هل القضايا العامة والنوازل لا يفتي فيها إلا المؤسسات الإفتائية في الدولة ولا يحق لغيرهم إظهار مخالفتهم؟
تقدم معنا في مقال سابق أن المصلحة التي علق عليها عدم مخالفة المؤسسة الإفتائية هو انضباط الناس على قول واحد،
وقد بينا أن هذه مصلحة ألغاها الشارع ولم يعتبرها، ولا فرق في عدم اعتبارها بين أن تكون المسألة متعلقة بالشأن العام والنوازل وبين أن تكون مسألة خاصة...
وقد روى البخاري (1563)، ومسلم (1223) عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، قَالَ: "شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ؛ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ:مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ".
ورواه أحمد (1139) وفيه: " فَقَالَ عُثْمَانُ: " تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ؟
قَالَ: "لَمْ أَكُنِ أَدَعُ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ".
وقد أجمع على ذلك الصحابة إجماعا سكوتيا؛ فقد أفتى ابن عباس بما يخالف حكم الحاكم -وهو أبو بكر رضي الله عنهم- في حجة التمتع، فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان نهيا عاما في مسألة تتعلق بأعظم مجمع للمسلمين
ومع ذلك أظهر ابن عباس المخالفة، ولم يعتبر مناط انضباط الناس على قول واحد.
وكذا أبو سعيد الخدري أظهر مخالفة معاوية وهو أمير المؤمنين رضي الله عنهم في أن المُدّين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر ...
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول سألت عمر رضي الله عنه عن رجل من أهل البحرين طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فتزوجت ثم إنَّ زوجها طلقها ثم إنَّ الأول تزوجها على كم هي عنده قال هي على ما بقي من الطلاق" رواه عبد الرزاق (11150) وسعيد بن منصور (1525) وابن أبي شيبة (5/101)
واظهر ابن عباس وابن عمر مخالفته
فعن ابن عباس: "أنَّه قال النكاح جديد والطلاق جديد " رواه عبد الرزاق (11166)
وعن ابن عمر: "قال النكاح جديد والطلاق جديد " رواه عبد الرزاق (11164)
فدل إجماع الصحابة على أن مصلحة انضباط الناس على قول واحد غير معتبرة..
ثم إن العلماء المجتهدين في كل عصر يخالفون ما عليه المفتون في بلدانهم ويظهرونه للناس، ويرون أن كتمانه من كتمان العلم...
وقد دلت النصوص الشرعية أن الحكم الشرعي الواجب الاتباع أو بعبارة أخرى: الشرع اللازم هو حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يلزم أحدا إلا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن ألزم بجهة دون غيرها فيما تحتمله الأدلة فهو في الحقيقة يلزم الناس بغير ما يقطع فيه أنه حكم الله؛ إذ قد يكون حكم الله في القول الآخر.
فإن قالوا: مستندنا في ذلك المصلحة، لا الإلزام بقول الجهة وجعلها شرعا ملزما.
قيل: هي مصلحة ألغاها الشارع ولم يعتبرها.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (35/372) ليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة لا يلزم جميع الخلق ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء بل له أن يستفتى من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما.
أضف إلى ما تقدم أن القائلين باختصاص الحاكم أو المؤسسات الإفتائية بالقضايا العامة هم مختلفون في تحديدها، فمنهم من أخرج باب العبادات إلا تبعا
وقال في الذخيرة(١٠/١٣٣):(...العبادات كلها لا تقبل الحكم، وهلال رمضان وذي الحجة إنما حظ الحاكم فيه إثبات السبب الذي هو رؤية الهلال...)
ومنهم من أدخل باب العبادات...
وهنا يأتي سؤال: هل إذا ألزم الحاكم رعيته بعدم إظهار مخالفة المؤسسة الإفتائية يكون إلزامه واجب الأخذ به شرعا؟
والجواب: أن إلزام الحاكم المفتين بالأخذ بفتاوى المؤسسة الإفتائية وعدم الخروج عنها في المسائل الخلافية المحتملة الأدلة والتي لا يترتب على مخالفتها مفسدة تعود إلى ضرر على عموم المسلمين فيما يتعلق بضروراتهم وإلحاق الحرج الشديد بهم: لا يجوز
وهو من باب إلزام الناس بما لا يلزمهم شرعا، ولا يحقق مصلحة شرعية اعتبرها الشرع وأجرى عليها الأحكام...
وقد دلت النصوص الشرعية على أن الحكم الشرعي الواجب الاتباع أو بعبارة أخرى: الشرع اللازم هو حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يلزم أحدا إلا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن ألزم بجهة دون غيرها فيما تحتمله الأدلة فهو في الحقيقة يلزم الناس بغير ما لا يلزمهم شرعا
وبما لا يقطع فيه أنه حكم الله؛ إذ قد يكون حكم الله في القول الآخر.
ولما سئل ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (٣٠/٧٩)
"عَمَّنْ وَلِيَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ "شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ" فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ؟
فَأَجَابَ:
لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى "مُوَطَّئِهِ" فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ. وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد: لَا تُسَمِّهِ "كِتَابَ الِاخْتِلَافِ" وَلَكِنْ سَمِّهِ "كِتَابَ السُّنَّةِ" ."
تنبيه مهم
لا يلزم من نفي أن يكون انضباط الناس على قول واحد مناطا صحيحا على عدم إظهار مخالفة فتوى المؤسسة الإفتائية: نفي عدم جواز إظهار مخالفة المؤسسة الإفتائية بإطلاق؛ لأنه يمكن تصحيح عدم مخالفتها بمناط آخر ويكون خاصا بالمسائل المتعلقة بهذا المناط دون غيرها من قضايا الشأن العام والنوازل والسياسة
بشرط أن تكون منطلقات المؤسسة الإفتائية وأصولها صحيحا على طريقة العلماء الراسخين وأصول أهل السنة وطريقة الفقهاء في الاستدلال وتحقيق المناط...
وهذا المناط الذي نصحح به عدم جواز إظهار مخالفة المؤسسة الإفتائية هو درء المفسدة ولحوق الضرر العام بالمسلمين، فيكون الضرر الراجح راجعا لعموم المسلمين وضروراتهم...
ومنه أخذ ابن مسعود بإتمام عثمان؛ دفعا للضرر العام والمفسدة الراجحة المتعلقة بالاجتماع على أمر الخليفة....
وبالتالي تكون المسائل محتملة الأدلة المختلف فيها التي يحق للمؤسسة الإلزام بقولها او عدم مخالفتها: ما كانت مخالفتها فيها تترتب عليه مفسدة راجحة متعلقة بمصلحة عموم المسلمين وشعائر دينهم ... ولا يمكن دفعها إلا بمنع مخالفتها...
وليس من هذا الباب مخالفتها في مسائل الطلاق أو البيوع ونحو ذلك...
وأيضا يمكن تصحيحه بمناط تغير الأحكام بتغير الحال والعرف والزمن في الأحكام المعلقة بالمصلحة والعرف، فمتى كان حكم المؤسسة الإفتائية مرتبا ترتيبا صحيحا على ما علق عليه الحكم ولم يُخِل بمقصد من مقاصد الشريعة كان قولها ملزما في الأحكام العملية...
لأن هذا النوع من الأحكام يحتاج إلى فقه خاص واجتهاد عال ولا يقدم عليه من لم يكن متمكنا عالما بالأصول وفقه الاستقراء ومقاصد الشريعة
وهذا التصحيح لا يشمل كل مسائل الشأن العام، وإنما هو خاص بالمسائل التي لا نص فيها يبين حكمها وإنما علقت بالمصالح والعرف...
هذا هو تحرير المسألة في ظني
فهي تحرر بطريقين:
الاول: إطلاق جواز إظهار مخالفة المؤسسة الإفتائية فيما أفتت به في الشأن العام والنوازل وما يتعلق بالسياسة
ثم نعود على هذا الإطلاق بالتقييد فيما لم تكن فيه مفسدة راجحة تعود على المسلمين بالضرر المتعلق بحفظ الضرورات ومكملاتها.
وهذا الطريق في التحقيق يسلكه الشاطبي في الموافقات..
الثاني وهو الأدق: ألا يطلق الحكم بالجواز ولا بالمنع وإنما ينظر في ذلك إلى المناطات وما تعلق بها من مسائل، فيجوز إظهار المخالفة بالنظر إلى مناط، ولا يجوز بالنظر إلى مناط آخر، وتتنوع المسائل في أحكامها بتنوع مناطاتها.
وهذا الطريق يسلكه ابن تيمية وغيره في كتبهم..
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق