مناقشة ما استدل به مجوزوا المظاهرات من قواعد ومقاصد
يحتج بعض إخواننا بـ:
1-الأصل في الأشياء
الإباحة
فهنا استعملوا
القاعدة في غير محلها؛ لأن المقصود بالأشياء في القاعدة التي لم يدل دليل على
النهي عنها إما بدليل كلي أو جزئي, والمانعون يقولون: فيها ضرر غالب أو كثير , وهذا
يستدعي تحريمها, ولا يصح أن يقال الأصل فيها الإباحة.
2-المظاهرات وسائل,
والوسائل لها أحكام المقاصد.
فهنا اشتملت هذه الحجة على
مقدمة صغرى ومقدمة كبرى ونتيجة, ونتيجتها: المظاهرات لها أحكام المقاصد, فيختلف
حكمها بحسب المقصد.
لكن الذي خفي على هؤلاء:
ما ضابط الوسائل التي لها أحكام المقاصد؟ وبعبارة أخرى: هل كل وسيلة لها أحكام
المقاصد؟
فمثلا: الإصلاح بين
الزوجين مقصد حسن, فلو أن رجلا أخذ بإطلاق القاعدة فجعل السحر وسيلة لهذا المقصد,
فلا يشك مسلمان أن هذا لا يصح, والغاية لا تبرر الوسيلة.
فكما أن الوسيلة لها أحكام
المقاصد فأيضا الغاية لا تبرر الوسيلة, ولا تعارض بينهما.
إذن يجب أن تكون الوسيلة
غير منهي عنها شرعا إما بنص جزئي كنصوص تحريم السحر, أو بالنظر إلى قواعد الشريعة,
فليس النهي عن الشيء محصورا في المنصوص, بل يكون في المنصوص عليه وفيما يؤخذ حكمه
من قواعد الشريعة وكلياتها ومعانيها.
والمظاهرات من منعها منعها
من جهة كونها تفضي غالبا أو كثيرا إلى مفاسد, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم, ومن جوزها لم ير أنها وسيلة منهي عنها, فرجعنا إلى النقطة الأولى وهي
كونها منهيا عنها أو لا, وبالتالي فلا يصح الاستدلال بقاعدة الوسائل لها أحكام
المقاصد؛ لأن استعمال هذه القاعدة فرع إثبات كون الوسيلة غير منهي عنها, وهذا هو
أصل البحث.
والمظاهرات عند المانعين
منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم.
3-المظاهرات تعتريها
الأحكام الخمسة, فقد تكون واجبة وقد تكون محرمة وهكذا...
فهنا أجرو المظاهرات مجرى
الفعل غير المنهي عنه من حيث هو , ولهذا تلحقه الأحكام الخمسة بحسب ما يعرض له,
وهذا لا يسلم به المانعون فرجعنا إلى أصل البحث.
وعليه فلا يقال: تعتريها
الأحكام الخمسة؛ لأن كون الفعل تعتريه الأحكام الخمسة فرع إثبات كونه غير منهي عنه
في نفسه.
فمثلا: لا يقال: الخلوة
بالأجنبية تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأن الفعل منهي عنه, بينما يقال ذلك في النكاح
والأكل والشرب ونحو ذلك.
والمظاهرات عند المانعين
منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم, فنظروا إلى كليات الشريعة.
4-المظاهرات لم يأت نص
بتحريمها, فتكون جائزة أو تعتريها الأحكام الخمسة.
فحصروا التحريم في
المنصوص, وهذا مسلك خطير يلزم منه حصر المحرمات فيما ورد به النص دون غيره, ولا
يقول به فقيه أصولي, فالمحرمات تثبت بالملفوظ وتثبت بالقياس الجزئي والكلي.
5-المظاهرات تحقق مقصد
الشارع في حفظ الضرورات الخمس.
فهنا أيضا انطلقوا من كون
المظاهرات فعلا غير منهي عنه, وحكموا عليه بأنه يحقق مقصد الشارع, ولا يسلم
المانعون بذلك, وإنما يرون أنه منهي عنه ولا يحقق مقصد الشارع, فرجعنا إلى أصل
البحث؛ إذ إن المانعين انطلقوا من كونه وسيلة إلى تعطيل أو وقوع حرج في الضرورات
الخمس؛ لأنها سبب لقتل الأنفس والتعدي على حقوق المجتمع والتضييق عليهم في معاشهم,
كما يشهد به الواقع, فصار كون المظاهرات تحقق مقصد الشارع في حفظ الضرورات الخمس
مجرد دعوى لا يشهد لها الواقع.
6-مصلحة الناس ضيعها
الحكام فاستدعى ذلك تجويز المظاهرات.
فهنا انطلقوا من كون
المظاهرات غير منهي عنها من جهة, ومن جهة أخرى أن الحاكم ضيع الضرورات الخمس جملة
وتفصيلا, فتراهم منعوا من إقامة الصلوات ومن رفع الأذان وحرموا الناس من صلاة
الجمعة والعيد, وألزموهم بالربا والزنا, وقتلوا الأنفس المسلمة بغير حق إلى غير
ذلك.
وغفلوا أن المصالح متفاوتة
في نفسها, وكذا المفاسد, وأن الشريعة تأمر باحتمال أدنى المفسدتين, وترى تقديم
المصالح الضرورية الأصلية على المكمل لها.
ولذا ترى المانعين يقولون:
إن أصل الضرورات الخمس موجود واقعا, وما يفعله الحكام من استئثار وظلم يجب أن يكون
إنكاره بما لا يرفع أصل الضرورات الخمس, ومتى ما كان الفعل ناقضا لأصل الضرورات
الخمس فإنه ينهى عنه.
ولما كانت المظاهرات وسيلة
إلى رفع أصل الضرورات الخمس أو كانت نتيجتها أكثر ضررا فإنها تمنع, وانطلقوا من أن
المصالح المكملة إذا رجعت إلى المصالح الأصلية بالنقض ألغيت, ورجعوا أيضا إلى
احتمال أدنى المفسدتين, وهذا ما أمرت به الشريعة مع الحاكم المسلم الفاسق, ولم
تناد بطلب الحقوق منهم طلبا يؤدي إلى منكر أعظم.
هذا هو النظر المقاصدي, لا
التمسك بكون الشريعة تحفظ الضرورة الخمس من غير مراعاة لتفاصيل هذا الحفظ ودقائقه.
وعندما تمنع المظاهرات ليس
من باب تثبيت الاستبداد والسيادة للبشر, وإنما هو من باب تعطيل المفاسد وتقليلها,
والنظر إلى مصلحة الأمة, والمحافضة على المصالح الضرورية الأصلية.
والعبث كل العبث أن نبطل
المصالح الضرورية الأصلية بمصالح دونها ومكملة لها.
قال القاضي عياض (( جماهير أهل السنة من الفقهاء
والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, ولا يخلع ولا
يجوز الخروج عليه بذلك, بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك )).
فجُلُّ من تكلم عن المظاهرات خرج عن أصل البحث,
وتمسك بقواعد ومقاصد لا تفيده في الحكم.
كتبه: د. أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق