مفاسد الموسيقى ومصالحها وأثرهما
في الحكم الشرعي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فإن الله سبحانه راعى في أوامره ونواهيه المصالح
والمفاسد التي يتضمنها الفعل, فلا يأمر إلا بما تكون مصلحته راجحة وإن تضمن مفسدة,
ولا ينهى إلا عما مفاسده راجحة وإن تضمن مصلحة, وهذا يجعلنا نبحث في مفاسد
الموسيقى ومنافعها؛ حتى يتبين لنا حكم الله فيها, ونبحث أيضا في علة النهي وحكمته؛
لنلحق النظير بالنظير.
وعلم الموسيقى علم يبحث فيه عن أصول النّغم من حيث
تأتلف أو تتنافر وأحوال الأزمنة المتخلّلة بينها ليعلم كيف يؤلّف اللّحن .
وتطلق الموسيقى على
الأصوات التي تخرج من الآلات, وهذا المقصود هو الذي راعيناه هنا.
فعن شبيب بن بشر البجلي،
قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)). أخرجه البزار،
2/ 363، ح 7513
وعند النظر إلى النصوص
الشرعية وأقوال الصحابة نجد النهي عن الموسيقى والمعازف, فعن عبد الرحمن بن غنم قال
حدثني أبو مالك الأشعري - رضي الله عنه -، والله ما كذبني: سمع النبي - صلى الله عليه
وسلم - يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف))
أخرجه البخاري تعليقا
وقال ابن عباس رضي الله
عنه : (الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام). أخرجه البيهقي في السنن
الكبرى (10/ 222)
وهذا مما يجعلنا ننظر إلى
مفاسدها ومصالحها وبيان الراجح منهما؛ لتتضح لنا حكمة النهي, ويتبين لنا أثر ذلك
في الحكم الشرعي.
فإن قيل: ألا يستقيم أن نجعل
الموسيقى من باب المباحات؟
قيل: لابد من تحقق قاعدة
المباح فيها؛ حتى يحكم عليها بالإباحة؛ ذلك أن المباح جعله الله للانتفاع به بما
لا يقدح في المصالح الضرورية والحاجية والتكميلية, وإنما يكون خادما لها, كالأكل فهو
مباح لكونه يخدم حفظ النفس, بينما الموسيقى والمعازف تقدح في المصالح الضرورية
والحاجية والتكميلية, فلا يصح إدخالها في باب المباحات, فتكون مطلوبة الترك بالقصد
الأول؛ لأنها تخدم ما يضاد مطلوب الفعل.
ولتوضيح ذلك: المطلوب من
المسلم أن يشغل الزمان بذكر الله وقراءة القرآن والتدبر فيه, وإقامة الصلاة, وأما
الاشتغال بالموسيقى فلو فرضنا أنه لا مضرة فيها فهي قطع للزمن في غير فائدة, فلا
يخدم سماعها قراءة القرآن ولا ذكر الله, وإنما يخدم سماعها ضد ذلك وهو الإعراض عن
ذكر الله, ولهذا جعلها الله من اللهو الباطل, ولم يجعلها نعمة من نعمه التي يمتن
الله بها على عباده.
ولو فرضنا أنه غير خادم
لشيء يعتد به لا مصلحة دين ولا دنيا؛ كان من باب العبث ، فصار مطلوب الترك.
فكيف إذا اشتملت الموسيقى
على الضرر, فهي تحدث للقلوب أحوالا وأذواقا بلا تمييز, وتنبت النفاق في القلب, وتبعده
عن التلذذ بالقرآن, وتسكر القلوب بما هو أعظم من سكر الخمر؛ لشدة ميول النفس إليها
ورغبتها فيها, وتهيج النفوس على الشهوات.
فالموسيقى مفاسدها من
وجهين:
الأول: الاشتغال بها
اشتغال بما يضاد المطلوب شرعا وهو الاشتغال بالضرورات والحاجيات, وهذا الاشتغال لا
يخلو من حالين:
الأولى: اشتغال كلي دائم,
وهذا ممنوع بالكل, لكونه يضاد الاشتغال بالضرورات.
الثانية: اشتغال جزئي, وهو
ممنوع؛ لأنه اشتغال يخدم الاشتغال الكلي بها الذي يضاد الضرورات, ويفضي إليه.
الثاني: ما اشتملت عليه من
مفاسد راجحة كإنبات التفاق في القلب, وسكر القلب, وتهييج النفوس, إلى غير ذلك.
فإن قيل: الشارع لم يقصد
إلى الموسيقى مباشرة، بل باعتبار ما تضمنته من الراحة المعينة على الطاعة.
قيل: ما تضمنته من مفاسد
ترجح على ما ظُن مصلحة؛ حتى إنها لتطغى على القلب وتسكره, وتشغله على الطاعة وذكر
الله سبحانه.
لما كانت مفاسد الموسيقى
بهذا الخطر ذهب عامة العلماء إلى تحريمها, قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/
576): (... فذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام, فقد ثبت في صحيح البخاري
وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير
والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير} . و " المعازف " هي الملاهي
كما ذكر ذلك أهل اللغة. جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها, ولم يذكر
أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا. إلا أن بعض المتأخرين
من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين بخلاف الأوتار ونحوها؛ فإنهم لم يذكروا فيها
نزاعا. وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له فلم يذكروا نزاعا لا في هذا
ولا في هذا بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري شيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذلك
مصنفا معروفا. ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟
أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال وذكروا عن الشافعي قولين ولم
يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا. وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد
الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي - أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء
المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو
القاسم القشيري وغيرهما: عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط. وإنما وقعت الشبهة فيه
لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم؛ بل قال
إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما
يفعله عندنا الفساق وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل
المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب
الفقهاء ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه وإنما نبهت على هذا؛ لأن
فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثار يظن
من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق)
ولا عبرة بأقوال بعض
المتأخرين من أتباع بعض المذاهب الفقهية في إباحة بعض أنواع المعازف- وهي قليلة- فقد
استند بعضهم على إباحتها بإباحة الدف للنساء في العرس ونحوه, أو إلى تضعيف أحاديث النهي,
أو على نصوص جوزت الغناء الذي لا يصحبه آلة لهو فأباح الموسيقى, والأبعد من ذلك من
اعتمد منهم على أن الأصل في الأشياء الإباحة.
وهم في الحقيقة أعرضوا عن
مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء.
فمقصود الشارع من تحريم
الموسيقى أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتلهي عنهما وعن قرآن القرآن وتوقع
الناس فيما يغضب الله سبحانه, وهذا الضرر أعظم من المنفعة التي تورثها في القلوب
من تنشيط على الطاعة, فهي لا تجلب منفعة للقلوب إلا بمفسدة أعظم.
وفي تحريم الشارع لها:
1-حفظ للدين؛ لكونها تنبت
النفاق في القلب,
2-حفظ للنسل, فالموسيقى وما يصاحبها من غناء
هابط بريد الزنا ورقيته.
3-حفظ للعقل؛ لأنه يخمره
ويغطيه.
فتحريم الموسيقى من تمام حكمة الشارع؛ لما اشتمل عليه التحريم من المنع من
المفاسد الراجحة وما كان وسيلة وذريعة إليها.
وأما مظنة هذا المقصود
فهي: الطرب الملهي, فالتطريب الذي يؤدي إلى التلهي عن ذكر الله ويوقع في العداوة
والبغضاء, ويفضي
إلى ضرب الأرض بالرجلين وهز المنكبين، ورقص
الفساق وتعاطي حركات المخانيث والنسوان هو الذي علق عليه حكم التحريم.
قال ابن عابدين في حاشيته
(رد المحتار) (6/ 350): (آلة اللهو ليست محرمة لعينها، بل لقصد اللهو منها إما من سامعها
أو من المشتغل بها)
وهناك أمور أخرى للتحريم
ذكرها بعض الفقهاء كـ: كونها تُذكّر الناس بشرب الخمر، وأن الاجتماع عليها من
عادة أهل الفسق.
ويستثنى من ذلك: الدف
للنساء والصبيان في العرس ونحوه؛ لأن يوم العيد يوم فرح وسرور, فمنفعة استعمال
الدف أرجح, ولذا علل النبي صلى الله عليه وسلم جوازه بيوم العيد, فعن عائشة: أن
أبا بكر رضي الله عنه، دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان، وتضربان،
والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله
عليه وسلم عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام
منى» أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 24) ح978
قال ابن حجر في فتح الباري
شرح صحيح البخاري (122/ 23): (...وعرفه الحكم مقرونا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي
يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس)
وإذا حرمت الموسيقى حرم
الاستماع إليها, والاستماع إليها لا يكون إلا على وجه اللهو واللعب والتلذذ والإطراب
الملهي, وإنما ذكرنا أنها على وجه الطرب الملهي إخراجا للأمور الضرورية أو الحاجية
أو التكميلية إذا اكتنف تحصيلها استماع الموسيقى, فهنا الإقدام على جلب المصالح
صحيح على شرط التحفظ من الاستماع إلى الموسيقى بحسب الاستطاعة من غير حرج, كما لو
فرضنا أن إنسانا احتاج إلى حكم مسألة فقهية ولم يجد حكمها إلا في مقطع مصحوب
بموسيقى, فلا يمنعه ذلك من الاستماع إليه وتحصيل الحكم الشرعي؛ تحقيقا لمصالح
أعظم.
وهذا التقرير يصح فيما لا
يفضي إلى مفاسد أكبر.
وأما السماع من غير قصد
فلا يتعلق به الأمر والنهي, ولا يأثم عليه الإنسان وإن كان الأفضل سد الأذنين.
فإن قيل: ما حكم المؤثرات الصوتية؟
قيل: لما كانت علة تحريم
الموسيقى الإطراب الملهي اختلف حكم مؤثر صوتي عن مؤثر صوتي آخر؛ بناء على تحقق
العلة فيه أو لا, فما كان من المؤثرات الصوتية -وإن كان أصلها صوتا بشريا دخله
التعديل بالكمبيوتر ونحوه- اشتمل على الطرب الملهي والتطريب كان محرما واستماعه
محرما, وما كان منها ليس مشتملا على الإطراب الملهي والتطريب لم يكن محرما وإن
غيرته آلة؛ لعدم مشابهته للموسيقى ولا تناولته العلة.
فالمؤثر الصوتي الذي يشبه
الموسيقى ولا يكاد الإنسان يميز بينهما, محرم من جهتين: مشابهته للصوت الموسيقي
وأنه آيل إليه, ووجود علة تحريم الموسيقى فيه.
وإذا دققنا النظر فليس من
شرط الصوت الموسيقي أن يصدر من آلة مخصصة بالموسيقى بل كل صوت تحقق فيه علة
التحريم صار صوتا موسيقيا؛ إذ العبرة بالحقائق والمعاني.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان
من مصائد الشيطان (1/ 228): (وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما
هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم
ذلك فأقل ما فيه : أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور)
وأما الصوت الذي يخرج من
الإنسان من غير أن يغيره الكمبيوتر فهذا جائز, ولا يدخل في الموسيقى صورة ولا علة,
لكن قد يكره أو يحرم؛لأمر خارجي كما لو أشغل عن ذكر الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق