هل الأشاعرة يوافقون أهل الحديث في باب ولاية الأمر
ومسألة الخروج؟
من يقول نعم, بإطلاق فهو لا يفهم مذهب الأشاعرة في
باب الإمامة, ومن يُقَوِّل شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك فهو لم يفهم كلامه وحمَّله
ما لا يحتمل, وتعجب من هذا الصنيع غير المحرر
وتوضيح ذلك:
لنبدأ بتوضيح كلام شيخ الإسلام, ثم نبين وجه مخالفة
الأشعرية لأهل الحديث في باب الإمامة.
أما كلام شيخ الإسلام الذي يقول فيه: (و "
المعتزلة " وعيدية في " باب الأسماء والأحكام ". قدرية في "
باب القدر ". جهمية محضة - واتبعهم على ذلك متأخرو الشيعة وزادوا عليهم
الإمامة والتفضيل وخالفوهم في الوعيد - وهم أيضا يرون الخروج على الأئمة. وأما
" الأشعرية " فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب
المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث. و " الكلابية وكذلك الكرامية "
فيهم قرب إلى أهل السنة والحديث وإن كان في مقالة كل من الأقوال ما يخالف أهل
السنة والحديث). مجموع الفتاوى (6/ 55)
فلا يدل على موافقة الأشاعرة أهل الحديث في باب الولاية،
وإنما ذكر مسألة الخروج على الحاكم بالسيف وهي جزئية من جزئيات باب الولاية، وبين
أن الأشعرية في الأغلب أنهم يوافقون أهل الحديث في هذه الجزئية، فيرون المنع
المطلق من الخروج على الحاكم الفاسق الجائر كما يراه أهل الحديث, قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (ص: 451)
فيما نسبه لأهل الحديث: (وقال قائلون: السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية
وأن الإمام قد يكون عادلاً ويكون غير عادل وليس لنا إزالته وإن كان فاسقاً وأنكروا
الخروج على السلطان ولم يروه، وهذا قول أصحاب الحديث).
ولهذا قلت في منشوري
السابق لمن يحسن فهم الدلالات: (تتعجب ممن يعتمد على علماء #الأشاعرة ومن تأثر بهم كابن عطية
والقاضي عياض والقرطبي وابن السبكي ومن اتهم بالاعتزال كالماوردي في مسائل الإمامة
والخلع وما يتعلق بالخروج, وهم مخالفون لأهل الحديث في هذا الباب(. فلم أقل: أنهم خالفوا أهل الحديث في الخروج, وإنما قلت فيما يتعلق
بالخروج, وسيأتي توضيحه, لكن ماذا نفعل مع من لا يدقق؟
ومع موافقة الأغلبية من الأشعرية لأهل الحديث
في المنع المطلق من الخروج إلا أنهم يخالفونهم في نوع المسألة وهل تقتضي تبديعا؟
فالأشعرية يرون أن مسألة الخروج مسألة ظنية فرعية, قال
الآمدى في غاية المرام في علم الكلام (ص: 363):« واعلم أن الكلام في الإمامة ليس
من أصول الديانات ولا من الأمور اللا بديات ...), وقال التفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام (2/ 271):
(لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق..)
ويرون أن مسائل الإمامة لا يوصل فيها إلى يقين؛ لأن
العمدة فيها الوحي لا العقل.
بينما أهل الحديث يرون
أنها مسألة من مسائل أصول الدين، وتقتضي التبديع المطلق؛ قال الإمام أحمد: (ومن السنة اللازمة التي من ترك منها
خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها... ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان
الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة باي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا
الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن مات
الخارج عليه مات ميتة جاهلية
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من
الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق).
ومن المسائل التي يخالف فيها الأشعرية أهل الحديث
في باب الإمامة: العدد التي تنعقد به الإمامة، فذهب الأشعري
إلى أنه يجوز أن يؤول أمر العقد إلى شخص واحد، وأن الإمامة تثبت بالعقد لا بالاختيار،
قال الجويني في الغياثي (ص: 32): (وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر، وهو
المنقول عن شيخنا أبي الحسن رضي الله عنهما، وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد
من أهل الحل والعقد).
ويفرق أبو الحسن الأشعري بين
الاختيار والعقد, فلا تقوم الإمامة باختيار عموم الأمة وإنما تقوم بالعقد الذي
يبرمه أهل الحل والعقد وقد يكون واحدا.
بينما أهل الحديث يرون
أنها لا تنعقد بالواحد، قال
القاضي أبو يعلى في المعتمد(238-239): (ظاهر كلام أحمد أنها لا تنعقد إلا بجماعتهم، ... خلافا للمعتزلة في قولهم: لا تنعقد غلا
برضى أربعة يشهدون العقد, وقالت الأشعرية: تنعقد برجل واحد..) وقال ابن تيمية في
منهاج السنة النبوية (1/ 526): (... وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة
تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة
واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة
عليها)
ومن المسائل التي يخالف فيها الأشعرية أهل الحديث
في باب الإمامة: أنهم يرون أن خلافة الخلفاء الراشدين لم تثبت
بالإجماع, وإنما ثبتت بعقد من عقدها, قال ابن فورك في المقالات (193): ( وكان أبو
الحسن الأشعري يقول في إمامة هؤلاء الخلفاء الأربعة أنه لم تكن إمامة واحد منهم
بنص الرسول, ولا أن المعتمد في شيء من ذلك الإجماع عليه, بل تثبت إمامة كل واحد
منهم بعقد من عقدها من أهل الحل والعقد), فمثلا خلافة عثمان لم تنعقد بالإجماع
وإنما بعقد عبد الرحمن بن عوف.
ومن المسائل التي يخالف فيها الأشعرية أهل الحديث
في باب الإمامة: مسألة خلع الحاكم بالفسق، فترى في موقفهم
تساهلا وموافقة للمعتزلة، ولما
ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد (243) أنه لا ينخلع الحاكم بالفسق قال: (خلافا
للمعتزلة والأشعرية في قوله ينخلع بذلك)
وجوزوا للأمة خلع الحاكم
الفاسق إلا إذا ترتب عليه ضرر أكبر، قال الإيجي في المواقف (3/ 591): (وللأمة خلع
الإمام بسبب يوجبه وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين) بينما أهل الحديث
يمنعونه بإطلاق من الأمة؛ لأن المفسدة لازمة له لا تنفك، وقد قال النووي في شرح
النووي على مسلم (12/ 229): (وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل
السلطان بالفسق, وأما الوجه المذكور
في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف
للإجماع)
وجوزوا في الخلع من أهل
الحل والعقد نصب الحروب خلافا لأهل الحديث، قال التفتازاني في شرح المقاصد في علم
الكلام (2/ 272): (قال إمام الحرمين وإذا جاور إلى الوقت فظهر ظلمه وغشمه ولم يرعو
لزاجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح
ونصب الحروب)
والغريب أنك تجد عند آحاد
الأشاعرة اضطرابا في هذه المسألة:
قال القاضي أبو بكر
الباقلاني في التمهيد(478): (إن قال قائل: ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟
قيل له: يوجب ذلك أمور
منها: كفر بعد إيمان، ومنها: تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك, ومنها عند كثير
من الناس: فسقه وظلمه بغصب الأموال, وضرب الأبشار, وتناول النفوس المحرمة, وتضييع
الحقوق وتعطيل الحدود.
وقال الجمهور وأصحاب
الحديث: لا ينخلع بهذه الأمور، ولا يجب الخروج عليه.)
ولم يرتض الجويني في
الغياثي (46) انخلاع الحاكم بالفسق، فقال: (المصيرُ إلى أن الفسق يتضمن الانعزالَ
والانخلاعَ بعيدٌ عن التحصيل)
ومنهم من فرق بين المبايَع
والمتغلب، فلم يروا خلع المتغلب بالفسق, وأعطوا المسألة أحكام الضرورات؛ قال
التفتازاني في شرح المقاصد5/245 : [ وبالجملة : مبنى ما ذُكر في باب الإمامة على
الاختيار والاقتدار، وأما عند العجر والاضطرار واستيلاء الظلمة والكفار والفجار
وتسلط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرياسة الدنيوية تغلبية ، وبنيت عليها الأحكام
الدينية المنوطة بالإمام ضرورة ، ولم يُعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ،
والضرورات تبيح المحظورات وإلى الله المشتكى في النائبات وهو المرتجى كشف الملمات
]
تنبيه: سلب أصل الشرعية عن الحكام لتفريطهم في شيء
من حراسة الدين وحفظه؛ إذ لا أحد من الحكام انتفى فيه حراسة الدين من أصله
ليس مذهبا لأهل الحديث.
وإنما قد يؤتى المرء من سوء فهمه لكلامهم واعتماده
على غير أهل الحديث، وقد نبهت في مقال سابق أن ما ورد عن الأئمة أن المقصود الواجب
من الولاية إصلاح دين الخلق, وأن المقصود من الولايات حراسة الدين, وأن شرط
الإمامة حماية الدين, ولم يول الحاكم إلا لنصرة الدين, وأن حقا على الإمام أن يحكم
الشريعة
فهو في أحكام الاختيار والاقتدار, وفي حال الإثبات والطرد, ولا يلزم منه الانتفاء
والعكس في أحكام الضرورات, فلم يعد ينظر أهل الحديث إلى كمال شرط حراسة الدين
وحفظه, بل أقروا الولاية وبنوا عليها الأحكام المنوطة بها ضرورة, فقد نفذ حكمه في
رعيته قهرا, ولذا أثبت أئمة أهل الحديث الولاية للواثق والمعتصم ولم ينظروا إلى تضييعهم
حراسة الدين الواجبة...
وإنما اعتمد من اعتمد في نزع الولاية وانتفائها على
من في عقيدته كلام كابن عطية والماوردي وو
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق