الامتحان المشروع
بالأشخاص
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فالأصل أن الإنسان يمتحن بالسنة ومدى موافقته لها؛ لأن السنة وحي
من عند الله, وهي معصومة.
فيمدح الإنسان بموافقتها, ويذم بمخالفتها.
والامتحان لا يصح إلا بما تضمنه الدليل الشرعي؛ لأن الله أوجب على
الناس اتباع الدليل الشرعي, وعلق النجاة ودخول الجنة على طاعة الله وطاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: [ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم].
وهذا مبسوط في موضعه.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يمتحن بما دل عليه الدليل, كامتحانه
للجارية لما سألها: أين الله؟ فأجابت في السماء.
وكان السلف أيضا يمتحنون بما تضمنته الأدلة الشرعية موافقة أو مخالفة؛
فذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (6/ 200) بسنده عن مهدي بن هلال يقول: (( أتيت
سليمان فوجدت عنده حماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وبشر بن المفضل وأصحابنا البصريين،
فكان لا يحدث أحدا حتى يمتحنه فيقول له: الزنى بقدر ؟ فإن قال: نعم استحلفه ان هذا
دينك الذي تدين الله به ؟ فإن حلف حدثه خمسة أحاديث )).
وقال الذهبي: (( قال معاذ بن معاذ: كان سليمان التيمي لا يزيد كل واحد منا
على خمسة أحاديث، وكان معنا رجل، فجعل يكرر عليه، فقال: نشدتك بالله أجهمي أنت ؟...))
وأما الامتحان بالأشخاص فلا يخلو:
1-أن يكون الشخص الممتحَن به قد جاء الثناء عليه في الكتاب والسنة بعينه,
كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة.
فكل من أثنى الله عليه, أو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل
الجنة فإن المدح والذم يعلق بحبه وببغضه.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من
الإيمان.
فيمتحن بحب الصحابة, فمن أحبهم فهو من أهل المدح, ومن أبغضهم فهو من أهل
الذم.
والامتحان بهم يرجع إلى الامتحان بالسنة؛
لكون السنة قد وردت بمدحهم والثناء عليهم.
قال البربهاري في شرح السنة للبربهاري (116): (( وإذا رأيت الرجل يحب أبا
هريرة وأنس بن مالك وأسيد بن حضير فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله )).
2-من لم يرد فيه نصٌّ بالثناء عليه ومدحه .
فهنا نجد الأئمة يمتحنون ببعض أهل السنة,
وببعض أهل البدع, لا بكل من كان من أهل السنة, أو كان من أهل البدع؛ وذلك راجع إلى
معنى كلي, من أجله فرقوا بين سني وسني, ومبتدع ومبتدع.
وإن الناظر في هذه المسألة عليه أن يبحث عن هذا
المعنى الكلي؛ ليلحق الشبيه بالشبيه, وحتى يتسنى له أن ينزل هذا المعنى الكلي على
العلماء الذين يعاصرونه, فيحقق المناط.
ومن لم يعرف هذا المعنى الكلي فلن يتمكن من تحقيقه في المعينين, وسيقع في
ظلم وجهل.
والمتتبع لواقعنا المعاصر يرى توسعا في
الامتحان بالأشخاص من غير تحقيق للمعنى الكلي فيمن يمتحن به, ومن غير دراية بمن
يستحق الامتحان.
وترتب على ذلك: التجني والهوى والظلم, وإخراج الناس من
دائرة أهل السنة بلا موجِب شرعي.
والمعنى الكلي الذي ترجع إليه مسألة الامتحان
بالأشخاص:
الإمامة في السنة, فلابد أن يكون الشخص الممتحَن به: إماما
في السنة.
ولا يكون إماما في السنة إلا إذا كان من أعلم
الناس بها, ومحل اتفاق بينهم.
وكذا في المقابل: الإمامة في البدعة.
ومن استقرى كتب السلف؛ تبين له إمامة من امتُحن الناس به, وإجماعهم على
هذا.
قال ابن مهدي: (( رجلان من أهل الشام إذا رأيت رجلا يحبهما فأطمئن إليه
الاوزاعي وأبو اسحاق كانا إمامين في السنة )) تهذيب التهذيب (1/ 132)
وقال أبو عبيد: (( إني لا تدين بذكر أحمد, ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه
)). سير أعلام النبلاء (11/ 196)
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 553): (( ...وكان الإمام - الذي ثبته
الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن
وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام
الله غير مخلوق )) .
فخرج بذلك: من لم يكن إماما في السنة, ومن لم يكن
إماما في البدعة.
فمن امتحن الناس بمن لم يكن إماما في السنة, أو إماما في البدعة فإنه يكون
قد أخطأ, ووقع في بدعة؛ لمخالفته للأدلة, وفعل السلف.
وهذا المعنى الكلي يرجع إلى السنة نفسها, فكان
المادح المحب لهذا الإمام هو في الحقيقة مادح ومحب للسنة, والمبغض له مبغضا للسنة.
وكذا يرجع إلى الإجماع, فجاز امتحان الناس به؛ لإجماع أهل السنة
على إمامته في السنة, والإجماع حجة.
فرجع جواز الامتحان به إلى الدليل الشرعي, ولم
يكن من باب تنصيب رجل يوالى ويعادى عليه.
والخلاصة: أن مرجع الامتحان المشروع بالأشخاص: الكتاب
والسنة والإجماع.
فمن جاء التنصيص عليه بالثناء والمدح في الكتاب والسنة كان دليل الامتحان
به: الكتاب والسنة والإجماع.
ومن لم يأت التنصيص عليه من الأئمة ممن اتفق أهل السنة على غمامته في
السنة كان الدليل عليه: الإجماع.
وبالتالي: لم يتجاوز أهل السنة في الامتحان بالأشخاص
الأدلة الشرعية.
ومن خرج عما تضمنته الأدلة فمدح به فإنه يكون قد خالف السلف,
ووقع في البدعة.
ومن هنا: يعلم خطأ من يمتحن بمن لم يكن إماما في
السنة أو في البدعة, فضلا عمن اختلف فيه, وتجاذبته الأنظار.
ويزداد الأمر شناعة: إذا رُتِّب على ذلك: الولاء والبراء,
والقطيعة والهجر, والرمي بالبدعة.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 414): (( والإعراض عن ذكر يزيد بن
معاوية وامتحان المسلمين به فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة فإنه
بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة وأنه من أكابر
الصالحين وأئمة العدل وهو خطأ بين )) .
وأنبه في ختام هذا المقال: إلى أنه لا يصح امتحان
كل أحد, وإنما يمتحن من وجدت
فيه الحاجة المعتبرة لامتحانه, كمن جُهل حاله, وارتيب فيه, فيمتحن بمن كان إماما
في السنة, أو بمن كان إماما في البدعة؛ لأن الامتحان قرينة لمعرفة حال الرجل, بخلاف
من عُرف بالسنة فإنه قد عُلِم حاله فلا نحتاج إلى امتحانه.
ومرجع ذلك إلى تحقق المصلحة الراجحة.
وتحقيق المصلحة الراجحة يختلف من مكان إلى
مكان, ومن زمان إلى زمان, ومن شخص إلى شخص.
وهذا الامتحان قرينة لمعرفة حاله, فإذا تبين لنا أن
الطعن فيمن ثبتت إمامته لأمر خارج عن السنة والإجماع, كجهله به, ونحو ذلك, ككلام
يحيى بن معين في الشافعي, فهنا لا يكون القدح مخرجا له عن السنة.
فينبغي التنبه لهذا.
ومن الخطأ امتحان من عُرف بالسنة بمن قُدح فيه بما
ليس بقادح, أو بمن اختلف فيه أهل العلم المعتبرون.
ومن آفة ما وقع فيه بعض أهل زماننا: الامتحان بمشايخ من
أهل السنة لم يصلوا إلى درجة الإمامة في السنة, وهذا من الخطأ البين؛ لخروجهم عن
مقتضى الشرع, وفعل السلف.
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق
النجار
22-6-1437هـ