تصوير الخلاف بين مانعي الاحتفال بالمولد ومجوزيه بمساجلة
علمية فرضية بين شيخ وأحد المستفتين:
فضيلة الشيخ: ما محل النزاع بين مانعي الاحتفال
بالمولد ومجوزيه؟
قلت: سؤال مهم؛ لأن كثيرا ممن يستدل على المنع أو
الجواز لا يحدد نقطة الخلاف، فيكون استدلاله بعيدا عن محل النزاع أو يحتاج إلى
مقدمات حتى يصل إلى محل النزاع.
فمثلا احتجاج المانع على المنع بترك النبي صلى الله
عليه وسلم, وبأن الاحتفال بدعة شرعية لا يستقيم إلا بعد تحديد أن الاحتفال من
الدين وأنه داخل في التشريع.
وكذا
احتجاج المجوز على الجواز بأن الأصل في العادات الإباحة, وبأنه بدعة حسنة لا
يستقيم إلا بعد إثبات
كون الاحتفال عادة وأنه ليس من الدين.
فضيلة الشيخ: إذن, ما هي نقطة النزاع وبدايته ؟
قلت: نقطة النزاع في الاحتفال: هل هو دين؟ وهل هو
من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟
فضيلة الشيخ: أليس من محل النزاع اعتقاد سنيته
واستحبابه؟
قلت: هذا فرع كونه من الدين؛ لأن الاستحباب حكم
شرعي, فمن أثبت استحبابه أدخله في الدين.
فضيلة الشيخ: أليس من محل النزاع كيفية الاحتفال
وطريقته؟.
قلت: الكلام ابتداء عن حكم الاحتفال من حيث هو
احتفال, ثم
يأتى بحث آخر عن كيفيته وموضوعه.
فضيلة الشيخ: ظهر لنا أن نقطة البحث كونه من الدين
أو لا، فهل هو من الدين أو لا؟
قلت: إثبات كون المسألة من الدين, ترجع إلى معرفة
طريقة الشارع في التشريع, وعن كيفية إثبات الأمر دينا, فتخصيص ما لا يعقل معناه, هذا
من خصائص الشارع وطريقته في التشريع، فمن خصص فعلا في زمن لذات الزمن دخل فعله في
التشريع والتدين، وإذا نظرنا إلى حقيقة الاحتفال بالمولد ,وجدنا أنه تخصيص اليوم
الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال؛ لذات اليوم, وهذا من جنس التشريع.
ومما يؤكد أن التخصيص في زمن لذات الزمن تشريع ما جا
أن التخصيص منهي عنه؛ فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا
تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين
الأيام)
ثم ما من محتفل خصص أمرا كقراءة السيرة مثلا في
الثاني عشر من ربيع الأول إلا ولابد أن يشعر بوجود فضل إن لم يعتقد الفضل
والاستحباب, وهذا يجعل التخصيص من الدين قطعا، وما كان هذا حاله لا يدخل في العادة
المحضة ولا في البدعة اللغوية.
وقد كفانا المؤونة من أثبت
الاستحباب لفظا.
بعد تحرير أن الاحتفال من جنس التشريع والتدين يأتي
الاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرون الثلاثة, ويأتي
الاستدلال أيضا بكل بدعة ضلالة.
فالاحتفال داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ؛ لأن الاحتفال ليس من أمر النبي صلى الله
عليه وسلم ولا دينه, وليس هو من السنة الحسنة؛ لأن الحسن وصف شرعي, فالسنة الحسنة
أي: المشروعة, ولا شرع يدل على الاحتفال.
فضيلة الشيخ: نجد أن الحافظ ابن حجر يستدل على شرعيته
-وهو فرع إثبات كونه من الدين- بصيام يوم عاشوراء شكرا، فالشكر بحدوث نعمة يحصل
بأنواع من العبادات، والأصل في اليوم المعظم أن يتقرب فيه إلى الله بأنواع
العبادات.
واستدل السيوطي بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ذاك
يوم ولدت فيه) على إحيائه بأنواع من الطاعات, فإظهار الشكر يكون بعبادة كالصوم أو
يكون بالفرح والسرور.
قلت: ما استخرجه الحافظان فرع إثبات كونه من الدين،
لا أنه من قبيل العادات كما يقول به من المعاصرين من لا يفهم حقيقة النزاع
وإذا كان من الدين فيمنعه ترك أهل القرون الأربعة
للاحتفال؛ لأن تركهم الوجودي فيما هو من جنس التشريع والتدين يقتضي المنع والبدعية,
وإلا خلا زمن من الدين والقربة مع وجود داعيه ولا مانع, وخلو زمن من الدين ممتنع
شرعا.
ثم إن الشكر في حديث:" ذاك يوم ولدت فيه"
بمطلق صيام يوم الاثنين لا بتاريخ مولده؛ إذ إن إغفال تاريخ مولده وعدم ذكره يدل
على أنه ليس مقصودا للشارع, ثم كيف يعلق الشكر على تاريخ مختلف فيه؟!
فضيلة الشيخ ألا يقال: مصلحة الاحتفال راجحة فلا
نلتفت إلى ترك القرون الثلاثة.
قلت: تركهم له يدل على أن المفسدة أرجح، ولا أظن أن
أحدا يشك في أن مفسدة الابتداع أعظم من مصلحة الاحتفال، ولذا تركه السلف.
فضيلة الشيخ: ألا يقال: هو
من الدين؛ لدلالة المعاني الكلية عليه, كما دلت على جمع القرآن.
قلت: الاحتفال بالمولد وإن
دلت عليه بعض المعاني الكلية إلا أنه ورد فيه منع خاص, فالمنع الخاص يمنع من اعتبار المعاني الكلية في الاحتفال ويخرج عن حد
المصلحة المرسلة, بخلاف جمع القرآن فلم يصادم المعاني الكلية دليل خاص, فدخل في ضابط وحد المصلحة المرسلة.
فضيلة الشيخ لو كان
الإحداث في التشريع ممنوعا مطلقا لما صح ذلك من الصحابة فيما وافق الدليل العام, ففي البخاري عن رفاعة بن
رافع رضي الله عنه، قال: " كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمنحمده "، قال رجل وراءه: ربنا ولك
الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف، قال: «من المتكلم» قال: أنا، قال:
«رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول».
وما رواه أحمد من حديث
بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «بم سبقتني إلى
الجنة؟ » قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «بهذا»., ونحو ذلك.
قلت: هذا اجتهاد من الصحابة في زمن التشريع, ثم يأتي الإقرار أو الإنكار من
النبي صلى الله
عليه وسلم, فما أقره النبي صلى الله عليه وسلم كان شرعا ودينا بإقراره أو بإقرار
الله لا باجتهاد الصحابي,
وهذا ليس موجودا فيمن بعدهم, فغاية ما تدل عليه الآثار جواز الاجتهاد لا جواز
الإحداث والتشريع.
ولو سلمنا أنه تشريع
وإحداث فهو جائز في حياته وزمن الوحي لا بعده؛ لإمكان إنكار كونه من الدين.
وكما أقر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أنكر على زينب, ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي
صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا:
هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلوه ليصل
أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد».
فضيلة الشيخ ما تقول في
أذان عثمان؟
قلت: ليست ألفاظ الأذان مقصودة,
وإنما المقصود هو التنبيه والإعلام, فهو من جنس المصالح المرسلة, وهو وسيلة لتحقيق
مقصد, ولا يعارضه دليل خاص بالمنع.
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار