المؤسسات الافتائية وتحديد الكليات والأصول التي
خالفتها
إن للشريعة كليات وأصولا أمرت بالمحافظة عليها
وأقامت قطعيات الأدلة عليها, ونفت تسويغ الخلاف فيها.
هذه الكليات والأصول مأخوذة من استقراء مقتضيات
الأدلة, ولا يتصور الخلاف فيها؛ لقطعيتها.
ولما كان الأمر كذلك لم يقبل من أي جهة كانت
مخالفتها وعدم المحافظة عليها بأي تصرف وقع ومن أي منطلق كان إلا في حدود ضيقة؛
مراعاة لمقتضى الضرورة, وله فقه خاص وقيود معتبرة ليس هذا موطن ذكرها. وكليات الشريعة تطلق على:
الضروريات والحاجيات والتحسينيات, فلا كلي فوقها, وعليها أصول الشريعة وفروعها.
وأما أصول الدين فنعني بها: أصول الاستدلال وما دلت
عليه الأدلة القطعية من الاستقراء التام والتواتر المعنوي والإجماع القطعي.
وأما العقل فهل ينتج قطعا؟ الذي نعتقده أن العقل لا
يستقل بنفسه وإنما يستند في كلياته وقطعياته على الفطرة أو الشرع, فهو ينتج قطعا
من ورائهما, فلا يسرح العقل إلا مقيدا بهما ومعتمدا عليهما.
فأما مخالفة بعض المؤسسات الإفتائية لكليات الشريعة
فيظهر من خلال استصدار فتاوى ومقالات تؤول إلى التضييق على الناس في شعائر دينهم
وتؤول أيضا إلى إزهاق الأنفس والتعدي على الأعراض؛ إذ لا تجد مؤسسة إفتائية تنكر
الكليات من حيث هي كليات وإنما يكون الخلل فيها من جهات ما تؤول إليه فتاويها من
نقض هذه الكليات أو إضعاف تحصيلها.
ومن ذلك: الإفتاء بما تسبب واقعا في التضييق على
المسلمين في دينهم وإزهاق أنفسهم, والإصرار مع ذلك على أن هذا هو طريق للإصلاح.
ومن ذلك أيضا: الإفتاء بتحريض شعوب المسلمين على
دول الغرب والضغط على حكامهم بما يعجز المسلمون عنه فيؤدي إلى الاعتداء على
بلدانهم واستنزاف ثرواتهم وإذكاء نار الحروب بينهم, وهذا مما يشهد به الواقع.
وكذا الإفتاء بالذوبان مع الغرب والركون إليهم ورفع
شعار الذل معهم. فباب
السياسة إن لم يتعامل معه وفق كليات الشريعة من الحفاظ على الضروريات والحاجيات
وإعمال فقه السلف فيه وما راعوه من تغليب جانب درء المفاسد على جلب المصالح فسيؤدي
إلى هدم الكليات وإذهاب الضروريات, فبعض المؤسسات لما سلكت في هذا الباب غير هذا
المسلك, وغلبت جانب جلب المصالح ولم تلتفت إلى باب درء المفاسد ولا مراعاة حال
الضرورات والنظر إلى ضعف الأمة وبعد كثير من أفرادها عن تطبيق الإسلام تطبيقا يؤول
إلى عز الأمة أضرت بالمحافظة على الضرورات وتسببت في مفاسد كبرى.
وأما مخالفتها أصول الدين فيكون بالأخذ بعقيدة
المتكلمين واعتناقها ودعوة الناس إليها أو تبني مناهج باطلة إما في أصول استدلالها
أو ما تؤول إليه مواقفها وما ترتكز عليه في مخالفة كليات الشريعة.
ومن الانحراف العقدي الأصولي أيضا لبعض المؤسسات ما
يروجه بعضهم من تسويغ الخلاف في القطعيات بين مذهب أهل الحديث وبعض مذاهب
المتكلمين؛ مما ينقض الأصول ويضعف دلالتها.
ومن الانحراف أيضا تسويغ ما يفعله بعض حكام
المسلمين من هدم عقيدة الولاء والبراء مع اليهود الغاصبين المعتدين.
إلى غير ذلك ...
فهذا الهدم للكليات نتعامل معه وفق ما تقتضيه مقاصد
الشريعة وكلياتها على ما ذكرته في مقال سابق بعنوان: "المؤسسات الافتائية بين
الحفاظ على المصالح وهدمهاوالموقف منها"
وقلت فيه:" لما وضع الله الشريعة لمصالح
العباد كان الاجتهاد في النصوص الشرعية على النظر المقاصدي هو تطبيق لما وضع
الشارع الشريعة عليه.
إلا أن المصالح قد تتعارض لما يفرضه الواقع من هذا
التعارض, فهو تعارض بالنظر الواقعي لا التشريعي, فيحصل تعارض بين المصالح نفسها,
أو بين المصالح والمفاسد, أو بين المفاسد نفسها, وهذا يتطلب من الفقيه الموازنة
والترجيح بالنظر إلى طريقة الشارع والأقرب إلى مراده من حيث ما بنيت عليه الشريعة
وشرعت عليه الأحكام, أو بالنظر إلى مراتب المصالح والمفاسد في نفسها أو في أثرها.
وإن النظر إلى المؤسسات الإفتائية من جهة حفاظها
على المصالح وما يعتريها من نقص بحسب بُعد فتاويها ومواقفها عن كليات الشريعة
وجزئياتها: يقتضي في التعامل معها وبيان الموقف منها أن نزن بين مصالح ومفاسد
السكوت عن فتاويها باعتبار كونها مؤسسة يحصل بها حفظ لمصالح العباد من حيث هي
مؤسسة إفتائية وبين الكلام عن مخالفاتها بقدر ما ندفع به المفاسد ولا يتعدى ذلك
إلى إهدار المصالح.
فالنظر الدقيق فيما إذا خالفت المؤسسات الإفتائية
أصولا عامة للشريعة وقواعد كلية هو أن يكون التحذير من المخالفات بقدر ما يدفع
مفاسد السكوت من غير إهدار لمصلحة كونها مؤسسة إفتائية إذا ما حافظت المؤسسة على
مصالح وجودها.
وتطبيق هذا في الواقع بالنظر إلى المخاطَب يحتاج من
المتكلم بيان موطن الزلل والخطأ وتحديده مع إرشاد الناس إلى سلامة ما عداه؛ ليتوجه
الناس في الأخذ عنهم فيما لا لبس فيه ولا زلل دون ما كان فيه زلل .
وبهذا نحافظ على بقاء المؤسسة الإفتائية وتوجه
الناس إليها مع الأمن من مفاسد تضليل الناس فيما خالفوا فيه أصول الشريعة وكلياتها
ومقاصدها. فالأصل
في المؤسسة الإفتائية أن تحمي الضروري وتحافظ عليه, فمتى هدمت الضروريات وأضرت
بالقطعيات وشوشت على الناس أصول دينهم حتى يغلب عليها هذا التشويه والهدم فهذه
خرجت عن كونها حامية لضروريات الدين, ولابد من التحذير منها بإطلاق؛ حفاظا على
كليات الدين وأصوله وقطعياته, ودرءا لمفسدة تشويه الدين,
وما روعي في المؤسسة الإفتائية من مصالح أصبحت في
هذه المؤسسة مفاسد.
وأما إذا أضرت بقطعيات بعض أبواب الدين وهدمت أصوله
وحافظت على قطعيات في أبواب أخرى, فيكون التحذير هنا بقدر ما هدمت من أصول وخالفت
من كليات مع المحافظة على رجوع الناس إليها في غير تلك الأبواب, فتتحقق بذلك
المصالح وتتوازن."
كتبه: أحمد محمد الصادق النجار http://www.alngar.com/user/Re_article.aspx?id=9154