من الكفر العملي الذي يضاد أصل الإيمان، ولا ينظر فيه إلى استحلال أو امتناع مطلقا وبأي وجه، وهذا لم يقل به أحد من أئمة أهل السنة..
وقد تأثر بشيء من هذا الفكر بعضٌ من مشايخ الصحوة، فأخذوا بأحد مناطي التكفير عند الخوارج؛ فجعلوا مطلق التشريع كفرا أكبر عمليا يضاد الإيمان من غير نظر لكونه يستلزم نفي أصل الإيمان القلبي أو لا، ولم ياخذوا بمناط ترك الحكم بإطلاق، فيرون أن تحكيم القوانين والأعراف والتقاليد من مطلق التشريع لا من مطلق الحكم، كما قال أحدهم:(أما التشريع فهو كفر أكبر بدون تفصيل ، وهو كفر أكبر عملي لا ينظر فيه إلى الاعتقاد ، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } )
وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة.
يتبع بإذن الله...
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق