الحكم
على المعين بالتبديع, وقضية الشروط وانتفاء الموانع
قاعدة الشريعة أن الحكم على المعين لابد فيه
من توفر الشروط وانتفاء الموانع, فلا يكتفى في
الحكم بوجود السبب, بل لابد معه من توفر الشروط وانتفاء الموانع
وهذا مطرد في جميع أبواب الشريعة
فلا ينزل الاسم الشرعي أو الحكم الشرعي بمجرد وجود
السبب, فمن باشر الصلاة -مثلا- لا يحكم عليه بأنه صلى إلا
إذا توفرت فيه شروط الصلاة وانتفت موانعها.
وتقييد الحكم بالابتداع على المعين بتوفر الشروط
وانتفاء الموانع هو الذي يتوافق مع أصول الشريعة ومقاصدها وكليتاها، وهو ما يقتضيه
مقصد العدل.
وتقييد الحكم على المعين يتوفر الشروط وانتفاء
الموانع يعد من القواعد الحاكمة على كل جزئية من فعل السلف لا يصرح فيه بهذا
التقييد, فكل قول أو فعل عن السلف لا ينص فيه على هذا التقييد وجب بقواعد الشريعة للتقييد
به, وفهم كلام السلف عليه؛ إذ لا يمكن أن ينفك فقه السلف عن قواعد الشرع..
إذا علمنا هذه المقدمة وجب أن نعلم أن شروط التبديع
هي نفس شروط التكفير، لا فرق في ذلك من حيث كون الجهل شرطا، وكون التأويل شرطا،
ومن حيث معنى الجهل والتأويل وهكذا...
لأنها شروط للحكم من حيث هو حكم في خطاب الشارع،
فيدخل في ذلك جميع أحكام الأسماء الشرعية، سواء كان الحكم بالكفر أو كان الحكم
بالبدعة, فالشروط لازمة للحكم على المعين، وهي من الأحكام الكلية للأسماء والأحكام
الشرعية...
والتطابق في حقيقتها وكونها شرطا لا يلزم منه
التطابق في متعلقها وما يترتب عليها, بمعنى: أن حكم تكفيرا أو الخلود في النار لا
ينزل على المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع التي تناسب حكم التكفير.
وحكم التبديع لا ينزل على المعين إلا بعد توفر
الشروط وانتفاء الموانع التي تناسب حكم التبديع؛ لتفاوت حقيقة التكفير عن حقيقة
التبديع, ومناطهما.
لكن الخلط والالتباس يقع في تحديد ما وقع فيه
المعين هل هو من قبيل الكفر أو هو من قبيل البدعة المفسقة؟
فإذا وقع في أمر مكفر, كمنع الاحتجاج بالكتاب
والسنة في العقيدة؛ لقصورها عنده ودلالتها على الكفر كان الجهل مانعا من تكفيره,
وليس بلازم أن يكون مانعا من تبديعه....
ولذا كان تحديد نوع المسألة مهما في هذا الباب.
وترتب على هذا أن المحكم في تبديع المعين أن يفرق
بين من لم يثبت له أصل السنة فيبدع مباشرة؛ لتلبسه بأمر كفري لو اشترطنا فيه إقامة
الحجة لكان ذلك مقتضيا لتكفيره لا تبديعه
وبين من ثبت له أصل السنة فلا يبدع إلا بعد إقامة
الحجة وإزالة الشبهة
ومما يشهد لهذا التفريق:
1-ما نقله الرازيان من إجماع السلف؛ فقد ذكر اللالكائي بسنده في
شرح أصول اعتقاد أهل السنة عن عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : سألت أبي وأبا
زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار
، وما يعتقدان من ذلك ، فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا
وشاما ويمنا فكان من مذهبهم..
فكان مما ذكراه : (من شك في كلام الله عز وجل فوقف
شاكا فيه يقول : لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي . ومن وقف في القرآن جاهلا
علم وبدع ولم يكفر).
فعدم تأثير الجهل في الحكم بالتبديع راجع لنوع
المسألة وتعلقها بمصدر التلقي، ولهذا قال:(ولم يكفر)؛ لأن اشتراط إقامة الحجة هنا
يجعل الحكم تكفيرا لا تبديعا.
وفي هذا المعنى يقول ابن مفلح في الفروع (12/ 450)
:( قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا
فِيهَا الدَّاعِيَةَ فَإِنَّا نُفَسِّقُ الْمُقَلِّدَ فِيهَا ، كَمَنْ يَقُولُ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ) .
فالعذر المعتبر الذي هو مستحق للمسلم يمنع في هذا
النوع من المسائل من إلحاق حكم التكفير به وليس بلازم أن يكون مانعا من إلحاق حكم التبديع
به, وإثبات أصل الإعذار باعتبار كونا مسلما إنما هو في رفع التكفير إذا كانت
المسألة تجاوزت أن تكون دون الكفر، كإنكار الاحتجاج بالسنة في العقيدة وعدم تجويز
ذلك
وهذا محل إجماع أهل السنة.
2- ما نقله ابن ابن زيد عن أهل السنة؛ قال ابن ابي زيد القيرواني
في الجامع(١٢١):( ومن قول أهل السنة: أنه لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة؛ لأن
الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يعذروا)
فكلامه في رفع العذر في حكم التبديع: محمول على من
طلب الحق من غير جهة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينطبق على من منع
الاحتجاج بالكتاب والسنة واحتج بغيرهما، كما عليه أهل الكلام، وكذلك الخوارج الذين
مثل به ابن أبي زيد، فهم لا يرون الاحتجاج بالسنة المخالفة لظاهر القرآن.
ومن فقه ابن تيمية قوله:(ولا ريب أن من اجتهد في
طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر
له خطأه؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: (ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا".
فقوله: "من جهة الرسول صلى الله عليه
وسلم" يفيد أن من طلبه من غير جهة الرسول فإنه لا يعذر في تنزيل حكم التبديع عليه.
ويدخل في ذلك المسائل التي بنيت على الدليل الكلامي
وليس لها وجه في الأدلة الشرعية كالقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية...
ولما كان أمر التفريق متقررا عند الأئمة حكموا على
أعيان الرافضة والجهمية بالبدعة؛ لأن خلافهم كان في مصدر التلقي، وأصول المسائل
التي خالفوا فيها السلف إنما بنوها على عدم الاحتجاج بالكتاب والسنة.
قال ابن تيمية: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين،
من الرافضة والجهمية وغيرهم، إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا
بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا)
فتحصل مما سبق أن الإعذار المتعلق بكل مسلم يمنع من
تكفيره لا من تبديعه؛ لتعلقه بأصل الإيمان, وليس هو الإعذار المتعلق بمن ثبت له
أصل السنة ووقع في بدعة؛ إذ إن هذا النوع من الإعذار يمنع من تفسيقه، وليس هو من
نوع الإعذار الذي يمنع من التكفير, مع العلم أن الاسم الواحد
قد يثبت من وجه وينفى من وجه آخر لتعدد الاعتبارات
ثم إذا نظرنا إلى حقيقة المانع عند الأصوليين
والفقهاء وجدنا أن الإعذار أو النظر في الموانع في أحكام الدنيا يكون لمن ثبت له
الأصل، فمن ثبت له الأصل كان المانع مانعا من إخراجه عن الأصل إلا لمقتض خاص يقوى
على الأصل, وهذا ما دل عليه استقراء الشريعة.
والأصل المراعى في الكفر يختلف عن الأصل المراعى في
البدعة, وترتب عليه اختلاف في نوع الإعذار.
وقد صور بعض الإخوة -(ممن لا يحسن الكلام إلا في
بدايات العلوم، ويتعامل مع القضايا المركبة بجنس تعامله مع القضايا البسيطة!!
ويبني خلاصاته على مقدمات تجريدية ذهنية من غير
استقراء لكلام السلف وما تقتضيه النصوص الشرعية وعرفها، ولا نظر دقيق في إجماعات
أئمة أهل السنة!!)- : التفريق في التبديع بين من ثبت له أصل السنة وبين من لم يثبت
له أنه تفريق خاطئ!!
وأطلق القول باشتراط إقامة في الحجة في الحكم
بتبديع المعين من غير نظر إلى ثبوت أصل السنة وعدمه
وأكثر من الدعاوى التي لا تفيد في التحقيق، ولا
تعالج الإشكاليات العلمية التي يحتاج في تحريرها عدم حضور الذات ومراعاة الآخرين
مما أداه إلى الخلط بين أنواع الإعذار؛ للاشتراك
الواقع في مسمى الإعذار, وتغافل عن تعدد مناط التسمية الذي يتوجه إليه الإعذار من
عدمه، وأن ما كان عذرا في التكفير لا يلزم أن يكون بعينه عذرا في التبديع.
وهذا ما صرح به شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى
(13/ 361) لما قال: "و فِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَايُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ
مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ
خَطَؤُه".
فصرح بالتبديع مع وجود عذري الخطأ والتأويل، وأن
هذا النوع من الأعذار المتعلقة بالسنة والبدعة تنفع في المغفرة وعدم التكفير، ولا
تنفع في عدم التبديع فيمن أخطأ الاستدلال السني.
ومراده بالمبتدع هنا من لم ينتسب للسنة أصلا, إذ
إنه لا يعدل عن مذهب الصحابة إلا أهل البدع, كما قال شيخ الإسلام: (( فعلم
أن شعار أهل البدع : هو ترك انتحال اتباع السلف ))مجموع الفتاوى (4/155)
وهذا يقرر أن خلافهم كان في مصدر التلقي، فهم
عدلوا؛ لأجل مذهب اعتقدوه مخالف لمذهب الصحابة.
يوضحه أيضا سياق هذا الكلام فقد قال((فإن الصحابة
والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر
لأجل مذهب اعتقدوه وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا
مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا))
ومن لوازم القول بعدم التفريق بين من ثبت له أصل
السنة ومن لم يثبت هو: تكفير من قامت عليه الحجة لا تبديعه، بمعنى لو اشترطنا
إقامة الحجة فيمن يمنع الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقيدة ويجعل ظاهرها كفرا
لحكمنا عليه بالكفر لا بالبدعة؛ لتلبسه بأمر كفري لا بدعي مفسق, وقد استقر الأمر
على أن الابتداع حكم مفسق لا حكم مكفر.
ومنشأ غلط من لم يفرق بين من ثبت له أصل السنة ومن
لم يثبت له: عدم التفريق بين درجات البدع، وإثبات التلازم بين تسمية من خالف في
مصدر التلقي مبتدعا ونفي حقوق الإسلام عنه!!
ومعلوم أن البدع ليست على درجة واحدة؛ فمنها المغلظ
ومنها المخفف؛ فالمغلظ كبدعة الجهمية والمعتزلة؛ والمخفف كبدعة مرجئة الفقهاء...
والبدعة المغلظة لا يفرق في التبديع بها بين
الطائفة والأفراد، فالحكم بالبدعة المغلظة على الطائفة يلزم منه بالضرورة الشرعية الحكم
بالبدعة على المعين، فأعيان الرافضة مبتدعة ؛ لغلظ بدعة الرافضة, والتجهم بدعة
مغلظة، وكل جهمي مبتدع، وإنما تشترط إقامة الحجة لتكفيره لا لتبديعه؛ لأنه وقع في
مكفر لا في مفسق، فكان التأويل مانعا من التكفير لا من التفسيق
ومما ينبغي أن يعلم: أنه قد أطلق بعض السلف: التجهم
وأرادوا به الكفر, قال الإمام أحمد: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو
جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع"
وأما في البدعة المخففة كبدعة مرجئة الفقهاء،
فالطائفة تكون مبتدعة؛ لمخالفتها لأصل كلي, وتنزيل ذلك على الأعيان لابد فيه من
توفر الشروط وانتفاء الموانع؛ لأنه وقع في مفسق لا في مكفر، فكان التأويل مانعا من
التفسيق.
قال ابن تيمية (أما المرجئة فليسوا من هذه البدع
المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائــف من أهل الفقــه والعبــادة، وما كانوا يعدون
إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة)
فمن فهم هذا زال عنه اللبس والاشتراك...
والسلف كما فرقوا بين الحكم على الطائفة والحكم على
الأعيان فرقوا أيضا بين البدع نفسها والأحكام المترتبة عليها في الأعيان.
وقد سئل الإمام مالك عن الصلاة خلف أهل البدع
القدرية، فقال: ولا أرى أن يصلى خلفهم، قال ابن وهب: وسمعته وسئل عن الصلاة خلف
أهل البدع؛ فقال: لا، ونهى عنه.
وقال ابن تيمية:(...فإن هؤلاء مع إيجابهم دين
الإسلام وتحريمهم ما خالفه، يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة
والجماعة، كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل...)
والله أعلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
أستاذ العقيدة بكلية علوم الشريعة