أعاتب الشيخ الفاضل أبا عبيدة الزاوي على دعوى الخلط بين
الاستدلال بالمقاصد وقواعد الفقه
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده,
أما بعد, فقد قرأت رد
الشيخ أبي عبيدة الزاوي حفظه الله على مقالي: "حكم المظاهرات بنظرة
مقاصدية" وكنت أتمنى أن يكون النقاش أكثر دقة مع مراجعة الكتب المتخصصة؛ لتعم
الفائدة.
حقيقةً فضيلة الشيخ!! صُدمت
لما قرأت كلامك هذا: "ما ذكره الشيخ أحمد من أن الشريعة حرمت كل فعل يفضي إلى
مفسدة غالبة أو كثيرة وإن كان في الفعل مصلحة) اهـ أولًا هذا التدليل ليس تدليلا مقاصديا،
ولكنه من باب الاستدلال بقواعد الفقه، ويظهر أن هناك خلط بين عنوان المقال وكيفية التعامل
مع أدلته فهناك خلط واضح في باب القواعد والمقاصد، وما ذكره هنا يندرج تحت قاعدة
"درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح"، أو قاعدة "إذا تعارضت مفسدتان
ترتكب أدناهما ضررا"، وقد يلجأ إلى قاعدة "الوسائل لها أحكام المقاصد"،..."
ولمكانتك عندي ومعرفتي
بعلمك لو عرض علي هذا الكلام منسوبا إليك لقلت: لا تصح نسبة الكلام إلى الشيخ أبي
عبيدة, فهو كلام لا يقوله من يعرف علم القواعد الفقهية وعلم المقاصد وما فيهما من
تداخل من جهة كليتهما وغايتهما, واختصاص من جهة التوظيف والتناول, ولا يقوله أيضا
من يحسن الاستدلال, لكن لعلها هفوة, ولكل جواد كبوة.
لما تكلمتُ -حفظك الله- عن
حكم المظاهرات انطلقت من قاعدة مقاصدية وهي النظر إلى مآلات الفعل, فبينت أن حكم الفعل
الذي يفضي إلى مفاسد غالبة أو كثيرة: المنع تحقيقا لمقصد الشارع في تعطيل المفاسد,
وهي قاعدة مقاصدية باتفاق.
ولم أنطلق من القاعدة
الفقهية: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" ومما خفي عليك -أو أنسيته-
أن هذه القاعدة لا تستعمل فيما يفضي إلى المحرم غالبا أو كثيرا, وإنما تستعمل فيما
يتساوى فيه المصالح والمفاسد, غمن أحق بدعوى الخلط؟!!
وإذا كنتَ بنيتَ حكمك على
المظاهرات على فهم خاطئ لهذه القاعدة فقد سقط تأصيلك لجوازها أو دورانها.
وهكذا يخطئ من يقول بدوران
حكم المظاهرات على المصالح والمفاسد؛ لأن ما كانت مآلاته مفاسد غالبة أو كثيرة
يمنع من غير دوران, كالخلوة بأجنبية ومصافحة المرأة ووو.
ولم أنطلق أيضا من تعارض
المفاسد فلها تأصيلها واستعمالها...
وأما تمثيلك بالجهاد فضيلة
الشيخ في قولك" الكلام غير منضبط من جهة التأصيل الفقهي، وسوف أورد مثالا على
قاعدته، فالجهاد في سبيل الله مما لا شك فيه يصاحبه مفاسد من زهق الارواح وذهاب الأموال
بل وفيه احتمالية الهزيمة والخسارة يقول تعالى:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم) ومع
ذلك رغب فيه الشارع، لما فيه من مصلحة عظمى"
فعجب!؛ لأن الكلام عن
المفاسد الشرعية لا الطبعية, فإزهاق نفس المجاهد مصلحة شرعية لا مفسدة, وإن كان الإنسان
يكره الموت طبعا.
فالخلط بين المفاسد
الشرعية وبين ما يلائم الطبع وينافره يرده أهل المقاصد!
ثم انتهيت إلى تجويز
المظاهرات قياسا على الجهاد في سبيل الله, وإعمالا لقاعدة يجوز تبعا ما لا يجوز
استقلالا, فقلت: "وهكذا المظاهرات إذا خرج الناس فيها لطلب حقوقهم وجعلوها وسيلة
إلى بلوغ مقصدهم المشروع ما الفرق؟ مع أن وقوع الضرر فيها ليس شرطا في كل الاحوال مثل
القتال المباشر، فلو وقع الضرر من المظاهرات وكان خروج الناس لأجل ضرر حل بهم، سيكون
ضرر المظاهرات تبعا وليس مقصودا في ذاته، ولكن الضرر الثاني الذي خرجوا لأجله حقيقي
متعمد فكان الفرق بين الأمرين، والقاعدة الفقهية تقول: "يجوز تبعا ملا يجوز استقلالا"
أقول: أما قياسك على الجهاد
فقياس مع الفارق؛ فالجهاد بضوابطه يشرع مع الكفار؛ حفظا لضروري وهو الدين, ومصالحه
غالبة, وحكمه منصوص عليه, وأما المظاهرات فمع المسلمين, ومفاسدها تعود إلى عدم حفظ
الضرورات الخمس, وضررها غالب أو كثير وتسبب الفوضى.
ثم العبرة بالأعظم,
فالأعظم في الجهاد: المصالح, والأعظم في المظاهرات: المفاسد, ولذا اختلف الحكم ولم
يصح القياس.
وأما إدخال المظاهرات تحت
قاعدة يجوز تبعا ما لا يجوز استقلال فلا أدري كيف دخلت؟؛ لأن هذه القاعدة تستعملفي التبعية الحقيقية, وهو:
المتصل بالشيء حسا, كاتصال الجنين بأمه, أو التبعية الحكمية, وهو: الذي لم يتصل به
حسا, وإنما حكما, كتبعية الطفل المسلم بأبيه,
فإذا كان الضرر متصلا بالمظاهرات لا ينفك عنها
فيكون الحكم التحريم لا الجواز إذا كان الضرر غالبا أو كثيرا.
والضرر هنا من إفضاء الفعل, ويعود على المسلمين
عموما, فليس هو ضررا خاصا حتى يتحمل.
وهكذا فضيلة الشيخ تخوض في القواعد الفقهية
وتستعملها في غير محالها, ولن يرضى صنيعك هذا الفقهاء.
وأما الكلام في السياسة الشرعية فيجب أن يكون مبنيا
على مقاصد الشارع مع النظر إلى النصوص الجزئية الوادة في الباب, وهذا يستدعي دراسة
دقيقة لعلم المقاصد مع الإحاطة بالنصوص الشرعية.
ولا أطيل...
وفقكم ربي وسددكم وعفا الله عني وعنكم.
كتبه: أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق