التكبير المقيد بأدبار الصلوات من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق
لم يثبت فيه نص صريح في الكتاب والسنة
ولا نُقل عن أبي بكر وعمر وعثمان...
وهنا يأتي سؤال: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم وعدم النقل عن طائفة من الصحابة
مع وجود مقتضيه ولا مانع يقتضي المنع؟ وهل هو بدعة؟
هنا يأتي جواب من أخطأ وحصر الاستدلال بالنص الصريح على الفعل أو الظاهر
وأعمل قاعدة الترك بإطلاق في الأمور الشرعية، فيقول هو بدعة.
ولو تأمل في طريقة الأئمة في الاحتجاج لأحجم عن هذا الوصف, بل لم يسعه- فيما أحسب- إلا أن يقول بجواز التكبير المقيد.
وحتى أدلل على طريقة الأئمة وفقههم أقول:
قال الإمام مالك في الموطأ (3/ 592): (الأمر عندنا، أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات. وأول ذلك تكبير الإمام، والناس معه. دبر صلاة الظهر من يوم النحر. وآخر ذلك تكبير الإمام، والناس معه. دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. ثم يقطع التكبير)
فلم يحتج على جواز ذلك بنص من الكتاب والسنة, ولا أعمل قاعدة الترك, وإنما احتج بجريان العمل في المدينة؛ مما يدل على توسعة دائرة الاستدلال.
وليس المقصود هنا مناقشة كون العمل أهل المدينة دليلا أو ليس بدليل , وهل هو إجماع أو لا, وإنما المقصود التنبيه على طريقه الأئمة في الفقه, وأن الاحتجاج عندهم بابه أوسع من صحة الدليل بطريقة المحدثين بالنظر إلى الإسناد.
ولما جاء الحافظ ابن رجب وقرر جواز التكبير المقيد عقيب الصلوات نبه على طريقة الأئمة في الاحتجاج, وبين أن الاحتجاج لا يقتصر فيه على الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يحتج بآثار الصحابة وبآثار من بعدهم من التابعين وبعمل المسلمين, فقال في فتح الباري لابن رجب (9/ 22): (فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيه حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيه آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليه.
وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليه لم ينقل إلينا فيه نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يكتفى بالعمل به).
بل نجد أن الفقهاء عند تقريرهم جواز التكبير المقيد عقيب الصلوات يحكون الإجماع, كما تقدم في كلام ابن رجب...
وقال ابن قدامة في مسألة التكبير المقيد عقيب الصلوات في الجماعة في المغني (3/ 291): (ولنا ، قول ابن مسعود ، وفعل ابن عمر ، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة رضي الله عنهم ، فكان إجماعا) .
فالإجماع المحكي قرينة قوية على مشروعية التكبير
وإنما قلت: قرينة لاحتمالية وجود المخالف، فيكون قول الأغلب قرينة قوية على أن الصواب لا يخرج عما قرروه وفهموه من مجموع النصوص وفقه الصحابة.
ومما نستند عليه في صحة التكبير المقيد عقيب الصلوات الخمس ما ثبت من آثار عن بعض الصحابة:
قال البخاري في صحيحه (2/ 20): (وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعا)
وقد وصله الفاكهاني في أخبار مكة (4/ 228) وابن المنذر في الأوسط (4/ 299) بسند صحيح.
والأثر صريح في التكبير المقيد خلف الصلوات.
ونُقِل عن علي كما في مصنف ابن أبي شيبة (15/ 109) «أنه كان يكبر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من اخر أيام التشريق ويكبر بعد العصر». وصححه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 440), وقال ابن حجر الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/ 222): (أخرجه ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح)
قال الإمام أحمد: هذا تكبير علي، ونحن نأخذ به. مسائل عبدالله (2 / 432).
وعن ابن عباس كما في الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر (4/ 301): «أنه كان يكبر من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، لا يكبر المغرب، الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر وأجل الله أكبر ولله الحمد» وصححه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 440)
وتخصيص التكبير بغداة يوم عرفة إلى عصر أخر أيام التشريق يوجب أن له محلا مخصوصا, ويدل على أنه غير التكبير المطلق الذي لا محل له مخصوص..
وهذا المحل قد جاء بيانه في أثر ابن عمر الصحيح المتقدم, وفيه أنه خلف الصلوات, وهذا ما فهمه الأئمة فقيدوا التكبير بعقيب الصلوات, وقد نقدم كلام بعضهم.
قال البغوي في شرح السنة للبغوي (7/ 146): (وروى عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يكبر عقيب صلاة الغداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق دبر كل صلاة)
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار