هل من مصارف الزكاة العلم ووسائله؟
اتفق الفقهاء على أن مصارف
الزكاة محصورة, وقد دل على هذا الحصر لفظ "إنما" في قوله تعالى [إنما
الصدقات للفقراء ] الآية, وما تفيدة "اللام" من الاختصاص المقتضي اختصاصهم باستحقاقها, فلو جاز صرفها
إلى غيرهم لبطل الاختصاص.
وسبب الاستحقاق في الكل واحد
وهو: الحاجة, إما لحاجته في نفسه كالفقير والمسكين وفي الرقاب والغارم, أو لحاجة المسلمين إليه كالعامل عليها
وفي سبيل الله على خلاف فيه.
انظر: بدائع الصنائع في ترتيب
الشرائع (2/ 43) المغني لابن قدامة (620) (9/ 329)
وأما مسألة هل من مصارف
الزكاة: العلم ووسائله؟
فهذه المسألة تبحث في مصرف
"في سبيل الله", وهذا المصرف عند الإطلاق في الآية [إنما الصدقات
للفقراء ] يراد به الجهاد في سبيل الله الذي هو الغزو.
إلا أن الأحناف توسعوا
فأدخلوا فيه جميع القرب, فكل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات بقيد فقر والحاجة.
[انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 45)] فالأصناف عندهم تعطى بشرط الفقر
إلا العامل عليها وكذا بشرط تملك المال للأشخاص, فلا يدخل بناء المؤسسات ونحو ذلك.
والملاحظ هو توسيعهم دائرة
"في سبيل الله" من جهة معناه, وتضييقهم من جهة أهله ومستحقيه.
وأما المالكية فيقصرون
اللفظ على الجهاد في سبيل الله الذي هو الغزو إلا أنهم لا يشترطون في المجاهد أن
يكون فقيرا, فيعطى المجاهد وآلته ولو غنيا لا في الأسوار. [انظر: التاج والإكليل لمختصر
خليل (2/ 351)]
فيلاحظ أنهم عنوا به نفس
الجهاد لا ما يستعان به, فضيقوا اللفظ من جهة معناه ووسعوا من جهة أهله.
وكذا الشافعية وافقوا
المالكية فيقصرون اللفظ على الجهاد في سبيل الله, ويوسعونه من جهة أهله إلا أنهم
يشترطون في المجاهد ألا يكون له رزق في بيت مال المسلمين.
ومما علوا به إعطاء الغني:
التحريض على الجهاد. انظر: المجموع شرح المهذب (6/ 212) نهاية المطلب في دراية المذهب (11/ 558)
وأما الحنابلة فحملوه على
الجهاد والحج, فوسعوا اللفظ وإن كان توسيعهم أقل من توسيع الحنفية إلا أنهم وافقوا
الشافعية في ألا يكون المجاهد من أهل الديوان الذين يأخذون أرزاقهم من بيت مال
المسلمين بقيد أن ما يأخذه من رزق يكفيه .
وأما الحج فيشترطون في
الحج الفرض وفي المعطى الفقر, والعمرة كالحج على صحيح المذهب. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي
(3/ 235)
ودليلهم على زيادة الحج:
ما رواه أبو عبيد في "الأموال" رقم (1976) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة
أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله، فقيل له: أتُجعل في الحج؟ فقال: أما إِنه في
سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (3/ 258). وروى
أبو عبيد رقم (1784 و1965) بسند صحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: "أنه كان
لا يرى بأساً؛ أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق الرقبة"
والذي يعنينا من هذا أن
التوسع في المعنى إنما كان من الحنفية والحنابلة دون المالكية والشافعية إلا أن
هذا التوسع مقيد بالحاجة, كما تقدم.
ومع ذلك: الأقرب هو حصر
معنى "في سبيل الله" على الجهاد والحج, دون التوسع بإدخال كل سبل الخير؛
لدلالة الحصر والاختصاص.
لكن هل يدخل في هذا المصرف
العلم ووسائله؟
تقدم معنا: أن الجمهور
يريدون بـ"في سبيل الله" الغزو في سبيل الله, وأما إدخال العلم ووسائله
فالأقرب أنه يدخل فيه من جهتين:
الأولى: المعنى العام لـ"في
سبيل الله" الذي يتضمن نصرة الدين والدفاع عنه ليس محصورا في الجهاد بالسيف,
وإنما يدخل فيه الجهاد بالعلم ونشر الحق ودفع الشبهات, قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وقد روى أحمد والنسائي وصححه
الحاكم: عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَاهِدُوا المشركينَ
بِأموالكم وأنفُسِكم وأَلْسِنَتِكُم" .
الثانية: التعليل, فمن عِلَل
استحقاق الزكاة: حاجة المسلمين إليه, ولا يخفى أن حاجة المسلمين إلى العلم وتصحيح
عقائد الناس ومفاهيمهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب, كما أن النفع في العلم
متعد وعام للمسلمين, ويتعلق بالحفاظ على ضروري من الضرورات وهو الدين, بل يتعلق
بحفظ الضرورات الخمس, ويتأكد الأمر بكون حرب الأعداء أصبحت على المسلمين فكرية.
ثم إن طلب العلم يشترك مع
الغزو في سبيل الله في حبس النفس على ما ينفع المسلمين.
وفي هذا المعنى ذكر الخرشي
المالكي في شرح مختصر خليل (2/ 216): (...محمد الصالح بن سليم الأوجلي حين سئل عن إعطاء
الزكاة للعالم الغني والقاضي والمدرس ومن في معناهم ممن نفعه عام للمسلمين بما نصه:
الحمد لله يجوز إعطاء الزكاة للقارئ والعالم والمعلم ومن فيه منفعة للمسلمين ولو كانوا
أغنياء لعموم نفعهم ولبقاء الدين كما نص على جوازها ابن رشد واللخمي وقد عدهم الله
سبحانه وتعالى في الأصناف الثمانية التي تعطى لهم الزكاة حيث قال {وفي سبيل الله}
[التوبة: 60] يعني: المجاهد لإعلاء كلمة الله، وإنما ذلك لعموم نفعهم للمسلمين فيعطى
المجاهد ولو كان غنيا كما ذكرناه في عموم النفع، وفي هذا المعنى العالم والقارئ والمعلم
والمؤذنون؛ لأن في ذلك بقاء الإسلام وشهرته وتعظيمه وإراحة القلوب عليه فينخرط ذلك
في سلك قوله تعالى {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] قاله محمد الصالح بن سليم الأوجلي
وقال اللخمي: العلماء أولى بالزكاة ولو كانوا أغنياء ذكره الشيخ محمد الفاسي في حاشيته
على المختصر قال شيخنا السيد محمد: هذا كله ما لم يكن لهم راتب في بيت المال).
وعليه فإن طالب العلم يعطى
من الزكاة ما يحتاج إليه في العلم ونشره إذا تفرغ للعلم ولو كان غنيا مادام أنه
يطلب العلم ويباشر نشره ورد شبهات أهل الباطل.
فطالب العلم إذا كان فقيرا
فإنه يعطى من مصرف الفقير, وإذا كان غنيا فإنه يعطى من مصرف في سبيل الله.
ولا يتوسع في نشر الكتب
وإنشاء الإذاعات والصحف وبناء المؤسسات العلمية التي يتحقق بها نصرة الحق ورد
الشبهات عنه من الزكاة إلا بقدر حاجة المسلمين إليها وتعذر تغطية تكاليفها من طرق
أخرى كالتبرعات والوقف ونحو ذلك؛ إذ لا بد في مصرف الزكاة من مراعاة المعنى
والتعليل معا, ولا يشترط في مصرف "في سبيل الله" التمليك للشخص؛ لعدم
ذكر لام التمليك فيه.
وما نراه في عصرنا من
تكالب الأعداء على المسلمين ثقافيا ونشر الشبهات والأكاذيب حول الإسلام, وكذا
تكالب أهل البدع وتشويه السنة؛ مما يستدعي فقهيا وأصوليا ومقاصديا: التوسع في مصرف
"في سبيل الله" على ما ذكره جمهور الفقهاء بما يتوافق مع المعنى العام
لـ"في سبيل الله" الذي يتضمن نصرة الدين والتعليل الذي هو حاجة
المسلمين.
كتبه: د. أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق