فقه الأولويات في إصلاح الأمة
هل الإصلاح الديني الداخلي مقدم على العمل السياسي، أو أن العمل السياسي والانشغال باختيار الحاكم والنظر في سياسته وما يحيكه الغرب والدخول في صدام معه مقدم على الإصلاح الديني؟
بمعنى هل أزمة الأمة تبدأ من الإنحراف العقدي ووقوعها في البدع والمعاصى مما كان سببا في تسلط الأعداء وتمكن الفساق
أو أن ازمة الأمة تبدأ بحكامها وتصرفاتهم والنظر في غزو الكفار الفكري ومصادمة الأنظمة عن طريق تيارات وحركات وأحزاب؟
وإجابة هذا السؤال ترجع إلى المنطلقات التي ينطلق منها المجيب والمرجعية الفكرية له، وعلى ضوء ذلكم اختلف من انشغل بملف الإصلاح في الإجابة على هذا السؤال
فمن شخص داء الأمة في الانحراف العقدي ووقوع البدع وانطلق من كونها تصادم مقاصد أصلية جعل الانشغال بإصلاحها هو أعظم الأولويات وسبيل عز الأمة الوحيد ...
ومن شخّص الداء في الحكام والغرب وانطلق من كونها مقاصد أصلية انشغل بالعمل السياسي والحكم وجعل همه قضايا الأمة ومصادمة الأنظمة مع إغفال الإنحراف العقدي والكلام عن الطوائف والبدع لكونه تبعيا لا أصليا
فهذان طريقان للتشخيص والعلاج لا طريق آخر غيرهما
وبالضرورة إذا بطل أحدهما تعين الآخر..
وإذا نظرنا إلى الشرع وجدنا أنه جعل المقصد الأعظم الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح: تحقيق عبودية الله سبحانه
وجعل القاعدة التي ينطلق منها الرسل الأفراد والشعوب
ومنع كل ما كانت مفسدته الراجحة تمس الدين أو الأنفس أو الاموال أو الأعراض
واعتنى بحفظ الدين والأنفس أكثر من اعتنائه ببقية الضرورات
وجعل ما يذهب الأنفس أعظم مما يذهب نوعا من الدين وهو الذي يكون أقل رتبة من حفظ النفس...
وإذا نظرنا لمن سلك في سبيل الإصلاح مسلك مصادمة الأنظمة وجعل من وسيلة ذلك إنشاء تيارات وحركات وأحزاب وجعل أولوياته مصارعة الحكام والدخول معهم وتحت مظلتهم في العمل السياسي أو من سلك مسلك مصادمتهم بالتكفير والخروج والدعوة إلى المظاهرات المناهضة
وجدنا أنه لم يتحقق به الإصلاح؛ بل انقلب إلى ضده وهو الإفساد
إما بالذوبان مع هذه الأنظمة والانخراط في دهاليزها حتى جعلت الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة، واضطروا للسكوت عن كثير من فساد الأنظمة، وعطلوا كثيرا من تنظيرهم الإصلاحي بحكم الواقع وسطوة الأنظمة، وحتى انحيازهم لقضايا الأمة أصبح من منظور مصلحي خاص بالتيار او الحركة او الحزب...
وإما بإشعال نار الحروب في بلدان المسلمين حتى أذهبت الضرورات الخمس فانتهكت الأنفس واعتدي على الأعراض وذهبت الأموال وعطل شيء من الدين وتمكن الكفار من بلدان المسلمين وتدخلوا في شؤونها الداخلية وشيطنوا الإسلاميين
وحتى انحيازه هؤلاء لقضايا الأمة تجده من منظور تحريضي فوضوي عاطفي لا يخدم القضية بل يزيدها تعقيدا.
فهذا الاتجاه لا يمكن أن يكون طريقا شرعيا؛ للإصلاح، وإذا بطل هذا الاتجاه من أن يكون طريقا للإصلاح تعين الطريق الآخر الذي تكون الأولوية فيه لإصلاح عقائد الأمة وسلوكها والرجوع بها إلى ما كان عليه الصحابة وأتباعهم بالحكمة والموعظة الحسنة
مع الالتفات بقدر ما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة لقضايا الأمة وإصلاح الأنظمة
فيكون المقصد الأصلي إصلاح الناس والمقصد التبعي إصلاح الأنظمة ونحوها
مع عدم إغفال الغزو الفكري على أن تقوم به طائفة متأهلة ترفع عن الامة فرض الكفاية، ولا يفتح الباب لكل متصدر؛ خشية الوقوع في الفتنة.
ولا يعني هذا عدم الاشتغال بالعمل السياسي، أو إخراجه مطلقا عن طريق الإصلاح، ولا نقد المشروع لكونه سياسيا، وإنما المقصود ألا يجعل أولوية ومقصدا أصليا للإصلاح ويكون مدار الولاء والبراء؛ لأمرين:
الأول: لم يكن سبيل الأنبياء في إصلاحهم، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
الثاني: ما أثبته الواقع من تباين المشاريع واختلافها وعداوة بعضها لبعض، وما أثبته أيضا من فشلها وعدم قدرتها على الإصلاح، بل جرت الويلات على المسلمين، وما أثبته ثالثا من بُعد مشاريع الحركات والتيارات تدريجيا عن أصول الإسلام وكليات الشريعة.
وأخيرا: إذا عُلم هذا واتضح تبين لنا أن الاشتغال بقضايا الأمة يختلف باختلاف المنطلق والمرجعية الفكرية
فمن اشتغل من منطلق الإصلاح الداخلي كان اشتغاله بذلك من الاشتغال بقضايا الأمة، فهو لم يضيع قضاياها بذلك.
وأغرب ما في الباب من يتذبذب في الاهتمام بقضايا الامة بين المنطلقين، فتراه يسير في آليته العملية في الكلام عن قضايا الأمة بخلاف مرجعيته الفكرية أو العكس
فلا هو حافظ على منطلقاته ولا هو عالج الأمر معالجة صحيحة.
ومثاله: من يعالج ملفا بالتحريض والتهييج والخطاب العاطفي مع أن منطلقه يدعو إلى عدم المصادمة.
وكذا من يعالج ملفا بالعلم والنظر إلى المآلات ودفع المفاسد الكبرى باحتمال الصغرى مع أن منطلقه يدعو إلى المصادمة.
كتبه ناصحا وموجها
د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق