مشروعية التهجد
في العشر الأواخر من رمضان
زيادةً على التراويح بعد الانصراف منها
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن الوقوف عند ألفاظ النصوص من غير نظرٍ لفهم
السلف لتلك الألفاظ: يورث إشكالية عظيمة, وهُوَّة بين الألفاظ والمعاني الشرعية,
وبعدا عن فقه مراد الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم.
ويزداد الأمر إشكالية: إذا لم يُنظَر إلى عمل المسلمين قرنا بعد قرن.
فليس إدراك هدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالوقوف عند الالفاظ دون النظر إلى المعاني والعلل والغايات, وإنما إدراك هديه يكون بالوقوف على الألفاظ والمعاني والمقاصد الكلية والقواعد العامة.
ويزداد الأمر إشكالية: إذا لم يُنظَر إلى عمل المسلمين قرنا بعد قرن.
فليس إدراك هدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالوقوف عند الالفاظ دون النظر إلى المعاني والعلل والغايات, وإنما إدراك هديه يكون بالوقوف على الألفاظ والمعاني والمقاصد الكلية والقواعد العامة.
ومما لا ينبغي الاختلاف فيه ولا عليه
أن المقصود من التهجد: الاجتهاد في العبادة, وإدراك فضيلة ليلة القدر.
وكلاهما مشروعان قد دلت السنة على الحث عليهما.
ومشروعية التهجد مبنية على
جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة من جهة, وعلى جواز التعقيب من جهة أخرى, وعلى
جواز زيادة التعبد بالقيام في العشر الأواخر من جهة ثالثة.
وأبدأ بالجهة الثالثة, فقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في
غيره.
عن الأسود بن يزيد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره» أخرجه
مسلم
وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم، «إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر»
ومن ذلك الاجتهاد: إحياؤه معظم
ليالي العشر الأواخر.
وجاء في مسند أحمد " فكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر
اجتهد "
كما قد جاء عن بعض السلف أنهم كانوا
يزيدون ركعات على ما كانوا عليه قبل العشر.
ومن ذلك:
ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 164) عن وقاء قال:
«كان سعيد بن جبير يؤمنا في رمضان، فيصلي بنا عشرين ليلة ست ترويحات، فإذا كان العشر
الآخر اعتكف في المسجد وصلى بنا سبع ترويحات»
ووقاء فيه ضعف, فهو لين, وقد تابعه على زيادة الركعة: إسماعيل
بن عبد الملك, ففي مصنف عبد الرزاق الصنعاني (4/ 266) عن الثوري عن إسماعيل بن عبد
الملك قال: «كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان، فكان يقرأ بالقراءتين جميعا، يقرأ
ليلة بقراءة ابن مسعود فكان يصلي خمس ترويحات، فإذا كان العشر الأواخر صلى ست ترويحات»
إلا أن وقاء أثبت ست ترويحات, وإسماعيل أثبت سبع.
وأما عن جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة , فقد
دل عليه عمل المسلمين الظاهر المستمر, وهو نوع من أنواع الإجماع.
ومن ذلك:
ما جاء عن عطاء أنه قال: «أدركت الناس وهم يصلون ثلاثا وعشرين
ركعة بالوتر» أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 163) بسند
وعن داود بن قيس، قال: «أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر
بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث» مصنف ابن أبي شيبة (2/ 163)
وداود: ثقة. وسنده صحيح.
وعن نافع بن عمر، قال: " كان ابن أبي مليكة يصلي بنا
في رمضان عشرين ركعة، ويقرأ: بحمد الملائكة في ركعة " مصنف ابن أبي
شيبة (2/ 163)
وأيضا ما جاء في كتاب مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب
الوتر لمحمد المروزي واختصره المقريزي (221): (( ...
قال الأعمش: «كان
يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث»
وقال عطاء: «أدركتهم يصلون في رمضان عشرين ركعة , والوتر
ثلاث ركعات»
عبد الله بن قيس عن شتير: وكان من أصحاب عبد الله المعدودين
أنه كان يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة ويوتر بثلاث "
محمد بن سيرين: إن معاذا أبا حليمة القارئ كان يصلي بالناس
في رمضان إحدى وأربعين ركعة " ابن أبي ذئب , عن صالح مولى التوأمة قال: «أدركت
الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس»
قال ابن أبي ذئب: فقلت: لا يسلمون بينهن؟ فقال: «بل يسلمون
بين كل ثنتين ويوترون بواحدة إلا أنهم يصلون جميعا»
عمرو بن مهاجر: إن عمر بن عبد العزيز «كانت تقوم العامة
بحضرته في رمضان بخمس عشرة تسليمة وهو في قبته لا ندري ما يصنع»
داود بن قيس قال: «أدركت المدينة في زمان أبان بن عثمان
وعمر بن عبد العزيز يصلون ستة وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث»
نافع: «لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين ركعة ويوترون
منها بثلاث»
ورقاء بن إياس: كان سعيد بن جبير يصلي بنا في رمضان من أول
الشهر إلى عشرين ليلة ست ترويحات , فإذا دخل العشر زاد ترويحة ...
يونس رحمه الله: «أدركت مسجد الجامع قبل فتنة ابن الأشعث
يصلي بهم عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن أبي الحسن , وعمران العبدي كانوا يصلون خمس
تراويح , فإذا دخل العشر زادوا واحدة , ويقنتون في النصف الآخر , ويختمون القرآن مرتين»
عمران بن حدير رحمه الله: «كان أبو مجلز يصلي بهم أربع ترويحات
ويقرأ بهم سبع القرآن في كل ليلة»
ذكوان الجرشي رحمه الله: «شهدت زرارة بن أوفى يصلي بالحي
في رمضان ست ترويحات , فإذا كان في آخر الشهر صلى سبع ترويحات كل ليلة , وشهدته في
آخر صلاته يصلي ست ركعات لا يقعد بينهن يقعد في السادسة»
ابن القاسم: سمعت مالكا رحمه الله يذكر أن جعفر بن سليمان
أرسل إليه يسأله: أنتقص من قيام رمضان , فنهاه عن ذلك , فقيل له: قد كره ذلك , قال:
نعم , وقد قام الناس هذا القيام قديما , قيل له: فكم القيام؟ فقال: تسع وثلاثون ركعة
بالوتر " ...))
والآثار كثيرة أورد جملة منها ابن أبي شيبة في
مصنفه, وغيره.
وقال الترمذي في جامعه سنن الترمذي ت شاكر (3/ 161): ((
واختلف أهل العلم في قيام رمضان، فرأى بعضهم:
أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة.
وأكثر أهل العلم
على ما روي عن عمر، وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة، وهو
قول الثوري، وابن المبارك، والشافعي "
وقال الشافعي: «وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة»
وقال أحمد: «روي في هذا ألوان ولم يقض فيه بشيء»
وقال إسحاق: «بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روي عن
أبي بن كعب» واختار ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان
" واختار الشافعي: أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا "
وقال البغوي: ((ورأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع
الوتر، وهو قول
أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم، وهو اختيار إسحاق.
وأما أكثر أهل العلم، فعلى عشرين ركعة يروى ذلك عن عمر،
وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الثوري، وابن المبارك، والشافعي،
وأصحاب الرأي، قال الشافعي: وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة )). شرح السنة للبغوي (4/ 123)
فهذه النقول تُثبت عمل المسلمين المستمر على جواز
الزيادة على إحدى عشرة ركعة, ولا تُجمع الأمة على ضلالة.
بل لو فرضنا أنه عُمل بذلك في زمنٍ من الأزمنة من غير
نكير لكان ذلك كافيا لبيان الجواز؛ لأن الله لا يُخل زمنا من قائل بالحق.
فهذا هو فهم السلف للنصوص, وقد حكى عليه ابن عبد البر وغيره الإجماع فقال في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (21/ 70): (( فلا خلاف
بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر فمن شاء
استقل ومن شاء استكثر ))
وقال في الاستذكار (2/ 102): (( وقد أجمع العلماء على أن
لا حد ولا شيء مقدرا في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته
ومن شاء أكثر الركوع والسجود ))
فإن قيل: ما الجواب على حديث عائشة رضي
الله عنها" ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة"
قيل: تخبر عن غالب قيامه صلى الله
عليه وسلم, وليس فيه المنع من الزيادة.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه
سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت:
(( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة..))
قال الباجي: (( ..تريد صلاته المعتادة الغالبة وإن كان ربما
يزيد في بعض الأوقات على ذلك )) المنتقى شرح الموطإ (1/ 216)
وجاء في شرح النووي على مسلم (6/ 18): (( ...وأما الاختلاف
في حديث عائشة فقيل هو منها وقيل من الرواة عنها فيحتمل أن إخبارها بأحد عشرة هو الأغلب
وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات فأكثره خمس عشرة بركعتي
الفجر وأقله سبع
وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة ))
بقي بيان جواز التعقيب في المسجد.
والتعقيب: رجوع الناس إلى
المسجد بعد انصرافهم. انظر: مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص:
245)
والمقصود منه في مذهب أحمد: (أن يتطوع بعد التراويح
والوتر في جماعة) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2/ 183)
والتعقيب جاء عن الحسن وقتادة أنهما كانا يكرهان التعقيب
في رمضان. مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص: 245)
وعن أنس قال: «لا بأس به إنما يرجعون إلى خير يرجونه، ويبرءون
من شر يخافونه» مصنف
ابن أبي شيبة (2/ 167)
وقال ابن قدامة: ((فأما التعقيب، وهو أن يصلي بعد التراويح
نافلة أخرى جماعة، أو يصلي التراويح في جماعة أخرى. فعن أحمد: أنه لا بأس به؛ لأن أنس
بن مالك قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه. وكان لا يرى به بأسا. ونقل
محمد بن الحكم عنه الكراهة، إلا أنه قول قديم، والعمل على ما رواه الجماعة. وقال أبو
بكر: الصلاة إلى نصف الليل، أو إلى آخره، لم تكره رواية واحدة، وإنما الخلاف فيما
إذا رجعوا قبل النوم، والصحيح أنه لا يكره؛ لأنه خير وطاعة، فلم يكره، كما لو أخره
إلى آخر الليل )). المغني
لابن قدامة (2/ 125)
والراجح: جوازه؛ لما أخرجه أبو داود في سننه (2/
67): (( عن قيس بن طلق، قال: زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان، وأمسى عندنا،
وأفطر، ثم قام بنا الليلة، وأوتر بنا، ثم انحدر إلى مسجده، فصلى بأصحابه، حتى إذا
بقي الوتر قدم رجلا، فقال: أوتر بأصحابك، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا وتران في ليلة»
ولما ثبت عن أنس رضي الله عنه.
فقد أخرج ابن
ابي شيبة في مصنفه(2/ 167) عن أنس لما سئل عن التعقيب في رمضان قال: «لا بأس به, إنما
يرجعون إلى خير يرجونه، ويبرءون من شر يخافونه»
وهو داخل في استحباب الاجتهاد في العشر
الأواخر, ومحقق لمقصد التعبد في ليلة القدر.
وجوازه جماعة؛ لأن الأصل
جواز الجماعة في قيام رمضان.
فإن قيل: لِم لَم يتهجد النبي صبى الله عليه وسلم في
المسجد؟
قيل: علة عدم تهجده في المسجد هي علة عدم صلاته
التراويح في المسجد, وهي: خشية أن يفرض على الأمة.
فتبين لنا من مجموع ما ذكر مشروعية
التهجد في العشر الأواخر من رمضان زيادة على التراويح بعد الانصراف منها.
فهذا تقريرٌ مختصر لهذه المسألة.
والله أعلم
كتبه:
أحمد
محمد الصادق النجار
25-رمضان-1438هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق