نظرية العقد الاجتماعي العلمانية وتأثر بعض الحركات
الإسلامية بها
إن الحركات الإسلامية
والجماعات كحزب الإخوان المسلمين وغيره لقو من من الاستبداد والحكام من التعذيب
والسجون ما جنحوا بسببه إلى الالتفات إلى ما عليه الغرب في ظل الديمقراطية من حرية
تمكنهم من المشاركة في الحكم والتشريع ومحاسبة الحاكم والتظاهر عليه وتقييد
تصرفاته, فأدى بعض من ينتسب إليها إلى محاولة أخذ ما يرونه مناسبا ومحققا لمقصودهم
مع إضفاء روح الإسلام عليه وتحميل النصوص وأقوال والصحابة وسيرهم عليه؛ ليكون
شرعيا بعد أن كان قبل ذلك ديمقراطيا تغريبيا علمانيا.
ومن ذلك: الأخذ بنظرية
العقد الاجتماعي العلمانية, وحمل النصوص وأقوال السلف والفقهاء عليها.
فنظرية العقد الاجتماعي هي
فلسفة علمانية تقوم على حكم الشعب وسيادته العليا التي لا سيادة فوقها, وأن الدولة
تقوم على المنفعة الدنيوية فقط, وهذه المنفعة مبنية على التعاقد بين الشعب والحاكم,
فالذي يملك الأمر هو الشعب والحاكم نائب عنه بموجب التعاقد بينهما على أداء الحقوق.
فهي تجعل الشعب حاكما,
والحاكم نائبا عن الشعب؛ تحقيقا للعلمانية التي تعزل الدين عن جميع مناحي الحياة,
ومنها عزله في اختيار الحاكم وآلية التعامل معه وإلغاء النظام الإسلامي في ذلك.
فاستعان بهذه النظرية من
يسمو إلى الحرية, ولذا جاء بعض من ينتسب للحركات الإسلامية فجعل من النظرية
العلمانية مسألة شرعية, وبنى عليها أن منصب الرئاسة يمثل عقدًا بين الشعب والرئيس
على أداء الحقوق، ولابد فيه من إرادة حرة بين طرفي العقد وقت الانعقاد, وأن
الإخلال ببنود العقد يوجب نقضه أو فسخه, وخلاصتها: أن الشعب هو الذي يملك حق
التعيين والفسخ؛ لأن النظرية التي هي أصل لهذا الفرع تقوم على أن السيادة العليا
للشعب فهو مصدر السلطة, وقيام الدولة على التعاقد السياسي الذي لابد فيه من الرضا
والحفاظ على الحقوق وإلا فالفسخ والنقض والثورة.
ولو تجردوا وتأملوا لعلموا
أنها نظرية لا تستقيم في نفسها ولا يمكن حمل نصوص الشرع عليها؛ إذ إن رضا الشعب
الذي هو أساس العقد والذي يمثل الإرادة الحرة ممتنع الوقوع عادة, فاختيار الحاكم
وسيلته عند الغربيين: الانتخابات, والمنتخِبون متفاوتون في أفكارهم وفي
اختياراتهم, فالمنتخَب لا يوافق عليه جميع الشعب وإنما يكون حاكما بالأغلبية,
وربما تكون الأغلبية في دائرة على اختيار غيره, فلا يكون نائبا عن جميع الشعب ولا
على أغلبه في بعض الدوائر والمناطق, فلم يثبت لجميع الشعب حق التعيين ولا السيادة
فكيف يثبت لهم حق الفسخ والنقض؟!!
وأما رضاهم بالعملية
الانتخابية فليس هو رضا لهم بكل المنتخبين ولا بأطروحاتهم الانتخابية, فهم لم
يوافقوا غير من رشحوه على مشروعه الانتخابي, فليس من المساواة والعدل أن من لم
يختر الحاكم وإنما اختار غيره أن يُلزم بمشروعه وأن يلتزمه, فأين السيادة
المزعومة؟!!
فهذه الفكرة الغربية -
للشعب حق التعيين والفسخ والنقض- التي يريدون التأسيس لها وإضفاء الشرعية عليها لا
تستقيم مع شرعنا؛
لمناقضتها لكلياته, فمن
كليات الشريعة حفظ النفس وسد كل طريق يؤدي إلى إزهاقها بغير حق, ولذا حرمت كل ما
يفضي كثيرا أو غالبا إلى إزهاقها , وهذا الأمر اختصت به الشريعة دون النظم
المستمدة من فكر البشر.
وأيضا عدم صحتها واقعا؛ لأن الشعب لا يتفقون على
منتخب واحد ولا على مشروع انتخابي واحد, فلم يقع التعيين من جميع البشر.
ومن جهة ثالثة أن الشعب لا
سيادة له في الإسلام وإنما عبودية وخضوع لأوامر الله سبحانه.
ولذا
أقام الشارع الولاية على العبودية لله والعهد بالطاعة في المعروف، وأناطها بباب
دفع المفاسد الكبرى، والنظر إلى المآلات.
كما أن شريعتنا جعلت طرفي الولاية: الحاكم
وأهل الشوكة, لأن القدرة الحاصلة لا تكون إلا بهم, وأما بقية الأمة فهم تبع لأهل
الشوكة في إثبات أصل الولاية, وهم يدخلون تحت سياسة الحاكم -واقعا- إما طوعا أو
قهرا, ودخولهم تحت سياسته لا يعني الطاعة المطلقة كما هو معلوم.
فالبيعة في الشريعة بعقدها
أهل الحل والعقد لا جميع الأمة كما في نظرية العقد, وهذا محل إجماع, قال النووي في
شرح النووي على مسلم (12/ 77): (أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها
مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء
والرؤساء ووجوه الناس, وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى
الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام
الانقياد له وأن لا يظهر خلافا ولا يشق لعصا)
وقال المازري: ( ...يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد
ولا يجب الاستيعاب ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده في يده بل يكفي التزام طاعته
والانقياد له بأن لا يخالفه ولا يشق العصا عليه) فتح الباري لابن حجر (7/ 494)
وفي حاشية ابن عابدين (1/
548): (ولما كانت الرياسة عند التحقيق ليست إلا استحقاق التصرف إذ معنى نصب أهل الحل
والعقد للإمام ليس إلا إثبات هذا الاستحقاق عبر بالاستحقاق)
وقال ابن رشد الجد في البيان
والتحصيل (18/ 217): (أن الإمامة تنعقد وتتم برجل واحد من أهل الحل والعقد إذا عقدها
الرجل على صفة ما يجب أن يكون عليه الأئمة، ويجب أن يحضر العقد له نفر من المسلمين..)
وفي الشرح الكبير للشيخ الدردير
وحاشية الدسوقي (4/ 130): (إذ لا ينعزل بعد مبايعة أهل الحل والعقد له بطرو فسق كنهب
أموال؛ لأن عزله مؤد للفتن فارتكب أخف الضررين، وسد الذريعة نعم إن طرأ كفره وجب عزله
ونبذ عهده).
وفي المجموع شرح المهذب
(19/ 193): (ولا يلتفت إلى إجماع الدهماء، فإن ذلك لا يصح لان طبقة الدهماء لابد أن
تكون مقلدة لفئة منها تؤثر عليها بالدعاية والضجيج فلا تستطيع أن تحكم في أناة وتعقل
لتختار الامام العادل، ومن ثم فإن أهل الحل والعقد وهم الطليعة الواعية والفئة المستنيرة
من أهل الاجتهاد من الامة هم الجديرون باختيار الامام لانهم سيحملون وزره إذا لم يتحروا
في اختياره الصواب، وسيكونون شركاءه في مآثمه ومظالمه).
وجاء في نهاية المحتاج إلى
شرح المنهاج (7/ 410): (والأصح أن المعتبر هو بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء
ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم حالة البيعة بلا كلفة عرفا كما هو المتجه؛ لأن الأمر
ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس)
وقال أبو الحسن العمراني
اليمني في البيان في مذهب الإمام الشافعي (12/ 10): (فإذا اجتمعت في الرجل شروط الإمامة..
فإن الإمامة لا تنعقد إلا بأن يستخلفه الإمام الذي كان قبله، أو بأن لم يكن هناك إمام
فيقهر الناس بالغلبة، أو بأن يعقد له الإمامة أهل الحل والعقد، ولا يلتفت إلى إجماع
العامة على عقده؛ لأنهم أتباع لأهل الاجتهاد).
ولما كانت الأمة لا تملك
التعيين واقعا لم يجعل الشرع طرفي الولاية الحاكم والأمة عليه, ولم يرتبه أيضا على
أداء الحقوق بينهما, فالأمة لا تملك التعيين لا شرعا ولا عادة, وإذا سلمنا جدلا
أنها تملكه عادة وواقعا فهي لا تملك فسخه ولا نقضه شرعا؛ لما اختصت به الشريعة من
المحافظة على الكليات بسد كل طريق يفضي كثيرا أو غالبا إلى نقضها.
ولما كان الأمر كذلك لم
يصح تعليق صحة الولاية برضا الأمة ولا أن يكون لأمة جميعا حق التعيين؛ إذ إن من
لوازمه الفاسدة إبطال جميع الولايات أو أغلبها ومنها ولاية الخلفاء الراشدين.
ثم هو تعليق حكم بممتنع؛
لامتناع الرضا من جميع الأمة, والتعليق بممتنع لا يستقيم في الشريعة وغير واقع
منها, كما أن تعليقها بذلك يفضي إلى مفاسد عظيمة من تحقق الفوضى العامة وتزعزع
الأمن, وتمكن وتسلط الأعداء على الأمة إلى غير ذلك مما يذهب بالكليات.
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار