هل الأصل في التعامل مع أهل البدع في الأصول هو اللين والمخالطة؟
يجيب عن هذا الإمام ابن عبد البر المالكي وهو يتكلم عن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وتخلفه: (وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام عنه) (التمهيد 4/87).
ويقول البغوي في سياق كلامه عن نفس الحديث(وقد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا، مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم) ( شرح السنة 1/227)
[وليس المقصود الخروج عن حد الأدب والعلم والعدل
ولا تغليب لغة القدح والطعن في النيات
ولا نفي التعاون في المشتركات العامة بما تقتضيه المصلحة الراجحة ولا تترتب عليه مفسدة راجحة
ولا نفي حقوق الإسلام...]
فهناك فرق كبير بين أن يجعل الأصل هو اللين ثم تستثتى الشدة في أحوال؛ لمرجح قوي
وبين العكس...
وقد دلت إطلاقات النصوص في التعامل مع الذين يخوضون في آيات الله بالباطل على المجانبة والإعراض عنهم...
ولما أُخبر ابن عمر -كما في صحيح مسلم- عن القدرية الأُوَل قال: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني)
ولم يجعل الأصل هو اللين!!
ولهذا جاءت إطلاقات السلف بالهجر وعدم المجالسة والشدة...
حتى قال ابن بطة: ( ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنون أهل الأهواء ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صَبَوا إليهم)
وجَعْلُ الاصل: الشدة التي تقتضيها النصوص الشرعية وفقه السلف لا الشدة المبنية على الأهواء وتصفية الحسابات الشخصية، هو الذي يستقيم مع الأصول؛ ذلك أن المبتدع لما كان موجب هجره ومجانبته متحققا فيه ومتلبسا به ولازما له -وهو البدعة في الأصول- اقتضى ذلك أن يجعل الأصل فيه المجانبة والشدة
ولا يُخرَج عن ذلك إلا لمعارض راجح يقتضي التخصيص؛ فيكون مستثنى من الأصل لرجحان مصلحة الاستثناء...
واختلاف العلماء في التطبيق الواقعي مبني على أن الواقع مبني على الموازنة، وليست هي قواعد رياضيات النتيجة فيها واحدة
فالعلماء تقرر عندهم أن الأصل المجانبة ولا يخرج عنه إلا لمرجح قوي
ولما كانت المرجحات ظنيات كان من الواضح أن يختلفوا في تقدير المصالح.
(وما ضر جماعة من طلبة العلم إلا ظنهم أن القواعد في الشريعة قواعد رياضية مبنية على التجريد التي تنتج نتيجة واحدة فيما يرجع إلى باب الموازنة بين المصالح والمفاسد)
والكلام هنا في بيان الأصل لا في تعليق الهجر والمجانبة ودفع أخف الضررين بباب المصالح والمفاسد عند التنزيل، فقد تتعذر إقامة الواجبات إلا مع من فيه بدعة، فتكون مصلحة تحصيل الواجب أعظم من مصلحة هجران المبتدع
وقد تكون بين كافر ومبتدع فتكون مصلحة تأليف المبتدع الذي تتم به المحافظة على أصل الدين أعظم...
وقد يكون ضرر المبتدع أعظم من تحصيل الواجب....
وكون الأصل الشدة لا يعني ظلمه والتعدي عليه أو نفي أن يكون مستحقا للموالاة بقدر ما فيه من خير...
ومعرفة الإنسان الأصل الذي دلت عليه إطلاقات النصوص الشرعية تفيده في البقاء عليه وعدم الخروج عنه إلا لمرجح أقوى
والخروج لا يكون عنه بالكلية وإنما في جزئيات...
وقد أخطأتْ هذا الباب طائفتان:
الأولى: طردوا اللين والمجالسة مع المبتدع في كل حال، وسووا بينه وبين السني من كل جانب؛ بناء على أن الأصل هو اللين.
الثانية: طردوا الشدة والهجر من غير نظر في الاستثناءات التي تقتضيها المصلحة الراجحة ويؤدي فواتها إلى تضييع ما هو أوجب؛ بناء على أن الاصل هو الشدة.
قال ابن تيمية : (ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم، واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هو للمسلين، هذا أفضل. فبيّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك، واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاءإذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء)
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق