الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فإن الله جل وعلا نوَّع مسائل دينه ما بين جزئي وكلي, كما جعل فقها؛ مستقرئا من طريقته وعرفه وأدله شرعه في ترتيب الأولويات, وتقديم ما تدعو الحاجة إليه مما هو واجب الوقت عن غيره عند التعارض وعدم الجمع.
ولهذا كان الفقه كل الفقه في اتباع الطريق النبوي والمسلك الأثري في التعامل مع الجزئيات والكليات والتحديات العامة التي تواجه الأمة, وهو في الجملة مراعى فيه فقه المصالح والمفاسد, ولا يتكلم فيه إلا أهل المقاصد مما نظر إلى الشريعة الغراء نظرة تأمل وتدبروفق منهج أبي بكر في قتال اهل الردة ومنهج عمر في جمع الناس على إمام واحد في التراويح ومنهج عثمان في إحداث الأذان الأول للجمعة ومنهج علي في قتال الخوارج.
ولا يتكلم فيه من لا خبرة له ولا تقدير فينتج عنه استغراق في الجزئيات مع إعراض عن الكليات أو استغراق في الكليات مع إهمال الجزئيات, أو إهمال الكليات والجزئيات بدعوى أنه لا وقت لهما؛ لأن الأمة في حرب مع أعدائها.
وإن ما تمر به البلدان الإسلامية -ومنها ليبيا- من خور وضعف وتكالب الأعداء ليجعل العالم يدور ما بين بيان الجزئيات والتذكير بالكليات والاعتناء بواجب الوقت, فنهوض البلدان الإسلامية إنما هو باتباع طريق نبيهم وما عليه سلف الأمة وأئمتها, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بواجب وقته مع التذكير بالكليات وتصحيح الجزئيات في نمط متناسق يحقق المقصود وترقى به الأمة.
ومن أمثلته: ما جاء عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب " أخرجه البخاري
وهو في غزوة خيبر يستعد لقتال المشركين جاءت مناسبة للكلام على أمر مهم فتكلم عنه صلى الله عليه وسلم مع اهتمامه بواجب وقته, فجمع بين الكلام عن جزئي؛ مراعاة لكلي مع الاستعداد لقتال العدو.
لكن من لا خبرة له ولا فقه قد يظن أن هذا الفعل لو صدر من غير النبي صلى الله عليه وسلم لكان ملاما؛ لتضييعه -في ظنه القاصر- واجب الوقت .
فليس من إهمال الكليات وعدم الاعتناء بواجب الوقت: التنبيه عما تدعو إليه الحاجة من الجزئيات, ويستدعي الوقت إلى التنبيه عليها بالبيان الشرعي, بل لا تعارض بين تعليم الكليات والتنبيه على الجزئيات مادام أن الوقت يسع لهما.
وهذه وقفة لمن يطلق القول بأن الكلام عن مسائل جاء وقتها كزكاة الفطر نقودا أو طعاما والاحتفال بالأعياد ونحو ذلك أنه من العبث ونحن نشهد حروبا ووو
فهذا بإطلاق منكر؛ لأنه من الدين وقد قام مقتضي بيانه فكان الواجب بيانه بالطريق الشرعي والهدي النبوي بما يحقق المقصود, مع اشتغال العلماء الراسخين- لا كل أحد- بالأمور العامة التي تتعلق بالأمة؛ فهذا من خصائص الراسخين في العلم [فلو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم]
لكن لما خاض كل أحد في كل شيء اشتبه الأمر وتعدددت الآراء, وتناحر الناس, ولو علم كل واحد واجبه ووقف عنده لقل الخلاف
وصلى اللهم على نبينا محمد