أحكام الطلاق
وفق الاجتهاد المقاصدي
د. أحمد بن محمّد النّجار
أستاذ مادة العقيدة بقسم أصول الدين
كليّـة علوم الشّريعة
الحقوق محفوطة
للمؤلف
[لا
بأس بنشرها وطبعها على ما هي عليه]
الأولى:1442هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فالطلاق له حالان: حال يكون فيها الطلاق خادما لأصل
ضروري أو حاجي أو تكميلي فيكون محبوبا لله من هذه الجهة راجحَ الفعل, وحال لا يكون
فيها خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي فيكون مبغضا لله راجح الترك, ولما كان له
حالان صح تعلق الحب والبغض به.
فتعلق الحب به من جهة كونه
دفعا للحرج والمشقة, فإذا لم يحصل توافق في الأخلاق بين الزوجين وظهر تباين في الطبائع
أو خُشي مفسدة في نكاحها أو تفويت مصالح, أو كان المقام معها سبب فساد دينه ودنياه,
فهنا يصبح الطلاق مصلحة راجحة, ويتعلق به الحب.
إلا أنه لما كان التحقق من
كون النكاح ليس مصلحة في حقه يحتاج إلى ترو وفكر وتجربة جعل الشارع له طلقتان
رجعيتان؛ حتى لا يندم ويقع في الحرج.
وأما تعلق البغض به فمن
جهة كون الطلاق إبطالا لمصلحة النكاح, وإبطال المصلحة مفسدة.
قال الشاطبي: (...ترك للحلال
الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة،
واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا
النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض
أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ...) ([1])
وهذا البحث سيسلط فيه
الضوء على الحالين وفق نظرية اجتهادية مقاصدية, مع بيان مقصود الشارع من باب الطلاق,
وبناء الأحكام عليه.
فالشارع الحكيم وضع
الشريعة لمصالح العباد, ولاحظ في تشريعه ما يطرأ على العبد من عوائق ومشاق تخرج
على المعتاد, فشرع مخارج لها تقي العبد من الوقوع في الحرج, فكان لزاما على العبد
أن يطلب ما شرعه الله إذا وقع في حرج ومشقة حتى يخرج منهما؛ وحتى يكون فعله خادما
لضروري أو حاجي أو تكميلي, فمن طلب المخرج الشرعي من وجهه أصاب مقصود الشارع, ومن
طلب المخرج من غير وجهه تعدى ووقع في ضد المقصود.
والطلاق السني يرجع إلى المصالح
الحاجية, ودوران الحاجيات على التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق.
فالطلاق المسنون هو الطلاق
لحاجة([2])؛ وذلك أن الإنسان قد يحتاج إلى إنهاء النكاح لما ترتب
على زواجه من مفاسد, ولكونه لم يحقق مصالح دينية ولا دنيوية, أو كانت مفاسد زواجه
ترجح على المصالح, فيحتاج إلى حسمه بالطلاق؛ وحتى لا يقع في الندم شرع له دفع هذا
الحرج بطلقة واحدة في طهر لم يمس المرأة فيه, ثم ينظر بعد ذلك في أمره في وقت
رغبته للجماع, فله أن يراجعها أو يطلقها تطليقة أخرى بعد انقضاء عدتها؛ وهذا يدل
على رجحان الطلاق عنده؛ لأنه وقت الرغبة إليه والحاجة ([3]).
ونظرا إلى هذا المقصد
الشرعي يكون من طلق ونوى به الإبانة قد ناقض مقصد الشارع وغيَّر الشرع, فتلغى نيته.
ويكون من طلق ثلاثا بلفظ
واحد أو في مجلس واحد كأن يقول لامرأته: "أنت طالق ثلاثا" قد ناقض مقصد
الشارع, وخالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ومن خالف السنة فإنه يرد إلى
السنة, فتحسب عليه طلقة واحدة, مع وقوعه في الإثم.
قال ابن تيمية: (وهذا القول
منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, مثل: الزبير
بن العوام وعبد الرحمن بن عوف, ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول
كثير من التابعين ومن بعدهم: مثل طاووس وخلاس بن عمرو؛ ومحمد بن إسحاق؛ وهو قول داود
وأكثر أصحابه؛ ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ولهذا
ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل). ([4])
وإذا كان الطلاق راجعا
للحاجة, فالأصل فيه الحظر والمنع؛ لأنه أبيح لرفع الحرج وما تدعو إليه الحاجة؛
وليكون خادما للضروات والحاجيات والتكميليات, ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق
لكان الدليل يقتضي تحريمه, وقد حرمه الله في مواطن.
فتبين لنا مما سبق مقصد
الشارع من تشريع الطلاق المسنون, وتحقيقه لمقصد رفع الحرج على الأمة, ومراعاة
الحاجة.
وبالنظر إلى هذا المقصد
يجب على الناس ألا يتوسعوا في باب الطلاق فيخرجوه عن بابه, وإذا ما حصل هذا كان
على الحاكم أن يشدد على الناس ويحملهم على عدم التوسع, ويسد الذريعة, كما فعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما جعل
الطلاق ثلاثا بلفظ واحد طلاقا بائنا, ففي الصحيحين
عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر» وفِعله هذا من باب
العقوبة لا من باب التشريع اللازم الدائم.
وإذا تعلق باب الطلاق
بالحاجيات فيجب أن تكون أحكام الطلاق مبنية على هذا الباب ومراعية له؛ حتى لا يقع
اختلال بين التشريع الكلي والتشريع الجزئي.
وما أبيح للحاجة يقدر بقدر
الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة من جهة العدد, فالزيادة على الطلقات
الثلاث خروج عن الحاجة,
وحتى يمنع الناس من التهاون بباب الطلاق جعل الله المرأة
محرمة على الزوج بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره؛ عقوبة له؛ لينتهي عن
إكثار الطلاق؛ لأن الإكثار خروج بالطلاق عن بابه .
ولما أبيح الطلاق للحاجة
وكان من مقاصد الشارع في النكاح: استدامته: كان لمن طلق طلاقا رجعبا أن يراجع
امرأته إذا كانت في العدة بدون رضاها ولا رضا وليها ولا مهر جديد, وإذا مات أحدهما
في العدة ورثه الآخر.
وكما رجع الطلاق إلى
الحاجة رجعت الرجعة أيضا إلى الحاجة فدخلت في باب الحاجيات,؛ إذ الحاجة تمس إلى
الرجعة؛ وذلك أن الإنسان قد يطلق امرأته ثم يندم فيحتاج إلى التدارك, فلو لم تثبت
الرجعة لوقع الناس في الحرج والمشقة.
ومن مظاهر رفع الحرج ما جاءت به نصوص الرجعة في الكتاب
والسنة مطلقة عن شرط الإشهاد إلا أنه يستحب الإشهاد؛ حفاظا على حق المرأة, فلا
تأمن من ادعائه الرجعة بعد انقضاء العدة.
وللطلاق المسنون ألفاظ, فالطلاق
إنما يقع بألفاظ, إلا أن مقصد العبد معتبر في ألفاظه وتصرفاته, فالشارع اعتبر
مقاصد الألفاظ في التكليف, فمن نطق باللفظ تعليقا غير قاصد معناه, وإنما قصد معنى
آخر كالتهديد, أو جعله من باب الحلف, لا يقع الطلاق؛ لأنه قاصد الحلف لا موقع
للطلاق. وهذا بخلاف من قصد إيقاع السبب غير قاصد لإيقاع المسبب –كالهازل- يقع عليه
المسبب, فمن تلفظ بالطلاق قاصدا له وإن لم يقصد ما يترتب عليه: وقع عليه.
قال ابن تيمية: (والقول بأن
الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق: مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يلزمه
الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف) ([5]).
فالألفاظ إنما يترتب عليها
موجباتها لقصد اللافظ بها, فمن
جرى على لسانه يمين الطلاق من غير قصد لليمين كان هذا من باب اللغو, ولا يترتب
عليه شيء.
والألفاظ التي تستعمل في الطلاق
في الشرع نوعان: صريح وكناية, أما الصريح فهو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حل قيد
النكاح، كالطلاق والتطليق, وهي ظاهرة في المراد, وأما الكناية فهي التي تستعمل في
الطلاق وتستعمل في غيره كالحرام, فتحتاج إلى نية.
وأما ما خرج عن الطلاق
المسنون كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء أو قبل تبين الحمل فهو دائر بين التحريم
والكراهة، ومن المعلوم أن الله لا يحرم أمرا أو يكرهه إلا إذا اشتمل على الضرر
والفساد الراجح؛ إذ إن مقصوده بالنهي المنع من ذلك الفساد وجعله معدوما, وليس الفساد
والضرر في الطلاق غير المشروع لمجرد حق المرأة فقط, وإنما نفس الطلاق إذا لم تدع
إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء: إما نهي تحريم أو نهي تنزيه([6]).
وقد اشتمل باب الطلاق على
حق الله وعلى حق العبد, فما من حكم شرعي إلا وفيه حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، وفيه
حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا؛ بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد, وقد
تغلب إحدى الجهتين على الأخرى([7]), كما في باب الطلاق, فباب الطلاف روعي فيه حق
الله وحق العبد, فتحديد وقت ينتهي فيه الطلاق تعبدي من جهة التحديد, وكذا تحديد الأربعة أشهر
وعشر في عدة الوفاة دون الاقتصار على ما
يحصل به الاستبراء أو يعلم به براءة الرحم, وكذا تحديد عدة الطلاق بعد الدخول,
وتحديد الاعتداد بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، أو بثلاثة أشهر إن
كانت لا تحيض, فالعدة تنقسم إلى: عدة وفاة، وعدة طلاق رجعي، وعدة طلاق بائن طل ذلك
روعي فيه حق الله.
وإذا كان التحديد تعبديا فلا يجوز تجاوز المحدود؛ إذ إن مقصد الشارع الاقتصار
عليه وعدم تجاوزه, فهو من هذه الجهة تعبدي, وإن لم يكن تعبديا محضا؛ لكونه يجب في
حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية، ولا يفتقر إلى نية.
ومع اشتمال الباب
على حق الله إلا أنه غلب فيه حق العبد, ولهذا كان الطلاق في الحيض منهيا عنه؛ لأن فيه تطويل العدة على المرأة, فالحيضة التي صادفها
الطلاق فيه غير محسوبة من العدة فتطول العدة عليها, وذلك إضرار بها، ولأن الطلاق
للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة إلى الجماع، وزمان الحيض زمان النفرة فلا
يكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق([8]).
وكان أيضا الطلاق في طهر
قد مسها فيه منهيا عنه؛ للبس الواقع على المرأة في العدة, فهي لا تدري بماذا تعتد؟
أتعتد بالوضع أو بالأقراء؛ لاحتمال أن تكون قد حملت من ذلك الوطء، ولهذا كان العبد
مأمورا أن لا يطلقها إلا في موضع تعرف عدتها ما هي لتستقبلها([9]).
وكان أيضا الطلاق بعد كل
طهر منهيا عنه؛ لأنه يطول عليها العدة ويضر بها. وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك
فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
وكان أيضا الحلف بالطلاق
منهيا عنه؛ لأنه قد يقع حنثه في حال الحيض أو دم النفاس أو في طهر قد مس فيه, وهذا
إضرار بالمرأة([10]).
ولما اشتمل المنهي عنه على
مفاسد متعلقة بحق العبد جاء الشرع بالنهي عنه في المدخول بها, وأما غير المدخول
بها فيجوز طلاقها في الحيض والنفاس؛ لانتفاء المفاسد في حقها؛ مما يوضح لنا أصل
باب الطلاق.
فالأصل
في باب الطلاق أنه معقول المعنى وليس
تعبديا؛ إذ روعي فيه مصلحة
العبد وغُلبت, مع معقولية المعنى.
ولذا كان على المختلعة أن تعتد بحيضة واحدة؛ لأنها لم
تبق لزوجها عليها عدة، وقد ملكت نفسها وصارت أحق ببضعها، فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها،
فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم([11]).
وكل فراق لا رجعة فيه كخلع,
فعدتها حيضة؛ للاستبراء، إلا المطلقة ثلاثا فعدتها ثلاثة قروء؛ لأن الشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك
المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعا من ترتب الحكم.
وإذا تكلمنا عن أحكام العدة بنظرة مقاصدية, فنجد أن
فيها:
1-حق الله، وهو امتثال أمره وطلب مرضاته.
2-حق الزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له.
3-حق الزوجة، وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت
في العدة.
4-حق للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وألا يختلط
بغيره.
5-حق الزوج الثاني، وهو ألا يسقي ماءه زرع غيره.
ورتب الشارع
على كل حق ما يناسبه من الأحكام؛ فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنها لا تخرج
ولا تخرج.
ورتب على حق الزوج المطلق تمكينه من الرجعة ما دامت
في العدة.
ورتب على حقها استحقاق النفقة والسكنى.
ورتب على حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره،
ورتب على حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء
غير مشغول بولد لغيره ثلاثة
قروء؛ رعاية لهذه الحقوق، وتكميل لها ([12]).
وختاما: باب الطلاق جاء
لحفظ ضروري وهو النسل, فشرعت العدة؛ للعلم ببراءة الرحم, ولئلا تختلط الأنساب
باجتماع أكثر من ماء في رحم واحد, ولذا جعل العدة في الطلاق الرجعي أمدها: ثلاثة قروء
إن كانت المرأة ممن تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت يائسة من المحيض، أو وضع حملها إن
كانت حاملا؛ ليتحقق من براءة الرحم؛ حفظا للنسب, فالعدة أوجبها الله وأمر بها حفظا
للأنساب وتحصينا للفرج سواء كانت عدة وفاة، أو عدة طلاق, ونهى عن عقد النكاح فيها
نهي تحريم؛ لأن العقد لا يراد إلا للوطء، فكان ذلك ذريعة إلى اختلاط الأنساب.([13])
هذا ما تيسر جمعه وفق اجتهادي مقاصدي
16-12-1442هـ
د. أحمد بن محمّد النّجار
أستاذ مادة العقيدة بقسم أصول الدين
كليّـة علوم الشّريعة
الحقوق محفوطة
للمؤلف
[لا
بأس بنشرها وطبعها على ما هي عليه]
الأولى:1442هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فالطلاق له حالان: حال يكون فيها الطلاق خادما لأصل
ضروري أو حاجي أو تكميلي فيكون محبوبا لله من هذه الجهة راجحَ الفعل, وحال لا يكون
فيها خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي فيكون مبغضا لله راجح الترك, ولهذان الحالان
صح تعلق الحب والبغض به.
فتعلق الحب به من جهة كونه
دفعا للحرج والمشقة, فإذا لم يحصل توافق في الأخلاق بين الزوجين وظهر تباين في الطبائع
أو خُشي مفسدة في نكاحها أو تفويت مصالح, أو كان المقام معها سبب فساد دينه ودنياه,
فهنا يصبح الطلاق مصلحة راجحة, ويتعلق به الحب.
إلا أنه لما كان التحقق من
كون النكاح ليس مصلحة في حقه يحتاج إلى ترو وفكر وتجربة جعل الشارع له طلقتان
رجعيتان؛ حتى لا يندم ويقع في الحرج.
وأما تعلق البغض به فمن
جهة كون الطلاق إبطالا لمصلحة النكاح, وإبطال المصلحة مفسدة.
قال الشاطبي: (...ترك للحلال
الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة،
واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا
النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض
أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ...) ([1])
وهذا البحث سيسلط فيه
الضوء على الحالين وفق نظرية اجتهادية مقاصدية, مع بيان مقصود الشارع من باب الطلاق,
وبناء الأحكام عليه.
فالشارع الحكيم وضع
الشريعة لمصالح العباد, ولاحظ في تشريعة ما يطرأ على العبد من عوائق ومشاق تخرج
على المعتاد, فشرع مخارج لها تقي العبد من الوقوع في الحرج, فكان لزاما على العبد
أن يطلب ما شرعه الله إذا وقع في حرج ومشقة حتى يخرج منهما؛ وحتى يكون فعله خادما
لضروري أو حاجي أو تكميلي, فمن طلب المخرج الشرعي من وجهه أصاب مقصود الشارع, ومن
طلب المخرج من غير وجهه تعدى ووقع في ضد المقصود.
والطلاق السني يرجع إلى
الحاجيات, ودوران الحاجيات على التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق.
فالطلاق المسنون هو الطلاق
لحاجة([2]).
وذلك أن الإنسان قد يحتاج
إلى إنهاء النكاح لما ترتب على زواجه من مفاسد, ولكونه لم يحقق مصالح دينية ولا
دنيوية, أو كانت مفاسد زواجه ترجح على المصالح, فيحتاج إلى حسمه بالطلاق؛ وحتى لا
يقع في الندم شرع له دفع هذا الحرج بطلقة واحدة في طهر لم يمس المرأة فيه, ثم ينظر
بعد ذلك في أمره في وقت رغبته للجماع فيمكن له أن يراجعها أو يطلقها تطليقة أخرى بعد
انقضاء عدتها؛ مما يدل على رجحان الطلاق عنده؛ لأنه وقت الرغبة إليه والحاجة ([3]).
ونظرا إلى هذا المقصد يكون
من طلق ونوى به الإبانة قد ناقض مقصد الشارع وغيَّر الشرع, فتلغى نيته.
ويكون من طلق ثلاثا بلفظ
واحد أو في مجلس واحد كأن يقول لامرأته: "أنت طالق ثلاثا" قد ناقض مقصد
الشارع, وخالف حكم الله, ومن خالف السنة فإنه يرد إلى السنة, فتحسب عليه طلقة
واحدة,
قال ابن تيمية: (وهذا القول
منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, مثل: الزبير
بن العوام وعبد الرحمن بن عوف, ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول
كثير من التابعين ومن بعدهم: مثل طاووس وخلاس بن عمرو؛ ومحمد بن إسحاق؛ وهو قول داود
وأكثر أصحابه؛ ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ولهذا
ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل). ([4])
وإذا كان الطلاق راجعا
للحاجة, فالأصل فيه الحظر والمنع؛ لأنه أبيح لرفع الحرج وما تدعو إليه الحاجة؛
وليكون خادما للضروات والحاجيات والتكميليات, ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق
لكان الدليل يقتضي تحريمه, وقد حرمه الله في مواطن.
فتبين لنا مما سبق مقصد
الشارع من تشريع الطلاق المسنون, فهو يحقق مقصد رفع الحرج على الأمة, ومراعاة
الحاجة.
وبالنظر إلى هذا المقصد
يجب على الناس ألا يتوسعوا في باب الطلاق فيخرجوه عن بابه, وإذا ما حصل هذا كان
على الحاكم أن يشدد على الناس ويحملهم على عدم التوسع, كما فعل الخليفة الراشد عمر
بن الخطاب عندما جعل الطلاق ثلاثا بلفظ واحد طلاقا بائنا, ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث
واحدة فأمضاه عليهم عمر» وفِعله هذا من باب العقوبة لا من باب التشريع اللازم
الدائم.
وإذا تعلق باب الطلاق
بالحاجيات فيجب أن تكون أحكام الطلاق مبنية على هذا الباب ومراعية له؛ حتى لا يقع
اختلال بين التشريع الكلي والتشريع الجزئي.
وما أبيح للحاجة يقدر بقدر
الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة من جهة العدد, فالزيادة على الطلقات الثلاث
خروج عن الحاجة,
ومنعا لتهاون الناس بباب الطلاق جعل الله المرأة
محرمة على الزوج بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره؛ عقوبة له؛ لينتهي الإنسان
عن إكثار الطلاق؛ لأن الإكثار خروج بالطلاق عن بابه .
ولما أبيح الطلاق للحاجة
وكان من مقاصد الشارع في النكاح: استدامته: كان لمن طلق طلاقا رجعبا أن يراجع
امرأته إذا كانت في العدة بدون رضاها ولا رضا وليها ولا مهر جديد, وإذا مات أحدهما
في العدة ورثه الآخر.
وكما رجع الطلاق إلى
الحاجة رجعت الرجعة أيضا إلى الحاجة فدخلت في باب الحاجيات,؛ إذ الحاجة تمس إلى
الرجعة؛ وذلك أن الإنسان قد يطلق امرأته ثم يندم فيحتاج إلى التدارك, فلو لم تثبت
الرجعة لوقعت الأمة في الحرج والمشقة.
ولما كان المقصود منها رفع
الحرج جاءت نصوص الرجعة من الكتاب والسنة مطلقة عن شرط الإشهاد إلا أنه يستحب
الإشهاد؛ حفاظا على حق المرأة, فلا تأمن من ادعائه الرجعة بعد انقضاء العدة.
ولما كان الطلاق إنما يقع
بألفاظ, وكان مقصد العبد معتبرا في ألفاظه وتصرفاته كان من قصد إيقاع السبب غير قاصد
لإيقاع المسبب –كالهازل- يقع عليه المسبب, فمن تلفظ بالطلاق قاصدا له وإن لم يقصد ما
يترتب عليه: وقع عليه, وهذا بخلاف من نطق باللفظ تعليقا غير قاصد معناه, وإنما قصد
معنى آخر كالتهديد, أو جعله من باب الحلف, فيكون قاصدا الحلف لا موقعا للطلاق.
قال ابن تيمية: (والقول بأن
الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق: مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يلزمه
الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف) ([5]).
فالألفاظ إنما يترتب عليها
موجباتها لقصد اللافظ بها, فمن
جرى على لساته يمين الطلاق من غير قصد لليمين كان هذا من باب اللغو, ولا يترتب
عليه شيء.
والألفاظ التي تستعمل في الطلاق
في الشرع نوعان: صريح وكناية, أما الصريح فهو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حل قيد
النكاح، كالطلاق والتطليق, وهي ظاهرة في المراد, وأما الكناية فهي التي تستعمل في
الطلاق وتستعمل في غيره كالحرام, فتحتاج إلى نية.
وأما ما خرج عن الطلاق المسنون
كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء أو قبل تبين الحمل فهو دائر بين التحريم والكراهة،
ولا يحرم الله أمرا أو يكرهه إلا إذا اشتمل على الضرر والفساد الراجح؛ إذ إن مقصوده
بالنهي المنع من ذلك الفساد وجعله معدوما, وليس الفساد والضرر في الطلاق غير
المشروع لمجرد حق المرأة فقط, وإنما نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه
باتفاق العلماء: إما نهي تحريم أو نهي تنزيه([6]).
وقد اشتمل باب الطلاق على
حق الله وعلى حق العبد, فما من حكم شرعي إلا وفيه حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، وفيه
حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا؛ بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد, وقد
تغلب إحدى الجهتين على الأخرى([7]), كما في باب الطلاق, فباب الطلاف روعي فيه حق
الله وحق العبد, فتحدبد وقت ينتهي فيه الطلاق تعبدي من جهة التحديد, وكذا تحديد الأربعة أشهر
وعشر دون الاقتصار على ما يحصل به الاستبراء أو يعلم به براءة الرحم عبادة, وكذا
تحديد عدة الطلاق بعد الدخول, وتحديد الاعتداد بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض،
أو بثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض, فالعدة تنقسم إلى: عدة وفاة، وعدة طلاق رجعي،
وعدة طلاق بائن.
وإذا كان التحديد تعبديا فلا يجوز تجاوز المحدود؛ إذ إن مقصد الشارع الاقتصار
عليه وعدم تجاوزه وإلا لم يكن شرعيا, فهو من هذه الجهة تعبدي, وإن لم يكن تعبديا
محضا؛ لكونه يجب في حق الصغيرة
والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية، ولا يفتقر إلى نية.
ومع اشتمال الباب
على حق الله إلا أنه غلب فيه حق العبد, ولهذا كان الطلاق في الحيض منهيا عنه؛ لأن فيه تطويل العدة على المرأة, فالحيضة التي صادفها
الطلاق فيه غير محسوبة من العدة فتطول العدة عليها, وذلك إضرار بها، ولأن الطلاق
للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة إلى الجماع، وزمان الحيض زمان النفرة فلا
يكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق([8]).
وكان أيضا الطلاق في طهر
قد مسها فيه منهيا عنه؛ للبس الواقع على المرأة في العدة, فهي لا تدري بماذا تعتد؟
أتعتد بالوضع أو بالأقراء؛ لاحتمال أن تكون قد حملت من ذلك الوطء، ولهذا كان العبد
مأمورا أن لا يطلقها إلا في موضع تعرف عدتها ما هي لتستقبلها([9]).
وكان أيضا الطلاق بعد كل
طهر منهيا عنه؛ لأنه يطول عليها العدة ويضر بها. وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك
فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
وكان أيضا الحلف بالطلاق منهيا
عنه؛ لأنه قد يقع حنثه في حال الحيض أو دم النفاس أو في طهر قد مس فيه, وهذا إضرار
بالمرأة([10]).
ولما اشتمل المنهي عنه على
مفاسد متعلقة بحق العبد جاء الشرع بالنهي عنه في المدخول بها, وأما غير المدخول
بها فيجوز طلاقها في الحيض والنفاس؛ لانتفاء المفاسد في حقها؛ مما يوضح لنا أصل
باب الطلاق.
فالأصل
في باب الطلاق أنه معقول المعنى وليس
تعبديا؛ إذ روعي فيه مصلحة
العبد وغُلبت, مع معقولية المعنى.
ولذا كان على المختلعة أن تعتد بحيضة واحدة؛ لأنها لم
تبق لزوجها عليها عدة، وقد ملكت نفسها وصارت أحق ببضعها، فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها،
فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم([11]).
وكل فراق لا رجعة فيه كخلع,
فعدتها حيضة؛ للاستبراء، إلا المطلقة ثلاثا فعدتها ثلاثة قروء؛ لأن الشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك
المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعا من ترتب الحكم.
وإذا تكلمنا عن أحكام العدة بنظر مقاصدية, فنجد أن فيها:
1-حق الله، وهو امتثال أمره وطلب مرضاته.
2-حق الزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له.
3-حق الزوجة، وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت
في العدة.
4-حق للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وأن لا
يختلط بغيره.
5-حق الزوج الثاني، وهو أن لا يسقي ماءه زرع غيره.
ورتب الشارع
على كل حق ما يناسبه من الأحكام؛ فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنها لا تخرج
ولا تخرج.
ورتب على حق الزوج المطلق تمكينه من الرجعة ما دامت
في العدة.
ورتب على حقها استحقاق النفقة والسكنى.
ورتب على حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره،
ورتب على حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء
غير مشغول بولد لغيره ثلاثة
قروء؛ رعاية لهذه الحقوق، وتكميل لها ([12]).
وختاما: باب الطلاق جاء
لحفظ ضروري وهو النسل, فشرعت العدة؛ للعلم ببراءة الرحم, ولئلا تختلط الأنساب
باجتماع أكثر من ماء في رحم واحد, ولذا جعل العدة في الطلاق الرجعي أمدها: ثلاثة قروء
إن كانت المرأة ممن تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت يائسة من المحيض، أو وضع حملها إن
كانت حاملا؛ ليتحقق من براءة الرحم؛ حفظا للنسب, فالعدة أوجبها الله وأمر بها حفظا
للأنساب وتحصينا للفرج سواء كانت عدة وفاة، أو عدة طلاق, ونهى عن عقد النكاح فيها
نهي تحريم؛ لأن العقد لا يراد إلا للوطء، فكان ذلك ذريعة إلى اختلاط الأنساب.([13])
هذا ما تيسر جمعه وفق اجتهادي مقاصدي
16-12-1442هـ