تقدم بيان إجماع القرني
الثالث والرابع على تحريم الخروج على الحاكم المسلم الفاسق, وهو ما تواترت به
النصوص, فتكون حكاية الخلاف بعد القرنين مردودة بالإجماع المتقدم.
وممن حكى الخلاف:
-ابن حزم, قال في كتابه
مراتب الإجماع وهو يرد على ابن مجاهد البصرى الطائي: (فإنه أتى فيما ادعى فيه
الإجماع أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور, فاستعظمت ذلك ولعمري إنه عظيم
أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر ,فيلقي هذا إلى الناس وقد علم أن أفاضل
الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية وأن ابن الزبير ومن اتبعه
من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا رضي الله عن الخارجين عليه ولعن قتلتهم وأن
الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم أترى هؤلاء كفروا بل والله
من كفرهم أحق بالكفر منهم...)
وسبب حكايته الخلاف:
-رده على ابن مجاهد حكايته
الإجماع على تحريم الخروج مع اعتقاد ابن حزم أن مخالف الإجماع: كافر, فهو إنما رد
الإجماع على ابن مجاهد؛ دفعا للتكفير.
ويجاب عليه: أنه لا يلزم
من مخالفة الإجماع التكفير؛ لوجود الشبهة عند المنكر.
-استند على خروج يوم الحرة
على يزيد, وخروج ابن الزبير, والخروج على الحجاج.
قال الأبي: (واحتَجَّ من
أجاز القيام والخروج بقيام الحسين، وابن الزبير بمكة، وأهل المدينة على بني أميّة)
فهذا مستند حكاية الخلاف
فإذا ثبت خروجهم ثبت الخلاف, وإذا انتفى انتفى الخلاف, وبقي الإجماع.
ونجيب عليها بالتفصيل,
فنقول:
-خروج الحسين على يزيد بن
معاوية.
أولا: أن الصحابي قد يخالف
ما كان واضح الدلالة من النص, أو ما كان معلوما من الدين بالضرورة متؤولا, وهذا لا
ينقص من قدره, فهذا الصحابي البدري وهو من السابقين إلى الإسلام وشهد أحدا: قدامة
بن مظعون شرب الخمر متأولا, فوقع في إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة, فدل ذلك
على أن الصحابي قد يخالف دلالة النصوص القطعية على سبيل التأويل.
ثانيا: لم يكن الحسين
مبايعا ليزيد؛ لعدم استقرار الأمر له بعد, وكان الحسين أحق منه, وهو من أهل الحل
والعقد, فلم يخرج الحسين على إمام استقر له الأمر, ولم يكن مبايعا له بعدُ, قَالَ
الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ : (وَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ
مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)
ثالثا: أنه لما مات معاوية
بعث الحسين بن علي بن أبي طالب ابن عمه مسلم بن عقيل ابن أبي طالب إلى أهل الكوفة
ليبايعوه فبايعه ناس كثير فجمع يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد العراق فخرج
بأهل العراق فقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادي
وفيها خرج الحسين بن علي
من مكة يريد الكوفة فقال الفرزدق خرجت أريد الحج فلما كنت بذات عرق رأيت قبابا
مضروبة فقلت لمن هذه قالوا للحسين ابن علي فعدلت إليه فقلت يا بن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما أعجلك عن الحج قال كتب إلي هؤلاء القوم يعني أهل الكوفة يذكرون
ما هم فيه ثم سألني كيف تركت الناس وراءك فقلت فداك أبي وأمي تركت القلوب معك
والسيوف مع بني أمية, كما في تاريخ خليفة بن عياط البصري (ت240هـ).
قال ابن تيمية في المنهاج:
(والحسين - رضي الله عنه - ما خرج يريد القتال ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما
رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه، أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، فلم
يمكنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى
يزيد، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا، لم يكن قصده ابتداء أن يقاتل).
فلم يخرج على يزيد وإنما
ذهب إلى الكوفة؛ ليبايَع, فلما انصر فوا رجع عن رأيه وأراد أن يبايع يزيدا , ويدخل
تحت طاعته.
رابعا: أنه ندم على خروجه
إلى الكوفة, ولم يفرق الجماعة بل طلب الدخول في الجماعة, قال ابن
تيمية في منهاج السنة: (( وأحاديث النبي صلى الله عليه و سلم التي يأمر فيها بقتال
المفارق للجماعة لم تتناوله فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب
للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد داخلا في الجماعة معرضا عن تفريق الأمة))
فكيف يحتج بفعل ندم منه؟
خامسا: لو سلمنا أنه خروج- وهو ليس بخروج- فقد أنكر
عليه بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر, فعند الطبري أن ابن عمر قال للحسين وابن
الزبير: (اتقيا الله, ولا تفرقا جماعة المسلمين).
وللتوضيح: فإنكارهم لما خشوه من الغدر به، فهم لم
ينكروا عليه؛ لأنه خرج على الحاكم، فهو لم يخرج كما تقدم, وإنما امتنع عن بيعته
فتبين لنا خطأ من يقول: بخروج الحسين على يزيد,
وبذا لم يثبت عن صحابي أنه خرج على حاكم بويع له واستقر الأمر له, فتحقق إجماع
الصحابة, ويتضح هذا جليا في إنكار ابن عمر على ابن مطيع خروجه على يزيد, ففي مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن
مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد
الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه
بيعة، مات ميتة جاهلية").
-خروج سليمان بن صرد.
لم يخرج على إمام بايعه
وقد استقر له الأمر, فقد كان فيمن كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة من أجل
مبايعته, فلما قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه, فخرج في جيش تابوا إلى الله
من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسموا جيش التوابين.
-خروج ابن الزبير.
لم يخرج ابن الزبير على إمام بايعه وقد استقر له
الأمر , فابن الزبير لم يبايع، ولجأ إلى مكة وأرسل إليه يزيد جيشا فمات يزيد
واستخلف ابنه معاوية فبقي أربعين يوما ومات ولم يستخلف أحدا فبايع الناس ابن
الزبير، قال ابن الجوزي: «فدعى إلى نفسه، وسمي أمير المؤمنين، وولى العمال،
واستوثقت له البلاد، ما خلا طائفة من الشام، فإنهم بايعوا مروان»
قال أبو بكر بن عياش: (( ما بقي أرض إلا ملكها ابن
الزبير إلا الأردن )) أخرجه الخلال
وقَالَ
الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ : (وَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ
مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)
وقال ابن قدامة في المغني: (... فإن عبد الملك بن مروان ، خرج على ابن الزبير ،
فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بايعوه طوعا وكرها ، فصار إماما يحرم
الخروج عليه ؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين )
تنبيه: ما وقع من الحسين
وابن الزبير , فإنهما قد امتنعا من مبايعة يزيد؛ اجتهادا منهما, فهما من أهل
المشورة والحل ولهما أتباع وشوكة, قال أبو العباس ابن تيمية عن ابن الزبير: (وأما في
حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا، ثم بذل المبايعة له، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه
أسيرا، فجرت بينهما فتنة) منهاج السنة النبوية (4/ 523)
ويجب أن يعلم أن يزيد لم
يستتب له الأمر على جميع بلدان المسلمين, فقد مات وبعض البلدان لم تبايع له, وكانت
خارجة عن طاعته, قال ابن تيمية: (فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك، ملوك المسلمين
المستخلفين في الأرض، ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته، لم يتول
على جميع بلاد المسلمين، كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين، بخلاف
عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين، وكذلك الخلفاء الثلاثة ومعاوية
تولوا على جميع بلاد المسلمين، وعلي - رضي الله عنه - لم يتول على جميع بلاد المسلمين).
منهاج السنة النبوية (4/ 524)
وقال عن يزيد: (وتولى بعد أبيه
على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم) مجموع الفتاوى (3/ 410)
فامتناع من امتنع من
الصحابة على المبايعة صادر من أهل المشورة والحل, وهو اجتهاد منهم, ولا يعد هذا من
الخروج في شيء.
-خروج أهل المدينة يوم
الحرة على يزيد.
ذكر الحافظ ابن كثير في
"تاريخه": قال: وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية،
وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر،
فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك، واجتمعوا عند المنبر، فجعل الرجل منهم
يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته
كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم، والنعال هناك، ثم اجتمعوا على
إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد، وعلى
إجلاء بني أمية من المدينة، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم
أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله
بن عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وقد قال ابن عمر لأهله:
لا يخلعن أحد منكم يزيد، فتكون الفيصل بيني وبينه، وأنكر على أهل المدينة في
مبايعتهم لابن مطيع، وابن حنظلة على الموت..اهـ
ثم إنه ليس هناك حجة في
خروجهم؛ لإنكار ابن عمر عليهم, وبيانه لهم أن خروجهم هذا مخالف لدلالة النصوص
القطعية, ففي مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن
مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد
الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه
بيعة، مات ميتة جاهلية").
وجعل هذا من الغدر مع أنه كان في يزيد من الظلم ما كان, فعَنْ
نَافِعٍ، قَالَ: ( لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ،
جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ
يَوْمَ القِيَامَةِ )، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ
رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي
لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ،
إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ) رواه البخاري
وأنكر ذلك أيضا: النعمان بن بشير, وعبد الله بن
جعفر, وسعيد بن المسيب, وغيرهم.
- خروج العلماء في فتنة ابن
الأشعث ضد الحجاج.
أئمة أهل السنة أكثرهم لم يخرجوا على الحجاج, ومن
خرج منهم فقد ندم وتاب, ولا حجة في فعله قبلُ؛ لأنه مخالف للإجماع قبله, وبعدُ
لأنه تاب عنه ورجع وندم.
ولو سلمنا جدلا بوجود أفراد منهم لم يندموا؛
فبالإجماع لا عبرة برأي الأفراد المخالف للجمهور, بل الأكثر, ولا يعد خلافهم نقضا
لمذهب أهل الحديث ولا يقدح في كونه مذهبا لأهل الحديث.
روى ابن
سعد في الطبقات ( 7 / 187 ) عن حماد بن زيد قال : ذكر لأيوب السختياني القراء
الذين خرجوا مع ابن الأشعث ، فقال : (( لا أعلم أحدا منهم قتل إلا وقد رغب عن
مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه، وندم على ما كان منه ))
وعن أبي قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله
إليك أني لم أرم بسهم، و لم أضرب فيها بسيف، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين
فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قتل؟ فبكى ، والله حتى
وددت أن الأرض انشقت، فدخلت فيها . (التاريخ الكبير للبخاري 2 / 302 ) (سير أعلام
النبلاء 4 / 513)
وفي (تاريخ الطبري 3 / 644) قال الشعبي للحجاج
معتذرا عن خروجه : ( أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم
الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله تمردنا عليك،
وحرضنا وجهدنا كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء
البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليك
أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله يا
شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت. قد
أمنت البداية عندنا يا شعبي. قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي.
قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي. فقال: كيف
وجدت الناس بعدنا يا شعبي؟ قال: - وكان لي مكرما - فقلت: أصلح الله الأمير، قد
اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهولة، واستوخمت الجناب، واستحلست الخوف، واستحليت
الهم، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبي. فانصرفت )
.
وهنا ينبغي التذكير بأمر مهم وهو:
أن جمعا من العلماء كانوا يرون كفر الحجاج, فكان خروج بعضهم على حاكم كافر لا مسلم.
قال
الحافظ ابن حجر ( تهذيب التهذيب 2 / 185) : ( وكفره جماعة منهم سعيد بن جبير
والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي وغيرهم ) وانظر المصنف لابن أبي شيبة
( 6 / 163
بعد هذه الاجتهادات الخاطئة وندمهم عليها: استقر
أمر الأئمة على حكاية الإجماع على عدم الخروج؛ تأكيدا للإجمااع القديم, وهو
الموافق لدلالة النصوص القطعية, قال ابن تيمية في منهاج السنة: (وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة،
كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة
عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في
فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث
الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم،
ويأمرون بالصبر على جور الأئمة
وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين).
فتبين لنا أن ما اعتمد عليه ابن حزم وكل من سوغ
الخلاف كالقاضي عياض وغيره لا يصح, فإذا سقط سقط معه تسويغ الخلاف, وتبقى دلالة
الأدلة على التحريم قطعية, ولا شيء يعارض الإجماع في زمن الصحابة والتابعين.
قال ابن قدامة في المغني: (وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ،
ثبتت إمامته ، ووجبت معونته ؛ لما ذكرنا من الحديث والإجماع ، وفي معناه ، من ثبتت
إمامته بعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد إمام قبله إليه ، فإن أبا بكر ثبتت
إمامته بإجماع الصحابة على بيعته ، ، وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه ، وأجمع
الصحابة على قبوله .
ولو خرج رجل على الإمام ،
فقهره ، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا بطاعته ، وبايعوه ، صار إماما
يحرم قتاله ، والخروج عليه ؛ فإن عبد الملك بن مروان ، خرج على ابن الزبير ، فقتله
، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بايعوه طوعا وكرها ، فصار إماما يحرم الخروج
عليه ؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين )
وأنبه هنا: أن من أردأ الاستدلالات وأقبحها:
الاحتجاج بما حصل بين الصحابة من قتال, وما حدث بينهم من فتنة, ولا أحد منهم خرج
على علي ينازعه الخلافة أو أراد خلعه, وإنما اجتهدوا في أمر آخر, هم فيه بين
المصيب والمخطئ.
والواجب: الإمساك عما شجر بينهم, وعدم الخوض فيها, فقد سئل الحسن البصري رحمه الله عن قتالهم فقال : ( قتال
شهده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا
فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا )
وسئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن علي وعثمان والجمل
وصفين وما كان بينهم ؟ فقال : " تلك دماء كف الله يدي عنها ، وأنا أكره
أن أغمس لساني فيها ."الطبقات
الكبرى" (5/394) .
وقال شيخ الإسلام في « منهاج السنة » (4/448): «
كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت
موالاتهم ومحبتهم وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان ومنه ما تاب
صاحبه منه ومنه ما يكون مغفوراً فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً
وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً، بل عاصياً فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك كما جرى
لأكثر من تكلم في ذلك فإنهم بكلام لا يحيه الله ولا رسوله إما من ذم من لا يستحق
الذم وإما من مدح أمور لا تستحق المدح ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف ».
ثم يقال: ما حصل بين علي
ومعاوية رضي الله عنهما, والحسين ويزيد, وابن الزبير ويزيد, فهو: امتناع عن البيعة
ممن له شوكة وأتباع, ومن أهل المشورة والحل, وليس خروجا بالسيف؛ لانتزاع الخلافة.
فحقيقة ما حصل بين معاوية
وعلي رضي الله عنهما أن معاوية امتنع عن المبايعة؛ طلبا للقصاص من قتله عثمان
أولا, وهو اجتهاد منه, وأما علي فرأى تأخير ذلك؛ للمصلحة, ورأى أن يقاتل معاوية
لإدخالهم في الطاعة, قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله تعال وقد
ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " من تأليفه
، بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع عليا في الخلافة ؛
أو أنت مثله ؟قال : لا ، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون
أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه ، ووليه ؛ أطلب بدمه ؟ فأْتُوا عليا فقولوا له
يدفع لنا قتلة عثمان .
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ،
وسار معاوية حتى نزل هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر
، فوقع القتال ." فتح الباري " (13 / 86(
وقال ابن حزم: (ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة
لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة
ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 124)
وقال ابن تيمية: (ومعاوية
" لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة،
ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا
كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
بل لما رأى علي - رضي الله
عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد،
وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا
هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم،
وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين،
وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي
لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على
أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف). الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 455)
وأما ما حصل بين عائشة
وطلحة والزبير فلا علاقه له بالبيعة ولا بالخروج بالسيف, وإنما كانوا يطالبون
بالقصاص من قتلة عثمان, قال ابن تيمية: (وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين
علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه، لم يكن لعلي غرض في
قتالهم، ولا لهم غرض في قتاله، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان، وكان للقتلة
من قبائلهم من يدفع عنهم، فلم يتمكنوا منهم، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم، عرفهم أن
هذا أيضا رأيه، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر، فلما علم بعض القتلة ذلك، حمل على أحد
العسكرين ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين
الأولين، ثم وقع قتال على الملك). منهاج السنة النبوية (6/ 339)
وإني لأعجب ممن يستدل
بواقعة الجمل على جواز المظاهرات؛ زعما منه أن خروجهم الجماعي والإنكار على علي
رضي الله عنه هو بعينه ما يحدث في المظاهرات, ولا أدري كيف صح لهم جعل ما حدث وقت
الفتنة أصلا مع التباس الأمر فيه ووقوع التأويل!, بل ظهر خطأ المعترضين على علي رضي
الله عنهم من جهات:
الأولى: أن عائشة رضي الله
عنها تحققت خطأ فعلها, وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها منه إلا أنها استمرت؛
للإصلاح, فقد أخرج
أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: أن عائشة رضي الله عنها لما بلغت مياه بني
عامر ليلاً نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا
راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "كيف بإحداكن تنبح عليها
كلاب الحوأب". فقال لها الزبير: ترجعين!! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين
الناس)
وكانت نادمة فقد أخرج ابن عبد البر عن ابن أبي عتيق
قال: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر،
فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب
عليك، وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت.
فإذا صح أن يكون أصلا
للمظاهرات فهو أصل في النهي عنها؛ لما تقدم.
الثانية: مع حرص الصحابة على البعد على
الدماء وعدم إرادة القتال إلا أن أهل الفتنة أشعلوا فتيل الحرب, وترتب على هذا
الصنيع مفسدة كبرى, ففعلهم هذا أدى إلى مفسدة كبرى؛ مما يبين لنا حكمه, وهكذا
فليكن الأمر في المظاهرات.
الثالثة: أنهم كانوا
مخطئين في إنكارهم؛ إذ لم يفهموا الأمر على وجهه؛ حتى وضح لهم علي رضي الله عنه
حقيقة الأمر, وهذا التوضيح لا يحصل في المظاهرات, ثم هو قد يبنى على أمور لم تفهم
على وجهها فلا يكون وسيلة مشروعة للإنكار, فكيف وهو بالوجهين المتقدمين وسيلة
منهيا عنها, فلا يكون من باب الوسائل التي
لها أحكام المقاصد.
وكلامي هنا من جهة
الاستدلال عليها بما حدث في معركة الجمل, وليس من الممنوع: المظاهرة التي لا يكون
فيها اعتراض بل موافقة إذا لم يصاحبها مخالفات شرعية.
خاتمة
مهمة
لا يصح
تعليق مسألة الخروج على الحاكم المسلم الفاسق بالمصلحة؛ لأن النصوص المتواترة دلت
على تحريم الخروج نفسه, والحكمة منه: تعطيل المفاسد الكبرى, فالحكم مبنى على درء
المفاسد الكبرى, وليس معلقا بدرء المفاسد الكبرى, فهي ليست من باب حيثما وجدت
المفسدة وجد الحكم, وإنما هو من باب حيث وجد الخروج وجدت معه المفسدة الكبرى,
وأظهر هذا الواقع في كل خروج حدث في التاريخ, فالمفاسد الكبرى ملازمة له ولا تنفك
عنه.
ثم لو جعلناها علة: لخصصت اللفظ أو أبطلته, وهذا لا
يجوز في العلل المستنبطة عند الأصوليين.
ويدل على أن الخروج في نفسه محرم: ما أخرجه الخلال
في السنة عن علي بن عيسى، قال: سمعت
حنبلا يقول في ولاية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، أبو بكر بن
عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاءوا إلى أبي عبد الله، فاستأذنت
لهم، فقالوا: يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهاره لخلق القرآن
وغير ذلك، فقال لهم أبو عبد الله: " فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا
نرضى بإمرته، ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: «عليكم بالنكرة
بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم،
واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر» ، ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه
ومضوا، ودخلت أنا وأبي على أبي عبد الله بعدما مضوا، فقال أبي لأبي عبد الله: نسأل
الله السلامة لنا ولأمة محمد، وما أحب لأحد أن يفعل هذا، وقال أبي: يا أبا عبد
الله، هذا عندك صواب، قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر.
قال الشوكاني في نيل
الأوطار: (وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم
بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا
شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك
العمومات مطلقا، وهي متوافرة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه لا
ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح)
أضف إلى ذلك: أن الشارع قد
علق الخروج على أمر لا احتمال فيه, عن جنادة بن أبى أمية قال دخلنا
على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.فقال دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه
فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا
وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال « إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه
برهان ».أخرجه مسلم
فقد أكد الكفر هنا بعدة أمور:
الأول: أن يكون
كفرا بواحا أي: ظاهرا واضحا لا محتملا موهما.
الثاني: أن يكون
عندنا فيه من الله برهان بمعنى: عندنا أدلة واضحة بينة لا تحتمل التأويل
وما هذه القيود إلا لبيان عظم مفاسد الخروج على
الأئمة, وتحققها.
والله أعلم
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار