مناقشة الشيخ مولود السريري في دعواه أن
إثبات معنى الصفات الخبرية ونفي الكيفية تناقض
إن ما كنا نخشاه أن تُجعل المذهبية والتدرج في الفقه المالكي قنطرة لتغيير عقائد طلبة العلم والتلبيس عليهم, فقد انتُقل بالطلاب من كون التمذهب سلما للتدرج في الفقه إلى تبني عقائد متأخري مدوني المذهب, وهذا أمر عظيم يجب التصدي له.
وإن من الإشكالات التي وقعت للشيخ مولود والتي تبع فيها متأخري الأشاعرة أن إثبات المعنى الكلي للصفات الخبرية كالوجه يلزم منه التجسيم, والتزم في ذلك أن البحث في المعني بحث في الكيفية؛ لأنه لا يتصور منه - على حسب دعواه- بحسب الوضع اللغوي إلا الهيئة المحسوسة, فإثبات المعاني يرجع إلى إثبات ما وضع له اللفظ في اللغة وهو عنده إنما وضع للهيئات المحسوسة, فإثبات اليد في وصع اللغة إثبات لعضو من الجسم المحسوس, فيرى أن اللغة فرضت عليه إثبات هذا الأمر, فإذا أثبت عضوا لزم إثبات محل له وجسم.
وبالتالي لا يصح أن تثبت المعنى وتنفي الكيفية؛ لأن البحث في المعنى لغة بحث في الكيفية والهيئة المحسوسة التي هي طول وعرض وعمق, فمن أثبت المعنى ونفى الكيفية فقد تناقض.
هكذا تصور المسألة, ورتب على ذلك أن إثبات الصفات الخبرية يلزم منه التجسيم.
وهذا التصور خلاف ما عليه أهل الحديث وما انبنى عليه معتقدهم من دلالة اللغة,
والرد المجمل -عندنا- أنه لما كان مذهب أهل الحديث حقا قطعا؛ لدلالة الأدلة القطعية على كونه حقا كان كل ما خالفه خطأ قطعا, ويكفي هذا الرد المجمل لكل من تشرب عقيدة أهل الحديث.
وأما تفصيل الرد فنقول: إن اللفظ في اللغة يكون وضعه على القدر المشترك الذي هو المعنى الكلي الذهني, ثم قد يغلب استعماله على أحد الأفراد التي يصدق عليها القدر المشترك,
فليس في الاستعمال خروجٌ عن الوضع, بل لا يكون الكلام خارج الذهن إلا مستعملا, وأما الوضع فهو أمر ذهني يستفاد منه في الاستعمال.
إلا أن الاستعمال له جانبان: جانب يتحدد فيه المعنى اامراد بالنظر إلى القرائن والسياق, وجانب تكون فيه الحقيقة الخارجية تابعة للإضافة.
وأقرب ذلك بمثال: اليد في لغة العرب وضعت لمعنى المقبض, واستعملت في اليد الحقيقية, والنعمة, والقدرة, وكل هذه الاستعمالات روعي فيها الوضع الذي هو القدر المشترك,
وفي كل استعمال أقيمت القرائن التي تدل على مراد المتكلم, وإن كانت في بعضها أكثر استعمالا من بعض, وكثرة الاستعمالات ليس هو ما وضع له اللفظ, فالتبس الأمر على الشيخ مولود كما التبس على بشر المريسي وغيره
ولذا كان تحقيق المسألة عند أهل الحديث: أن الصفات التي أضافها الله إلى نفسه من جهة الوضع والاستعمال على النحو الآتي:
ألفاظ الصفات وضعت على القدر المشترك, فالسمع مثلا: وضع لمعنى إدراك المسموعات, والاستواء وضع لمعنى العلو والاعتدال, والوجه وضع لما يواجه به, واليد وضعت للمقبض, والقدم وضعت على السبق ومنه سميت قدم الإنسان قدما؛ لأنها للتقدم والسبق.وهكذا.
ثم يأتي الاستعمال المقيد فيناسب الحقائق الخارجية, فتختلف يد الباب عن يد الإنسان ويد الفيل...
فهذه الألفاظ جعلت دالة على القدر المشترك, وهي إنما تفهم على هذا الوجه, فالذهن يلاحظ اللفظ ويتصور معناه كليا بحسب ما وضع له في لغة العرب,
وهذا ما فهمه الصحابة من ألفاظ القرآن وآيات الصفات, والأمثلة عليه كثيرة ومن ذلك ما ثبت عن ابن عمر -وهو صحيح- أخرجه اللالكائي والآجري والبيهقي أنه قال: ( خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم وعدن وآدم, ثم قال لسائر الخلق: كن فكان )
فخص خلق أربعة أشياء بيده دون غيرها؛ مما يدل على أنه يثبت اليد حقيقة لله وفهم منها المعنى الكلي من غير أن ينقدح في ذهنه هيئة وشكلا, فلو لم يثبت لها معنى لما أثبت لها حكما.
والخلاصة أن الذي نفهمه من إضافة الله الوجه لنفسه: المعنى الكلي للوجه وأنه غير السمع والبصر والذات ...
إلا أنه لما استعمله مقيدا- بمعنى أنه لم يطلق الوجه من غير إضافة- تطلب في الخارج كيفية, وهذه الكيفية تصورها يكون تبعا لتصور الذات, ولما كان تصور الذات ممتنعا كان تصور حقيقة الوجه ممتنعا, ولذا كان المطلوب منا شرعا إدراك المعنى العام لا حقيقة الوجه الخاص المقيد.
ولو كان الأمر كما يدعيه الشيخ مولود لكان الله قد خاطبنا بما معناه في لغة العرب كفرا, ولكان الصحابة الذين رتبوا الأحكام على صفات الله قد وقعوا في الكفر, كما فعل ابن عمر, فابن عمر لما خص خلق أربعة أشياء بيده سبحانه لم يتصور من اليد إلا ما دل عليه الوضع اللغوي, فيكون قد نسب إلى ربه ما لا يليق به.
وهذا اللازم لا يقوله مسلم عاقل.
ولكي أوضخ أكثر للشيخ مولود عقيدة أهل الحديث أقول له: إن الله لما وصف نفسه بالوجه واليدين والاستواء هو يريد منا أن نفهم معانيها التي وضعت لها مع إثبات القدر المميز, لكن لما كان القدر المميز تابعا للذات, وقد جهلت حقيقة الذات, أثبت أهل الحديث المعنى ونفوا الكيفية
ولما كان المعنى العام لا يوجد خارجا إلا مقيدا, وقد جهلت حقيقة وكنه هذا التقييد مع القطع بأنه ليس مثل حقيقة صفة المخلوق, أثبت السلف المعنى ونفوا الكيفية
فأين التناقض؟!!
ثم ما الذي تعتقده في الصراط والمبزان والحوض, ألا تثبت معانيها بحسب الوضع اللغوي وتنفي الكيفية؟!
أو تريد منا نعتقد أنه لا معاني لها!!.
ثم استدرك الشيخ مولود فزعم أن إثبات القدر المشترك مخصوص بصفات المعاني التي تكون في الخالق واجبة وفي المخلوق جائزة.
قيل: لا وجه للتفريق بين صفات المعاني والصفات العينية؛ لأن بحثنا في المفهوم, والعرب لم تفرق في المفاهيم بين ما كان معني ـأو عين.
ثم إن السمع في المشاهد لا يكون إلا بآلة مخصوصة,
فإن قلت: الهيئة المخصوصة في السمع خارجة عن المعنى الكلي
قلنا: وكذلك هيئة الوجه المخصوصة المحسوسة خارجة عن المعنى الكلي.
وأخيرا: ليس هناك ما يمنع من إثبات الصفات الخبرية كاليد حقيقة لله؛ لأن ذات الله قابلة للاتصاف بالصفات على وجه الحقيقة, وارتفاع الصفات ارتفاع للذات, فإذا صح ارتفاع اتصاف الله بالوجه واليدين فليصح ارتفاع اتصاف الله بالسمع والوجود؛ لأن إثبات الوجه واليدين لله، ثابت على خلاف ما هو ثابت للمخلوق, كما أن إثبات العلم والقدرة لله ثابت على خلاف ما هو ثابت للمخلوق.
ثم إن ما دفعوا به إثبات الوجه واليد يصح أن ندفع به إثبات الذات؛ لأن الإثبات فيهما واحد, ونحن إنما نثبت يدا تليق بالذات, فنسبة اليد إلى الله كنسبة الذات إلى الله.
كتبه د. أحمد محمد الصدق النجار
أستاذ العقيدة بكلية علوم الشريعة المرقب