ما ثبت على خلاف القياس هل يقاس عليه؟ أو المستثنى من أصل محكم هل يصح القياس عليه؟
هذه المسألة معروفة عند الأصوليين، ولهم فيها -في الجملة- قولان:
قول بعدم جواز القياس على المستثنى من الأصل، وذهب إليه أكثر الأحناف.
وقول بجواز القياس عليه إذا ظهرت علته وانضبطت وأمكن تعديتها، وذهب إليه الجمهور .
فعندما يقوم إمام أو عالم بجمع نصوص الباب والنظر في عمومها وخصوصها وإطلاقها وتقييدها ومنطوقها ومفهومها وناسخها ومنسوخها، ثم يستخرج من ذلك قاعدة شرعية في الباب أو أصلا يعود إليه الباب
ثم يأتي نص على خلاف الأصل بأن يخرج المسألة عن نظائرها في الباب
فهذا الذي يقال فيه على خلاف القياس(مع التجوز في التعبير) أو مستثنى من أصل..
ويتجاذبه أمران:
الأول: أصل الباب أو الحكم الكلي لمسائل الباب.
الثاني: الدليل الخاص الذي استوجب خروج الفعل عن الحكم الكلي
كبيع العرايا...
فبيع العرايا الأصل الذي يرجع إليه أنه ربا
لكنه استثني بنص خاص فجوزه...
والمقرر عند الأئمة أن المسألة لا تخرج عن نظائرها إلا لمرجح خاص ويسميه الأحناف الاستحسان، وهو نوع منه..
ويجب أن يكون الدليل الذي يصح إخراج المسالة به عن بابها: خاصا يقوى على رفع الأصل، أما إذا ضعف عن رفع الأصل فإنه لا يكون موجبا لإخراج المسألة عن أصلها...
ومنه الاحتمال في النص فإنه لا يقوى لرفع الأصل..
والذي عليه المحققون أن المسألة التي خرجت عن نظائرها يجب أن يكون لها معنى مختص أوجب الخروج بها عن نظائرها المتشابهة معها في الصورة، وليست هي مطابقة لمسائل الباب الأخرى من كل وجه..
ولذا أصبحت أصلا بنفسها يصح القياس عليها إذا كان لها نظير وتوفرت فيها شروط القياس ولا دليل يقتضي تخصيصها بالحكم دون غيرها ...
والأقرب من قولي الأصوليين هو صحة القياس عليها؛ لأن مدار القياس على ظهور العلة وإمكان تعديتها، وهي هنا كذلك..
وهذا يجعلنا في باب البدع المتعلقة بالتشريع نُسَوِّر المسألة التي خرجت عن نظاهرها بحيث يحدد الحكم الذي خرجت فيه عن أصل الباب، فيقتصر الاستثناء عليه؛ لقوة دليله وعدم احتماليته
وما عداه من الأحكام فيجب أن توافق أصل الباب.
ولا يصح رفع الأصل باحتمال وارد في النص
ولو فتحنا باب الاحتمال؛ لرفع الأصل لفُتح باب البدع على مصراعيه...
ولذا كان رفع الصوت بالتكبير في عيد الفطر عند أبي حنيفة بدعة؛ لأنه على خلاف الأصل عنده، ويرى أن ورود الأثر بالجهر بالتكبير في عيد الأضحى لا يقوى على رفع الأصل.
وإن كان الراجح خلاف ما ذكره أبو حنيفة في المسألة لا في التأصيل...
وهنا يرد سؤال وهو هل يستحب الجهر بالتكبير والتسبيح دبر الصلوات الخمس في غير عيد الأضحى؟
هذه من المسائل التي حصل فيها خلاف بين الأئمة
فاستحب الجهر بعض الحنفية واختاره ابن تيمية في غير التكبير وابن عثيمين
واستندوا على ما ثبت في الصحيحين عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رفعَ الصَّوتِ بالذِّكرِ حينَ ينصرِفُ النَّاسُ مِن المكتوبةِ كان على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))،
قال ابنُ عبَّاسٍ: ((كنتُ أعلَمُ إذا انصرَفوا بذلك إذا سمِعْتُه ))،
وفي لفظٍ: ((ما كنَّا نعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بالتَّكبيرِ )
وذهب أكثر العلماء على أنه لا يشرع الجهر...
وعلى قول أكثر أهل العلم ومقتضى أدلتهم يكون رفع الصوت بالتكبير في عيد الأضحى مستثنى من الأصل
فرفع الصوت في أيام عيد الأضحى استثناه الدليل الخاص المنقول عن الصحابة.
وهذا الدليل خص تكبير أيام العيد عن نظائرها ب:
٢-رفع الصوت.
٢-الاجتماع على الذكر .
٣-التكبير الجماعي.
فهذه الصورة المركبة لولا الدليل الخاص على تجويزها لكان حكمها أنها بدعة
وهي الصورة التي أنكرها ابن مسعود على أهل الحلق...
فالدليل الخاص في تكبير العيد قوي على رفع الأصل المحكم في هذه الأمور الثلاثة..
وبقي أمر رابع وهو تَقَصُّد أن يكون التكبير بصوت واحد على وتيرة واحدة، فهذا الأمر لم يقو الدليل الخاص المنقول عن الصحابة على تجويزه؛ لكونه ورد في الآثار محتملا
فلم يقو على رفع الأصل الذي هو المنع من التكبير الجماعي بصوت واحد...
فهو وإن احتملته بعض الآثار المنقولة عن الصحابة إلا أن هذا الاحتمال مرفوع بأصل الشريعة في باب الذكر، فباستقراء مسائل باب الذكر وجدنا أنه لم يشرع فيه أن يكون الذكر بصوت واحد قصدا، حتى في التأمين وراء الإمام
فلم يطلب الشارع تقصد أن يكون بصوت واحد على وتيرة واحدة، وإنما رتب الفضل على موافقة تأمين الملائكة وأمر أن يبتدأ المأموم تأمينه عقب ابتداء تأمين الإمام فيحصل الصوت الواحد ضرورة؛ للاتفاق في الابتداء
والأجر مرتب على موافقة تأمين الملائكة لا على أن يكون التأمين بصوت واحد...
وليس هناك دليل خاص غير محتمل يوجب إخراج التكبير في العيد عن نظائره التي لا يشرع فيها أن تكون على صوت واحد
ولا له معنى يختص اعتبرته الشريعة يوجب الخروج في هذه الجزئية-التكبير الجماعي بصوت واحد- عن بقية الباب
وهو غريب عن نظام الشريعة ليس له شاهد واقعي في منصوص الشريعة
كما أن في الخروج بالتكبير عن نظائره في هذه الجزئية مدخلا لبدع التشريع...
وهذا يستوجب علينا فهم الآثار المنقولة على أصل الباب وقواعد التشريع، وأن نقطع الاحتمال الوارد بقواعد الشريعة الحاكمة والمفسرة.
وهذا ما فهمه الأئمة، وجرى عليه عمل المسلمين..
ولا يصح أن نجعل هذا من الخلاف السائغ، وإن كنا لا نرى الإنكار الشديد؛ لخفاء تأصيل المسألة على البعض..
وأما عدم ورود نص خاص يمنع التكبير بصوت واحد فهذا لا يقتضي تسويغ الخلاف فضلا عن تجويز الفعل؛ لأن قاعدة الشريعة وأصل الباب كافيان في المنع.
وهذا من دقيق النظر الذي ينبغي أن نتنبه له عند تقرير المسائل...
والله أعلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق