[مراعاة مقصد الشارع في مسألة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد وأثره في المرفوع والموقوف]
اعتنى بعض الباحثين بتضعيف الأحاديث والآثار الواردة في مسألة اجتماع العيد والجمعة؛ ظنا منهم أن الفقه يثبت بمجرد صحة الأسانيد أو ضعفها, أو بمجرد جمع الآثار من غير بيان انتظامها مع قاعدة الشريعة!!
وغفلوا عن النظر في مقصد الشارع الذي هو التخفيف والتيسير في تشريع الأحكام المتداخلة, والذي انتظم عليه فقه الصحابة في هذه المسألة, وبيان أثره في الحكم الشرعي وتقوية الأحاديث التي تحتمل التحسين من الناحية الحديثية؛ إذ إن ثبوت المعنى مما يقوي جانب الاجتجاج بها إذا لم يكن الضعف شديدا في الأسانيد, وهذه طريقة المحققين الذين جمعوا بين علوم الشريعة وأدركوا العلاقة بينها وانتظام الشريعة عليها جميعا.
وتقرير ذلك: أن من رحمة الله بخلقه وتيسيره الأحكام عليهم أن رفع المشقة على العباد بتكرار عملين مقصودهما واحد, فرخص لهم في إدخال أحدهما في الآخر, وهو أمر اطردت عليه الشريعة في الطهارة والصلاة والصيام والكفارات إلى غير ذلك
وقد اشترك العيد والجمعة في صلاة ركعتين ووجود خطبة وفي كونها عيدا وفي مقصود الشارع, وهو الاجتماع
والقياس يقتضي أنه إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد وكان مقصودهما واحدا دخلت إحداهما في الأخرى
إلا أن شهود العيد لا يسقط الظهر وإنما يسقط الجمعة وينتقل إلى بدلها, بمعنى أن مقصد الشارع من فرض الجمعة تحقق في صلاة العيد فرخص في ترك الجمعة والانتقال إلى بدلها وهو الظهر
وليس هو من باب ترك الفرض بالسنة كما صوره بعض أهل العلم
وقد لاحظ الصحابة مقصد التيسير ورفع الحرج في اجتماع العيد والجمعة, ومن الصحابة:
1-عثمان بن عفان؛ فقد جاء في صحيح البخاري (7/ 103) قال أبو عبيد: ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: «يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له»
فعثمان رضي الله عنه رتب الرخصة على ما فهمه من مقصد الشارع, وهو الذي عهده عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما نص على أهل العوالي؛ لأن المشقة عليهم أعظم, وأخذهم بالرخصة أبلغ, وإلا فمعلوم أن أهل العوالي لهم أن يترخصوا بعدم حضور الجمعة ولو لم تجتمع مع العيد.
2-علي رضي الله عنه؛ ففي مصنف ابن أبي شيبة (2/ 7) عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: اجتمع عيدان على عهد علي، فصلى بالناس، ثم خطب على راحلته فقال: «يا أيها الناس، من شهد منكم العيد فقد قضى جمعته إن شاء الله»
وفيه عبد الأعلى الثعلبي ضعيف, لكن تابعه عبد الله بن شبرمة عند عبد الرزاق في المصنف (3\305)
وأخرجه عبد الرزاق (3/ 305) عن ابن جريج قال: أخبرني جعفر بن محمد، أنهما اجتمعا وعلي بالكوفة فصلى ثم صلى الجمعة، وقال حين صلى الفطر: «من كان هاهنا فقد أذنا له كأنه لمن حوله يريد الجمعة»
وكذا أخرجه عن معمر عن صاحب له عن علي به
وأخرجه الفريابي في أحكام العيدين من طريق قتادة عن الحسن قال: اجتمع عبدان ...
فمجموع هذه الرويات تدل على ثبوته عن علي رضي الله عنه, ولما لم يكن التخصيص بأهل العوالي مقصودا لم يقيد علي رضب الله عنه الرخصة به.
3-ابن الزبير؛ فقد أخرج النسائي في سننه (3/ 194) عن وهب بن كيسان، قال: «اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة»، فذكر ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة.
فراعى ابن الزبير مقصد الشارع, وظاهر صنيعه أنه أخر الصلاة إلى وقت الجمعة؛ مراعاة لمقصد التيسير
ولعل أقرب الأقوال أن ابن الزبير أخر الصلاة إلى دخول وقت صلاة الجمعة فصلاها جمعة قبل الزوال لا عيدا.
قال ابن تيمية: (والقول الثالث: وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد. وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير وغيرهم. ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف) مجموع الفتاوى (24/ 211)
وأما الأحاديث المرفوعة كحديث إياس وأبي هريرة وإن كان في أسانيدها ضعف إلا أن لها من الشواهد وموافقة مقصد الشارع ما يقويها, وهي من الناحية الحديثية تقبل التحسين.
ولذا احتج بها جماعة من أهل العلم.
وقد أشكل على بعض طلبة العلم التداخل الذي يكون بين العيد والجمعة إذا اجتمعا في يوم واحد
ووجه الإشكال عندهم أن الجمعة فرض والعيد سنة، ولا تسقط السنة الفرض؛ بناء على الاشتباه بين الاندراج والتداخل من جهة
وعلى الاشتباه بين ما كان مقصودا لذاته وما ليس مقصودا من جهة أخرى
أما الأول فالتداخل أعم من الاندراج والتشريك، ولا يلزم من عدم صحة اندراج الأعلى في الأدنى منع التداخل بينهما؛ إذ التداخل يكون بإعطاء حكم واحد لأمرين مقصودهما واحد
ومن أمثلة التداخل بين واجبين مقصودهما واحد: من أجنبت ثم حاضت فيكفيها غسل واحد
وأما الثاني فليس اجتماع العيد والجمعة من باب اجتماع أمرين مقصودين لذاتيهما، وإنما هو من باب اجتماع عبادتين غير مقصودتين لذاتيهما
فصلاة العيد ليست مقصودة لذاتها، وصلاة الجمعة ليست مقصودة لذاتها؛ فصح التداخل..
وإنما لا يصح التداخل بين الفرض والسنة إذا كان الفرض مقصودا لذاته والسنة غير مقصودة لذاتها كاجتماع غسل الجنابة مع غسل الجمعة فهنا يدخل غسل الجمعة في غسل الجنابة لا العكس؛ لأن غسل الجنابة مقصود بينما غسل الجمعة ليس مقصودا لذاته، فيجزئ غسل الجنابة عن غسل الجمعة
ومسألة اجتماع العيد والجمعة ليس فيهما شيء مقصود لذاته فصح التداخل والإجزاء
ثم إن التداخل في العبادات يكون محله الأسباب لا الأحكام..
وأما ما يستمسك به من يمنع التداخل من الأدلة الدالة على وحوب صلاة الجمعة، والأدلة الدالة على صلاة العيد، ومشروعية تعددهما لتعدد موجبهما
فنقول: نحن لا ننكر أن الأصل هو تكرار العمل بتكرر سببه وموجبه
ولكن لما كانت الشريعة ترعى رفع الحرج والمشقة كان التداخل -من هذه الجهة-استثناء من أصل، وإنما عُدل عن الأصل لوجود دليل ومرجح أقوى.
وهو في بابه موافق للقياس.
والخلاصة:
من أخذ بالعزيمة فصلي العيد والجمعة فقد أحسن
ومن أخذ بالرخصة فصلي العيد ولم يصل الجمعة وإنما صلى بدلها وهو الظهر؛ لتحقق مقصود الاجتماع بالعيد
فقد أحسن
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
استاذ مساعد بكلية علوم الشريعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق