هل يقع
طلاق الغضبان؟
عند
الكلام عن هذه المسألة لابد من بيان أن الغضب قد ورد في النصوص الشرعية ما
يدل على أنه سبب للمنع, كما في قول التبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي وهو
غضبان) فهو سبب يمنع القاضي من القضاء
إلا أن
الغضب إنما كان سببا للمنع لمعنى مناسب, والمعنى الذي من أجل جُعل الغضب سببا
للمنع: التشويش وانشغال القلب وتغير الطبع مما يمنع من استيفاء
الفكر ويوجب اضطراب الرأي, وهو الذي يدور معه الحكم وجودا وعدما, فمطلق الغضب ليس
سببا مانعا بالإجماع.
وهذا المعنى يجعلنا نلغي
تخصيص المنع بالغضب ونعممه على كل ما تحقق فيه المعنى الذي تضمنه الغضب, فالغضب
ليس علة لذاته وإنما للمعنى الذي تضمنه.
ولعموم هذا التعليل الذي
استخرجناه بمسلك تنقيح المناط شمل الجوع الشديد والفرح الشديد والألم والهم المزعج
والخوف المقلق, وكل ما أشغل القلب ومنع من استيفاء الفكر.
فإذا تحقق لنا أن الغضب ليس مقصودا لذاته وإنما
للمعنى الذي تضمنه لم يكن الغضب اليسير سببا مانعا؛ لأنه لم يتحقق فيه المعنى
المقصود وهو إشغال القلب عن استيفاء الفكر, فليس
مطلق الغضب علة، وإنما الغضب المانع من استيفاء النظر, ولذا كان الغضب اليسير لا
ينتفي معه العلم والقصد., فهو يعلم ما يصدر منه ويقصده ويريده.
وذهب
الشاطبي في الموافقات (1/ 134) إلى أن إخراج مطلق الغضب عن أن يكون سببا للمنع
إنما كان بمقتضى لفظ الحديث لا معناه؛ لأن غضبان وزنه فعلان، وفعلان في أسماء
الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه؛ فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا.
وعلى
كل حال فالمعنى المراعى في الغضب والذي من أجله كان سببا مانعا من الحكم هو
التشويش وانشغال
القلب وتغير الطبع مما
يمنع من استيفاء الفكر ويوجب اضطراب الرأي.
أضف
إلى ما تقدم أن الحكم يكون على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة
للمعاني, ولذا كانت الأحكام متوجهة على العاقل العالم العامد المختار الذاكر,
فغيرهم لا يكون قاصدا ولا نية له.
إذا تقرر هذا فعندنا
حالان في الطلاق يتحقق فيهما المعنى الذي من أجه جُعل الغضب سببا للمنع:
1-حال يكون الغضب فيها
شديدا يذهب معه التمييز , فيصبح الإنسان معه كالمجنون لا يعي ما يقول ولا يقصده, فانتفى
معه العلم والقصد, وهذا قد حكي الاتفاق على أنه لا يقع معه الطلاق, وهو الذي قال فيه
النبي صلى الله عليه وسلم «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» أخرجه أحمد وأبو داود وابن
ماجه
2-حال لا يزول مع الغضب التمييز,
وإنما يكون الحامل على التلفظ بلفظ الطلاق هو الغضب, فليجؤه الغضب إليه, فيحصل مع
الغضب تشويش وانشغال للقلب يمنعه من استيفاء الفكر.
فالإرادة التي توجد مع
الغضب كلا إرادة, أو كإرادة المكره, فهذا الغضب لا يقع معه الطلاق على الأقرب من
قولي العلماء, وكونه مكلفا لا يمنع من عدم نفاذ قوله؛ لمانع.
وهو مقتضى قول الشافعي حيث
فسر الإغلاق بالغضب, واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين.
وهو الموافق لمقصد
التيسير, والموافق للأصل وهو ديمومة الحياة الزوجية, وما ذكر معارضا لا يقوى لرفع
الأصل.
وضابط هذه الحال: أن
يحمله الغضب على التلفظ بما لم يكن مختارا له قبل الغضب ولا مريدا له لا على وجه
العقوبة.
ونقصد بالطلاق على وجه
العقوبة ما لو غضب عليها؛ لأنها فعلت أمرا يغضبه فطلقها عقابا لها على ذلك, وهو
غالب ما يقع من الناس, فهنا يقع الطلاق؛ لأن الغضب ليس هو الحامل على التلفظ
بالطلاق وإنما الحامل هو العقوبة.
وما ذكره بعض المالكية من
أن الطلاق أكثر ما يقع في الغضب فجوابه التفريق بين أن يقع الطلاق وهو الحامل عليه
الغضب ويكره ما تلفظ به فيكون في حكم المكره, وهذا الذي لا يقع طلاقه, وبين أن
يكون الغضب على سبب إذا ما وقع يريد طلاقها فهو مريد للطلاق لو قدر أنه لم يغضب.
وقد فصل في هذه الحال ابن
القيم في رسالته: "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" وبين أنه مقتضى
المنقول والمعقول والنظر إلى كليات الشريعة.
كتبه د. أحمد محمد الصادق
النجار