الكلام في النووي رحمه
الله من بعض الشباب حرك في الباحثين بحث مناط التبديع, وهل ينطبق ذلك على النووي
رحمه الله؟
قد قرأت بعض المقالات التي
أرسلها إلي بعض الإخوة, واستبعدوا فيها أن يكون مناط التبديع هو مجرد التأويل,
وقد أصابوا في ذلك, فمجرد
التأويل ليس مناطا للتبديع؛ لأن التأويل يختلف حكمه بحسب مقدمات المؤول وأصوله,
فالتأويل نتيجة لأصول, ولذا وقع فيه بعض الفضلاء, ولم يكن ذلك باعثا على تبديعهم,
كوقوع ابن عبد البر في تأويل صفة الرضا؛ لأنه لم ينطلق من أصول كلامية...
فصح نفي أن يكون التأويل
مناطا للتبديع.
إلا أن بعض الباحثين ذهبوا
إلى أن مناط التبديع: اندثار آثار النبوة وانتشار البدعة!!
وهذا في الحقيقة من حيث
التقعيد والنظر: ليس بمناط؛ لأن اندثار آثار النبوة وانتشار البدعة –إن صح- فهو مؤثر
في تمام العلة, وليس هو علة بنفسه.
بمعنى: أن اندثار آثار
النبوة وانتشار البدعة مانع يمنع من الحكم؛ لعدم تمام العلة, وليس مناطا يعلق عليه
الحكم.
لكن هل هذا المانع يمنع من
إطلاق التبديع على المعين أو هو يمنع من أحكام أخرى غير التبديع؟
وجوابه: أن هذا المانع لا
يمنع من إطلاق التبديع وليس هو من تمام العلة فيمن لا يحتج بالسنة أصلا, وإنما هو
مانع يمنع من نفي مغفرة الله...
فانتشار مذهب الرافضة في
وقت أو مكان لم يمنع السلف من إطلاق التبديع على كل رافضي, وكذلك لما انتشر مذهب
الجهمية لم يمنع السلف من إطلاق التبديع على كل جهمي, وهكذا...
فلم يكن هذا المانع معتبرا
في إطلاق التبديع؛ مما يدل على أنه ليس مناطا يدور الحكم عليه وجودا وعدما.
وإنما اعتبر السلف هذا
المانع في مسألة المغفرة أو التأثيم أو عدم قبول روايته..., لا في إطلاق التبديع,
كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (13/ 65): (...فلما طال الزمان خفي على كثير من
الناس ما كان ظاهرا لهم ودق على كثير من الناس ما كان جليا لهم فكثر من المتأخرين مخالفة
الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف. وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر
الله لهم خطاياهم ويثيبهم على اجتهادهم. وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم
أجر خمسين رجلا يعملها في ذلك الزمان)
فاشتباه الأمر وخفاؤه ليس
مناطا لعدم التبديع لمن تحقق فيه مناط التبديع, وإن كان معتبرا في مسألة المغفرة
والعفو ونفي التأثيم...
وليس من مناط التبديع: ظن
المعين أن ما عليه الطائفة باطل, ولو اعتبرنا ظنه لخطأنا السلف في جملة ممن بدعوهم,
وانتفى التبديع على كل من ظن أنه موافق للسلف!!.
وأما تصوير أن المناط هو
اتباع الهوى, فهذا أمر بعيد؛ لعدم انضباطه في المعين ولخفائه, ولذا لم يعلق السلف
التبديع عليه.
قد يسأل سائل: ما مناط
تبديع المعين؟
قيل: يجب أن يكون المناط
متعلقا بأصل السنة واعتبارها في الاحتجاج؛ لأن البدعة في مقابل السنة, فيكون من
ألغى السنة في الاحتجاج بها ولو في باب واحد من أبواب الدين انتفى فيه اسم السني؛
لأن السنى من احتج بالسنة واعتبرها حجة في جميع الأبواب, ويقابله اسم البدعي أو
المبتدع وهو الذي لا يحتج بالسنة ولا يجعلها مصدرا في تلقيه.
فيكون مناط تبديع المعين –ابتداء-
ومن غير اشتراط إقامة الحجة, هو: المخالفة في مصدر التلقي بحيث يكون منهجا متبعا
له سائرا عليه.
وليس مجرد الانتساب لطائفة
مبتدعة يكون موجبا لتبديعه إذا تخلف في المعين مناط التبديع, ولذا كانت المنتسب
للأشعري بعد كتابه الإبانة من غير أن تظهر له مقالة تخالف ما قرره الأشعري في هذا
الكتاب سنيا؛ لظهور اعتبار الاحتجاج بالكتاب والسنة في هذا الكتاب, وعدم مناقضتهما
بالعقل الكلامي, وتقديمه عليهما.
فالنظر يكون لمناط التبديع
لا للانتساب إلى الطائفة المبتدعة؛ إذ يتصور الانتساب إليها بجهل.
كما لا يكفي الرجل أن ينتسب لأهل السنة حتى يسلم
من تبديعه, وإنما العبرة بالمناط لا بالانتساب.
فإن قيل: هل تحقق مناط #التبديع في #النووي؟
لو نظرنا في كتب النووي لوجدنا أنه لم يكن محققا لأقوال المتكلمين, ولا سائرا على نظم واحد, ولا انتظمت له أصول المتكلمين, ولذا تجده يأخذ تارة بمذهب أهل الحديث ويأخذ تارة أخرى بمذاهب المتكلمين.
مع وقوعه في شيء من مناقضة الكتاب والسنة, والتعبير بألفاظ مجملة؛ تأثرا بالمتكلمين وتقليدا لهم.
فسلامة منهجه الاستدلالي -في الجملة- من جهة تعظيمه النص الشرعي, واعتباره في الاحتجاج -في الجملة-, مع ما عرف عنه من نصرة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهوده في خدمتها, وعدم انتظام أصول المتكلمين عنده ولا اطرادها ولا تحقيق القول فيها: شفع له من إطلاق التبديع عليه, ولذا نجد العلماء لا يطلقون عليه التبديع, وإنما يذكرون أخطاءه, فهذه الحسنات منه, وما غمر أخطاءه من الاتباع كان مانعا من إطلاق التبديع.
ونكتة المسألة: أن من سَلِم له تعظيم النص الشرعي والاستدلال به, ثم وقع في تأويل لم يكن منطلقه فيه رد النص الشرعي, وإنما أحسن الظن بالمتكلمين، وظن أنهم حققوا المقالة فقال بقولهم؛ لم يبدَّع إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشيهة, فضلا عن أن يكفر.
فالمعروفون بالخير والدفاع عن السنة لا يبدعون لمجرد وقوعهم في التأويل وموافقتهم لبعض مسائل المتكلمين.
وعدمُ إطلاق التبديع لا يمنع من بيان أخطائه وما خالف فيه السنة وتأثر فيه بأهل الكلام,
وليس هو هروبا من وصفه بالأشعرية؛ لأن انتصاره للسنة واعتبار الاحتجاج بهما وعدم جعل منهج المتكلمين قانونا مطردا بسير عليه, ولا التزم به, هو: الذي منع من وصفه بالأشعرية التي استقر عليها أصحابها المتأخرون, وإلا وصفه بالأشعرية أو عدم وصفه لا يغير من الحق شيئا, فالحق حق قال به النووي أو لم يقل به.
فإن قيل: ما تقولون فيمن تعدى التبديع إلى التكفير؛ استنادا على النصوص المطلقة من أئمة السلف في تكفير منكر العلو والرؤية؟
قيل: القول بهذه المسائل لا يوجب تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة, فألفاظ العموم من السلف محكومة بأصول الشريعة في تنزيل الأحكام على المعينين, فالشريعة راعت في تنزيل الأحكام على المعينين توفر الشروط وانتفاء الموانع, فالأحكام المطلقة لا تنزل على المعين إلا بشرطها, وهذا الشرط مستقر العلم به في نفوس الأئمة وهو من ضروري الشرع, ولذا لا يذكرونه في كل إطلاق.
قال أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله: ( سألتَ عن السنة ما هي؟ والسنة اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك, ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة القول: بإثبات القدر وإن الاستطاعة مع الفعل للفعل والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره وكل طاعة مع مطيع فبتوفيق الله له وكل معصية من عاص فبخذلان الله السابق منه وله والسعيد من سبقت له السعادة والشقي من سبقت له الشقاوة والأشياء غير خارجة من مشيئة الله وإرادته وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم خلق لخالقهم والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تلكم الله به ليس بمخلوق ومن قال مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه) السنة لابن أبي عاصم ومعها ظلال الجنة للألباني (2/ 645)
وانظرمجموع الفتاوى (12/ 488): (الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. ...)
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار
أستاذ مساعد بكلية علوم الشريعة