الاثنين، 3 مايو 2021

إخراج زكاة الفطر نقدا بالنظر إلى الأصل وما يرفعه نظرا مقاصديا

 

إخراج زكاة الفطر نقدا

بالنظر إلى الأصل وما يرفعه نظرا مقاصديا

د. أحمد بن محمّد النّجار

كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد؛ فالأصل في المخرَج من زكاة الفطر ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما قال: فَرَضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الفِطْرِ -أو قال: رمضانَ- على الذكر والأنثى، والحُرِّ والمملوكِ: صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، قال: فعدلَ الناسُ به نصفَ صاعٍ من بُرٍّ على الصغيرِ والكبيرِ.

وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: كنا نُعطِيها في زَمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقطٍ، أو صاعًا من زبيبٍ.

فلما جاء معاويةُ وجاءت السَّمراءُ. قال: أُرى مُدًّا من هذا يعدِل مُدَّيْن.

قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزالُ أُخرجُه كما كنتُ أخرجُه.

وحكمة مشروعيته: طهرة للصائم، وطعمة للمساكين, وإغناء للفقراء عن السؤال يوم العيد.

والظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (فرض ... صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ ): يحتمل أن المنصوص عليه مقصود بعينه لا يجوز العدول عنه, ويحتمل أن المنصوص عليه ليس مقصودا لذاته فيجوز العدول عنه.

فليس هذا الحديث من باب النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا, وإنما هو من باب الظاهر الذي يحتمل معنيين بالنظر إلى مراد المتكلم.

وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما يحتمله اللفظ من المعاني؛ ليخرج ظاهره عن النصوصية، لا على أنه يجزم بإرادة واحدة منها فهذا يحتاج إلى دليل.

وما من عالم في الجملة إلا ونظر إلى المعنى وخرج عن مقتضى اللفظ من وجه, كمن قدم إخراجها بيوم أو يومين, وكذا من جوز إخراج ما يقتات وإن لم يكن منصوصا عليه, أو نفى أن الاختيار في المنصوص عليه وإنما أرجعه إلى ما يقتات في البلد.

ونظيره: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بلى نصلي، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم.

فمع أن اللفظ ورد بصيغة الحصر إلا أن المقصود من اللفظ يحتمل بالنظر إلى مراد المتكلم, وهذا يخرجه عن كونه قطعي الدلالة.

والأقرب في حديث بني قريظة: من خرج عن مقتضى اللفظ ونظر إلى المعنى؛ فخصص العموم بالقياس, وصلى الصلاة في وقتها.

وفي مسألتنا – المخرج من الزكاة- اتفق الفقهاء على إجزاء إخراج المنصوص عليه من الأجناس, واختلفوا فيمن قدر على المنصوص عليه فأخرج غيره:

 فالصحيح عن مالك وأكثر أصحابه, وهو مذهب أحمد: أن المنصوص عليه مقصود, فلا يعدل عنه إلى غيره مع وجوده, ولا يجوز إخراج القيمة.

واحتجوا:

أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر أجناسا معدودة، فلم يجز العدول عنها، كما لو أخرج القيمة؛ وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض، فما أضيف إلى المفسر يتعلق بالتفسير، فتكون هذه الأجناس مفروضة فيتعين الإخراج منها، ولأنه إذا أخرج غيرها عدل عن المنصوص عليه، فلم يجز.

والأصل اعتبار عين المنصوص عليه, فلو تبدل أو تغير اسمه لم يجزئ.

قالوا: والإغناء يحصل بالإخراج من المنصوص عليه.

وذهبت الحنفية وروي عن مالك وعن طائفة من أصحابه كما ذكر ذلك ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة, وروي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن وأبي إسحاق السبيعي ويحيى بن معين والثوري وغيرهم: أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق لا من حيث إنه عين, فيجوز أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم، أو دنانير، أو فلوسا، أو عروضا، أو ما شاء.

ففي مصنف ابن أبي شيبة (2/398) في باب إعطاء الدراهم في زكاة الفطر

قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام عن الحسن قال: (لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر)

وقال: حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون ، قال: سمعت كتاب عمر   بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة (يؤخذ من أهل  الديوان من أعطياتهم، عن كل إنسان نصف درهم).

وقال: حدثنا وكيع، عن قرة، قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر ( نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته  نصف درهم )

وقال: حدثنا أبو أسامة، عن زهير، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: «أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام»

وأبو إسحاق السبيعي أدرك جماعة من الصحابة.

وقال يحيى بن معين في زكاة الفطر: ( لا بأس أن يعطي فضة) تاريخ ابن معين

وقال الثوري: ( لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير جاز؛ لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة, وسد حاجتهم في هذا اليوم )

واحتجوا أيضا:

قياسا على جواز فعل الساعي إذا أخذ عن السن غيرها أو بدل العين منها.

وأن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة.

وأن النص معلول بالإغناء, والأصل اعتبار مراد النص.

ولأن بعض الصحابة عدلوا عن المنصوص عليه مراعاة للمعنى والعلة؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير» قال عبد الله رضي الله عنه: «فجعل الناس عدله مدين من حنطة» أخرجه البخاري

ولوجود الحاجة للمال, وتحقق المشقة بعدمه, وهذا يقوي جواز إخراج القيمة؛ تيسيرا على المسلمين.

والأقرب: إخراج الزكاة طعاما؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين..

ولأن الأصل في الكفارات: الطعام, وصدقة الفطر من جنس الكفارات.

ولأن المقصود من الإطعام في زكاة الفطر: المواساة بجنس ما يحصل به الإفطار من رمضان؛ إذ إن سبب إيجابها: الفطر من رمضان, والفطر إنما يكون بالطعام, فناسب أن تكون الزكاة طعاما.

 وهو أيضا مناسب للمقصود من يوم العيد, فيوم العيد يوم أكل وشرب, فناسب أن تكون الزكاة طعاما.

وأقرب إلى العلة المنصوصة وهي قوله: (طعمة للمساكين).

ولأن النظر إلى القيمة لم يعتبره الشارع؛ لتفاوت قيم الأصناف المذكورة, وإنما الذي اعتبره الشارع هو الصاع.

فهذا هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلا لمقتض يقوى على الأصل في تحقيق مقصود الشارع

وعليه فإخراج زكاة الفطر قيمة يجوز إذا وجدت الحاجة وتحققت المصلحة, فالحاجة بالنسبة إلى المزكي, والمصلحة بالنسبة إلى الفقير, كأن يكون عند المزكي مال وليس عنده طعام, أو يطلبها المستحقون مالا؛ لعدم انتفاعهم بالطعام إما لكثرته عندهم أو نحوه, أو تكون المصلحة العامة في بلد متحققة في دفع القيمة.

وقد جاء في البيان والتحصيل: سئل -أي: مالك- عن الرجل لا يكون عنده قمح يوم الفطر، فيريد أن يدفع ثمنه إلى المساكين يشترونه لأنفسهم، ويرى أن ذلك أعجل؛ قال: لا يفعل ذلك، وليس كذلك قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ومن رواية عيسى قال ابن القاسم: ولو فعل لم أر به بأسا. اهـ

ولا يصح التوسع باسم المصلحة, فالمصلحة المعتبرة هي التي تحافظ على مقصود الشارع ومراده من زكاة الفطر.

وإعمال المصلحة  والحاجة هنا: ليس فيه معارضة للنص, وإنما هو أخذ بأحد احتمالات النص, فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرض صاعا من طعام, يحتمل أنه أوجب عين المنصوص عليه, ويحتمل أنه أوجب المنصوص عليه من جهة أنه مال متقوم يحصل به الإغناء, فتأتي المصلحة وترجح أحد الاحتمالين.

وليس هذا من باب مصادمة النص؛ لدخوله في معنى النص, ولكون المصلحة الشرعية دليلا.

وليست هي من المصلحة المتوهمة؛ لأن المصلحة المتوهمة هي التي تعارض قطعيات الشريعة.

والخلاصة أن جواز إخراج القيمة للمصلحة والحاجة؛ يدل عليه وجوه:

الوجه الأول: مراعاة العلة وهي: مواساة الفقير وإغناؤه في يوم العيد عن المسألة, وهذا الإغناء يحصل بكل ما هو متقوم.

الوجه الثاني: أن الحكم معقول المعنى, وليس تعبديا.

الوجه الثالث: دل على اعتبار المصلحة ما جاء عن طاووس، قال لما قدم معاذ اليمن، قال: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة.

ذكره البخاري بصيغة الجزم, قال ابن حجر في فتح الباري: (إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب)

وقال الشافعي في الأم: (وطاوس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه على كثرة من لقي ممن أدرك معاذا من أهل اليمن فيما علمت)

وقال البيهقي: (طاووس وإن لم يلق معاذا إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهودرة )البدر المنير

وقوله" وخير للمهاجرين بالمدينة" تأكيد للنظر في المعنى والعلة واعتبار المصلحة.

ومعاذ كان ينقلها إلى المدينة: إما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذا من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم,  وإما بعد موته في حضرة الصحابة فيكون اتفاقا منهم على جواز ذلك؛ للمصلحة.

وإذا جاز إعطاء القيمة في زكاة المال؛ مراعاة للمعنى وهو أوجب فجوازها في زكاة الفطر أولى.

قال البخاري في صحيحه: ( باب العرض في الزكاة )

وقال في (2/ 116): ((وقال طاوس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: «ائتوني بعرض ثياب خميص - أو لبيس - في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدقن ولو من حليكن» فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العروض"

وعن أنس رضي الله عنه حدثه: أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: «ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء» أخرجه البخاري

فأمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج بنت لبون، عن بنت مخاض، ويزيد المصدق عشرين درهما أو شاتين، وهذا على طريق القيمة.

 قال المازري وهو من المالكية: (وإخراج القيم بدل العين في الزكاة، ذلك أن القصد من الزكاة هو إزالة خلة الفقراء، وقد عيّن الشارع لمن وجبت عليه الزكاة ما يخرجه من شاة أو حقة أو ابن لبون أو تبيع فمن راعى المعنى قال بجواز إخراج القيمة لأنها تحقق قصد الشارع. ومن راعى لفظ النص قصر المخرج على ما جاء به النص).انظر: شرح التلقين،

وأما النظر المقاصدي لإخراج زكاة الفطر نقودا إذا دعت الحاجة أو المصلحة ففي النقاط الآتية:

أولا: الأصل في النص أنه معقول المعنى.

ثانيا: لا تعارض بين النص والمقصد الشرعي؛ لأن كليهما دليل.

ثالثا: للنصوص ألفاظ ومعانٍ، فمتى كان المعنى ظاهرا فإننا نوسع به الحكم، فيشمل الحكم: الملفوظ وغيره مما يدخله في المعنى المقصود للشارع.

رابعا: إذا كان للنص أكثر من تعليل فإعمال هذه التعليلات هو من إعمال النص ولا يعد هذا مصادما للنص.

خامسا: شمولية الشريعة ومراعاتها لأحوال الناس وحاجاتهم يقتضي إعمال المعاني الواسعة التي يدخل فيها المنصوص وغيره.

سادسا: من أصول الأدلة اعتبار المصالح الشرعية وإجراء الأحكام عليها.

سابعا: ما علم مقصود الشارع منه فإنه يراعى هذا المقصد فيما هو في معنى الملفوظ وفيما هو أولى منه.

ثامنا: أن ما تقتضيه المصلحة في وقت يكون هو الأفضل وإن كان مفضولا في غيره.

تاسعا: من المقاصد التفصيلية التي اعتبرها مجوزوا إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة: مراعاة مصلحة الفقير بما يتناسب مع حاجته في وقته وما يتحقق به الإغناء.

عاشرا: موافقة النص بلفظه ومعناه أولى من موافقته باللفظ دون النظر إلى كامل المعنى الظاهر.

وأخيرا: روعي في زكاة الفطر،المصالح الحاجية لا الضرورية.

 

تنبيه: الأدب في هذه المسألة الاجتهادية التي تتجاذبها الأدلة لمن رأى عدم إجزاء إخراج القيمة ألا يقطع بعدم إجزائها, كما  قال أبو داود قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم - يعني في صدقة الفطر - قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

خاتمة:

مما يعد  خطأ علميا القول بأن إخراج زكاة الفطر نقدا مصادم للنص؛ ذلك أن هناك فرقا بين العدول عن ظاهر النص الملفوظ وبين كون الشيء مصادما للنص, فهو عدول عن المنصوص لا النص

فلو كان الحديث لفظه: لا يجزئ إخراج الزكاة إلا طعاما، أو نحو ذلك مما يفيد الحصر،  لكان غير المحصور مصادما للنص.

بينما نجد أن الحديث الوارد في زكاة الفطر منطوقه: إخراج الطعام, وما عد الطعام إن لم يدخل في النص لفظا ولا معنى فإننا نطبق عليه قاعدة الترك:" ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وزوال المانع حرام"

وأما إن دخل في معنى النص؛ لتوفر العلة فيه، فلا يصح أن يكون مصادما للنص وإنما يعد عدولا عن الملفوظ, ولا نعمل فيه قاعدة الترك.

 

هناك تعليق واحد: