حكم الإنكار العلني على الحاكم المسلم
حال غيبته
د. أحمد بن محمّد النّجار
محاضر في مادة العقيدة بقسم أصول الدين
كليّـة علوم الشّريعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فالفعل لا يعتبر في نفسه وإنما يعتبر في مآلاته, فينظر
إليه بما يؤول إليه من مصلحة أو مفسدة, فالفعل وإن كان أصله الإذن إلا أنه لابد من
النظر إلى مآلاته حتى يحكم عليه؛ إذ إن الشريعة لا تكتفي في الحكم بالنظر إلى أصل
الفعل, وإنما تنظر إلى مآلاته وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد, فإن كانت مآلات
الفعل مفاسده غالبة كانت أو كثيرة منعت, وإلا بقي على أصله وهو الإذن.
وقام منهج السلف على هذا
الأصل الكلي.
وإذا نظرنا إلى مآلات
الإنكار العلني على الحاكم حال غيبته وتأجيج الناس عليه وجدنا أنها مفاسد عظيمة راجحة
وغالبة أو كثيرة, وعامة لا خاصة, وتمس الضرورات الخمس, فهذا الفعل يفضي إلى إيغار
القلوب على الحكام والفوضى العامة, والخروج بالسيف, وتمكين الغرب من بلاد
المسلمين, أو التضييق على الناس في أداء شعائر دينهم, كما عهدنا هذا أيام القذافي,
وغيره.
وما كان هذا حاله فإنه يجب
أن يبنى حكمه على أصل الشريعة وهو: الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن
يكون طريقا إلى مفسدة.
وتفرع عن هذا الأصل
قاعدة:" لا
يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه".
ولما كانت مفاسد الإنكار
العلني على الحاكم وتأجيج العامة عليه تعود إلى الضرر بالمصالح الضرورية شدد فيه
الأئمة المعتبرون؛ حتى عاملوه معاملة الأصول في الإنكار, وإن كان لا يلزم منه
التبديع.
فعن أنس
بن مالك قال كان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهوننا عن سب
الأمراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد - (21 / 287)
وأخرج البخاري في التاريخ
الأوسط(2/ 805) والكبير (8/ 104)بسند صحيح عن أبي حمرة قال لما بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكة
فاختلفت إلى ابن عباس حتى عرفني واستأنس بي فسببت الحجاج عند عَبد الله بن عباس فقال:
( لا تكن عونا للشيطان ).
فأنكر عليه ابن عباس مع
جرم ما فعله الحجاج من تحريق الكعبة ورمي أهلها بالمنجنيق.
وعن ابن طاووس، عن أبيه، قال:
أتى رجل إلى ابن عباس، قال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: " لا
تكن لك فتنة " قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: " فذاك الذي تريد، فكن
حينئذ رجلا " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10/ 73)
وأخرج ابن أبي شيبة في
مصنفه (6/ 203) عن طاوس قال: ذكرت الأمراء عند ابن عباس فانبرى فيهم رجل فتطاول حتى
ما رئي في البيت أطول منه , فسمعت ابن عباس يقول: «يا هزهان , لا تجعل نفسك فتنة للظالمين»
, فتقاصر حتى ما رأيت في القوم أقصر منه.
فأنكر عليه وجعلها فتنة
للظالم.
وفي الأموال لابن زنجويه
(1/ 77) عن أبي مجلز، قال: (سب الإمام الحالقة،
لا أقول: حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين)
وأخرج أيضا في الأموال (1/
77)عن أبي اليمان، أنهم ذكروا الولاة يوما عند أبي الدرداء، فقال: «لا تلعنوهم؛ فإن
لعنهم الحالقة، وبغضهم الفاقرة» ، قيل: فكيف يا أبا الدرداء، إن نحن رأينا منهم ما
لا يحب الله؟ قال: «فدعوهم حتى يغيره الله، فإن الله إذا أراد ذلك حسمهم بالموت»
إلا أن أبا اليمان فيه كلام, ووثقه ابن حبان.
وإنما أنكروا هذا الإنكار؛
لما يلزم من الإنكار من مفاسد عظيمة, فمفاسد الإنكار من حيث الرتبة تتعلق
بالضرورات, ومن حيث النوع تتعلق بالدين والنفس والعرض, ومن حيث العموم هي عامة لا
خاصة, وهذا مما يجعلها عظيمة راجحة على مصالح الإنكار, وهي أيضا لا تنفك غالبا أو
كثيرا.
فما وقعت فتنة ابن الأشعث
إلا بسبب الإنكار العلني, ولا قتل أمير المؤمنين عثمان إلا بسبب الإنكار العلني,
ولا حصل خروج بالسيف على مر التاريخ إلا ومن أسبابه الإنكار العلني.
فقد أخرج ابن سعد في الطبقات
الكبرى (6/ 170) عن هلال بن أبي حميد قال: سمعت عبد الله بن عكيم يقول: لا أعين على
دم خليفة أبدا بعد عثمان.
فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت
على دمه؟ فيقول: إني أعد ذكر مساويه عونا على دمه.
ولهذا لم يعرف عن الصحابة
الإنكار العلني على الحاكم حال غيبته مع وجود ظلم الولاة وتحققه, وكذا لم يعلقوا
الجواز على المصلحة.
ففي سنن سعيد بن منصور (4/ 1657) عن سعيد بن جبير قال : قلت
لابن عباس : آمر إمامي بالمعروف ؟ قال : (إن خشيت أن يقتلك فلا ، فإن كنت ولا بد فاعلا
ففيما بينك وبينه).
وعن سعيد
بن جمهان قال لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه قال لي من أنت
فقلت أنا سعيد بن جمهان قال فما فعل والدك قال قلت قتلته الأزارقة قال لعن الله
الأزارقة لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار
قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها قال بلى الخوارج كلها قال قلت فإن السلطان
يظلم الناس ويفعل بهم قال فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال ويحك يا ابن
جمهان عليك بالسواد الأعظم عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان يسمع منك فأته في
بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه أخرجه أحمد
فقد أنكر
هذا الصحابي الجليل عليه الإنكار العلني على الحاكم, ووجهه إن كان يسمع منه الإمام
أن ينصحه سرا, وإلا فالواجب عليه السكوت.
وعن زياد
بن كسيب العدوي قال كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق
فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق فقال أبو بكرة اسكت سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول: (( من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله )) أخرجه
الترمذي
فقد أنكر
عليه الطعن في الحاكم والإنكار عليه في غيبته؛ لأجل لبسه أمرا محرما وهو ثياب
الفساق, وقد نهينا عن التشبه بهم.
وقال ابن
عبد البر: (( إن لم يكن يتمكن نصح السلطان فالصبر والدعاء فإنهم كانوا ينهون عن سب
الأمراء ))
فهذه أدلة
خاصة يقضى به على الدليل العام, ويفهم الدليل العام على ضوء الدليل الخاص.
وهنا يرد ؤال: ما الذي خشيه السلف من الإنكار العلني حال الغيبة؟
هناك تلازم بين الإنكار في غيبة الحاكم وذكر مساوئه وبين الخروج بالسيف, والتلازم هنا بحسب
العادة وما دل عليه الواقع, وليس عقليا لا ينفك؛
ولأجل التلازم العادي كان منهج السلف: المنع من الإنكار؛ فقد جاء عن عبد الله بن عكيم عند ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 58) أنه
قال: ( لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان، فقيل له: يا أبا معبد أوعنت عليه؟
قال: كنت أعد ذكر مساويه عونا على دمه(
وهو ما خشي منه الصحابي الجليل أسامة بن زيد لما قيل له: ألا
تدخل على عثمان فتكلمه؟ قال: ( أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته
فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه) أخرجه البخاري
ومسلم
قال المهلب: ( أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق
الكلمة) فتح الباري لابن حجر (13/ 52)
وقال العيني تعليقا على كلام أسامة في عمدة القارئ
(١٥/١٦٦):( أكلمه طلبا للمصلحة لا تهييجا للفتنة؛ لأن المجاهرة على الأمراء
بالإنكار يكون فيه نوع القيام عليهم؛ لأن فيها تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق
الكلمة وتشتيت الجماعة).
هذا هو فهم السلف، فقد فهموا التلازم, وحذروا الناس من ذلك, بل
قال ابن أبي جمرة وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:(( فإنه ليس أحد من الناس
خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية)) قال: ( المراد بالمفارقة
السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار
الشبر؛ لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق) فتح الباري (١٣/٧(
ولم يقف الأمر عند هذا، فقد جعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الطعن
والسب من فعل الخوارج؛ للتلازم بين الطعن والخروج
ففي السنة (2\455) لابن أبي عاصم عن عقبة بن وساج قال: كان صاحب
لي يحدثني عن شأن الخوارج وطعنهم في أمرائهم، فحججت فلقيت عبد الله بن عمرو، فقلت
له: أنت من بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله عندك علما،
وأناس بهذا العراق يطعنون على أمرائهم، ويشهدون عليهم بالضلالة؟
فقال لي: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم
حدث بحديث ذم الخوارج.
ونكتة ذلك: أن السبب إذا أوقع المسبب عادة عُدَّ من فعل السبب
فاعلا للمسبب, فمن فعل السبب -وهو الطعن- عد فاعلا للمسبب -وهو الخروج-, وليس هذا
من باب الخلط بين الطعن والإنكار وبين الخروج بالسيف، وإنما هو جار على قاعدة مجرى
العادات بين السبب والمسبب.
ويشهد لهذا الشرع، ومنه حديث:( إن من أكبر الكبائر أن يلعن
الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب
أباه، ويسب أمه فيسب أمه)
قال ابن تيمية:( فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا
لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده) الفتاوى
الكبرى لابن تيمية (6/ 174)
وكما هو ثابت في الأسباب الشرعية كذلك ثابت في
الأسباب العادية، كما فصله الشاطبي في الموافقات (١/٣٣٥) حيث قال: (إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا؛
لأنه لما جعل مسبب عنه في مجرى العادات؛ عد كأنه فاعل له مباشرة ،
ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات؛ إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى
أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار،
والإسهال إلى السقمونيا، وسائر المسببات إلى أسبابها؛ فكذلك الأفعال التي تتسبب عن
كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا، وإذ كان هذا معهودا معلوما؛ جرى عرف
الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان).
ولو يلاحظ الناظر أن الخطاب في الانكار العلني حال الغيبة موجه
إلى الناس والدهماء لا إلى الحكام، فإن أريد تغيير المنكر فيجب أن يكون الخطاب
موجها للحكام بالذهاب إليهم لا إلى عامة الناس.
وإن أريد إصلاح عقائد الناس فيكتفى بإنكار الفعل المنكر وبيان
حكمه في الشريعة؛ جمعا بين حفظ عقائد أناس والشريعة وهدم إفضاء الفعل إلى مفسدة
أكبر.
فيجب عند الكلام عن هذه المسائل النظر إلى القواعد والأصول ودرء
المفاسد الكبرى، ولا يكتفى بمجرد جمع الآثار.
وعندما نقرر قوة إفضاء الطعن إلى الخروج بالسيف لا يتصور متصور
أنه بمجرد الطعن والإنكار يحصل الخروج, وإنما لابد معه من أسباب أخرى. كوجود جماعة
وعندهم سلاح ولهم من يقودهم ويؤزهم ونحو ذلك؛ إذ الطعن وحده ليس سببا ينتج المسبب،
بل لابد معه من أسباب أخرى وانتفاء موانع.
ويخرج من هذا الإنكار العلني على الحاكم بين يديه؛ لفعل السلف, ولأن مصلحته
راجحة, ويمكن للحاكم أن يدافع عن نفسه
ويبين مستنده كما فعل مروان لما أنكر عليه أبو سعيد.
وفي سير أعلام النبلاء (3/
230) عن ابن عمر: أنه قام إلى الحجاج، وهو يخطب، فقال: يا عدو الله! استحل حرم الله،
وخرب بيت الله.
وروي عن شهر بن حوشب وغيره
أن الحجاج أطال الخطبة فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة مرارا، ثم قام فأقام الصلاة
فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟
فقال: إنما نجيء للصلاة فصل
الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه. البداية والنهاية (9/ 121)
لكنه يعلق بالمصالح وأمن الفتنة,
فعن الوليد قال: وسمعت الأوزاعي يقول: من حضر سلطانا، فأمر بأمر ليس بحق، ولا يتخوف
فيه الفوت، فلا يكلمه فيه عند تلك الحال، وليخل به، وإذا رأيته يأمر بأمر يخاف فيه
الفوت فلابد لك من كلامه، أصابك منه ما أصابك. رواه المروذي في أخبار الشيوخ وأخلاقهم
(ص: 53)
ولما كان الإنكار معلقا
برؤية المنكر اقتضى ذلك أن يكون الإنكار العلني على الحاكم أمامه؛ لأن الإنكار
يثبت بعد رؤية المنكر من الحاكم.
وإذا نظرنا إلى الأمر بعدم
الإنكار العلني على الحاكم المسلم حال غيبته وجدنا أنه مطلوب طلب الضروريات؛ إذ إن
الإنكار لما كان مكملا للضروري ويصح إقامة أصل الضروري وهو حفظ الدين بدونه, وعارض
ضروريا وهو حفظ الأنفس كان المقدم هو حفظ الأنفس.
فمثلا: الواثق الخليفة
العباسي وقع في القول بخلق القرآن وألزم الناس به, فهنا ينظر في إنكاره إنكارا
علنيا حال غيبته هل هو مطلوب طلب الضروريات أو الحاجيات,؟ وإذا كان من قسم
الضروريات فهل هو مطلوب بالقصد الأول أو الثاني؟
بمعنى هل يصح إقامة أصل الضروريات
بدون الإنكار؟؛ لعدم تأثر الناس بهذه العقيدة وقيام الأئمة بإنكار الفعل وتوضيح
بطلان هذه العقيدة؛ وجوابه: أنه يصح إقامة أصل الضروريات بإنكار الفعل, فيكون الإنكار
العلني حال الغيبة على القول بخلق القرآن من المصالح الحاجية التي يقابلها مصلحة
ضرورية وهي حفظ الأنفس والتمكن من أداء شعائر الإسلام, فيكون المقدم هنا عدم
الإنكار؛ لقوة مرتبة حفظ أصل الدين والنفس.
وهذا النظر يقوم على
الموازنة بين مراتب المصالح والمفاسد عند تعارضها؛ لتقديم ما هو أقوى.
ومن غريب ما يذكر التفريق
بين حكام السلف وحكام زماننا, فيمنع الإنكار على حكام السلف دون حكام زماننا.
وجوابه: أن تحقق المفاسد
التي تخشى من الإنكار العلني على حكام زماننا أشد من تحققها في عصور السلف, فإذا
ترتب على المجاهرة بإنكار بعض الناس على الولاة زمن قرب الناس من زمن النبوة؛ حتى
قتلوا عثمان رضي الله عنه, فكيف بالزمن الذي هو بعيد عن زمن النبوة؟!.
ففي صحيح مسلم عن أسامة بن
زيد، قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟
والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه.
قال النووي تعليقا عليه في
شرح النووي على مسلم (18/ 118): (قوله (أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من أفتتحه) يعني
المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه)
وعليه فالإنكار العلني على
الحاكم حال غيبته مفاسده عظيمة وغالبة أو كثيرة, ولما كان الأمر كذلك لم يكن الفعل
مأذونا فيها, ولا يصح تعليق جوازه بأمن الفتنة وعدم إيغار قلوب العامة على حكامهم
ونحو ذلك؛ لأن هذه المفاسد غالبة أو كثيرة, وتمس الضرورات, فلذا لم يلتفت إلى
المصالح المرجوحة ولم يعلق عليها الحكم.
فتبين للقارئ الكريم أن
العمدة في هذه المسألة: الأدلة الكلية والمقاصد الشرعية, وهي التي استند عليها
الصحابة رضوان الله عليهم.
أضف إلى ذلك ما ورد من
حديث خاص في المسألة إلا أنه لما اختلف في تصحيحه وتضعيفه لم نعتمد عليه؛ حتى لا
نضعف من درجة المسألة.
وهو ما أخرجه البيهقي في
سننه (8/ 283) أن عياض بن غنم الأشعري، وقع على صاحب دار حين فتحت , فأتاه هشام بن
حكيم فأغلظ له القول , ومكث هشام ليالي , فأتاه هشام يعتذر إليه وقال له: يا عياض ألم
تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن " أشد الناس عذابا يوم القيامة
أشد الناس عذابا للناس في الدنيا "، فقال له عياض: يا هشام إنا قد سمعنا الذي
سمعت , ورأينا الذي رأيت , وصحبنا من صحبت , أو لم تسمع يا هشام رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية , وليأخذ
بيده فليخل به , فإن قبلها قبلها , وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له " وإنك
يا هشام لأنت الجريء أن يجترئ على سلطان الله , فهلا خشيت أن يقتلك سلطان الله؛ فتكون
قتيل سلطان الله.
فإن قيل: ورد عن بعض السلف
جواز غيبة الحاكم المعلن بفسقه, فقد «المسائل» (2/882) لحرب
الكرماني : عن عبد
الرحمن بن أذينة قال: حدثنا أشياخنا قال: «ثلاثة لا حرمة لهم ولا غيبة، الوالي
الظالم الجائر، والفاسق المعلن بفسقه، وصاحب البدعة».
وعن خالد، سمعت عبيد الله يقول في غيبة الخوارج
والسلطان الذي قد أعلن لم ير لهم غيبة، فأما من يُعلَم أنه مذنب وهو يحب إن يستتر
فرأى ذلك منهم غيبة.
و في «الصمت» : لابن أبي الدنيا - عن إبراهيم قال:
«ثلاث كانوا لا يعدونهن من الغيبة: الإمام الجائر، والمبتدع، والفاسق المجاهر
بفسقه».
وعن الحسن رضي الله عنه قال: «ثلاثة ليس لهم غيبة:
صاحب هوى، والفاسق المعلن بالفسق، والإمام الجائر».
وفي «الشعب» : للبيهقي عن علي بن سلمة اللبقي، قال:
سمعت ابن عيينة، يقول: «ثلاثة ليست لهم غيبة: الإمام الجائر، والفاسق المعلن
بفسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته».
وفي ذم «الكلام» للهروي :: قال يحيى بن أبي كثير:
«ثلاثة لا غيبة فيهم: إمام جائر, وصاحب بدعة, وفاسق».
قيل: الغيبة أعم من الإنكار العلني على الحاكم
المسلم, ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم, فاجتمع في الإنكار العلني على الحاكم حال
غيبته: الغيبة وما يفضي إليه الفعل من مفاسد عظيمة, بينما الغيبة التي سببها
المجاهرة بالفسق لا يلزم منها الإفضاء إلى ما هو أعظم.
وعليه فالغيبة بذكر الحاكم وما يجاهر به من فسق بين
شخصين أو أكثر بما لا يصل إلى الإنكار العلني الذي يفضي إلى مفاسد كبرى جائز ,
بخلاف الإنكار العلني الذي اجتمع فيه الغيبة والإفضاء إلى ما هو أشد, فالإنكار
العلني على الحاكم المجاهر بفسقه لم يحرم لأجل كونه غيبة وإنما لأجل ما يفضي إليه
من مفاسد.
فإن قيل: الإنكار العلني
سبب لجلب مصلحة.
قيل: الأسباب وضعت لجلب
مصلحة ودفع مفسدة, لا على جلب المصلحة فقط, فمتى كان السبب يجلب مفسدة عظيمة أو
يدفع مصلحة عظيمة فإنه لا يكون مشروعا, فالأسباب الشرعية لا تنتج مفاسد غالبة أو
كثيرة, وإنما تكون أسبابا مشروعة إذا كانت المصلحة التي تجلبها أعظم من المفسدة.
فإن قيل: ما ذكرته من حجج
مقاصدية لا تتناسب مع حكام زماننا.
قيل: إذا كان الإنكار
العلني مُنع منه زمن التابعين وتابعيهم مع حكام زمانهم وقربهم من الدين, فمع حكام
زماننا وعصرنا أولى؛ لأن الحكام -في الجملة- أشد طغيانا وعدوانا, وأقدم على الضرر
العام والخاص, وكذا الناس أسرع إلى الثوران
فالضرر المخوف منه من حكام
زمان السلف وعصرهم وجوده في حكام زماننا وعصرنا أشد, وهذا يجعل عدم الإنكار العلني
في غيبتهم لحكام زماننا أولى.
فإن قيل: ما وقع فيه حكام
زماننا من البعد عن الدين أعظم من الفتنة المخوف منها بالإنكار.
قيل: ما وقع فيه الحكام من
فتنة هي فتنة خاصة تأثيرها في الناس قليل بخلاف الفتنة المخوف منها من الإنكار فهي
عامة تموج موج البحر, فإذا وقع السيف لم يأمن الناس على دين ولا دنيا, ففي السنة
للخلال (1/ 132) عن محمد بن أبي هارون , ومحمد بن جعفر , أن أبا الحارث حدثهم قال
: سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد , وهم قوم بالخروج , فقلت : يا أبا عبد
الله , ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم ؟ فأنكر ذلك عليهم , وجعل يقول : سبحان الله
, الدماء , الدماء , لا أرى ذلك , ولا آمر به , الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة
يسفك فيها الدماء , ويستباح فيها الأموال , وينتهك فيها المحارم , أما علمت ما كان
الناس فيه , يعني أيام الفتنة ؟ قلت : والناس اليوم , أليس هم في فتنة يا أبا
عبد الله ؟ قال : وإن كان , فإنما هي فتنة خاصة , فإذا وقع السيف عمت الفتنة ,
وانقطعت السبل , الصبر على هذا , ويسلم لك دينك خير لك , ورأيته ينكر الخروج على
الأئمة , وقال : الدماء , لا أرى ذلك , ولا آمر به.
فإن قيل: ما مفهوم حديث
[أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ]؟
قيل: هذا الحديث أخرجه
أحمد بلفظ: [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر]
وأخرجه أبو داود بلفظ: «أفضل
الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، أو أمير جائر»
وأخرجه الترمذي بلفظ: [إن
من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر]
واختلف في تصحيحه وتضعيفه,
ولن أخوض في سنده, وإنما سيكون الحديث عن دلالته؛ لأن المعنى له ما يشهد له
ويعضده.
1-قوله: "أفضل"
من صيغ التفضيل التي تُحمل في الأصل على ظاهرها فتقتضي الأفضلية المطلقة, فلا جهاد
أفضل من كلمة عدل عند سلطان جائر, فهو أعظم الجهاد على الإطلاق إلا أن لفظ الترمذي
الذي فيه إدخال لفظ "من" التبعيضية على صيغة التفضيل تمنع من حصر الأفضلية
في ذلك, أو يقال بالأفضلية المطلقة في الجهاد مع مراعاة المعنى الذي لأجله هذا
الفضل, كما سيأتي.
وكونه "أفضل" أو
"من أعظم" له علة سيأتي الحديث عنها.
ولا يفهم من قوله أفضل:
وجوبها, وإنما الذي يفهم بيان منزلة كلمة الحق عند سلطان جائر, وأما الوجوب فمداره
على الاستطاعة وأمن العقاب بما لا قبل للإنسان به, قال ابن مسعود: (يوشك من عاش منكم
أن يرى منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره).[ جامع العلوم والحكم
(2/ 245)]
فالخوف على النفس مسقط
لوجوب الإنكار, قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟
قال: إن خفت أن يقتلك، فلا، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، وقال:
إن كنت لا بد فاعلا، ففيما بينك وبينه.
وقال طاوس: أتى رجل ابن عباس،
فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة. [جامع العلوم والحكم
(2/ 248)]
بل ذهب بعض العلماء إلى ما
هو أبعد من ذلك –وهو الذي تقتضيه الأصول- أنه لو خشي من الإنكار الضرر العام على
المسلمين فإنه يجب عدم الإنكار, قال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/
224): ( لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر، وإن خشي على نفسه فله الإنكار، ولكن
يسقط الوجوب)
2-الجهاد كلمة شرعية
تحمل على الحقيقة الشرعية, وهو الجهاد الذي يكون لإعلاء كلمة الله.
3-قوله: "كلمة
عدل" وفي لفظ" كلمة حق" قيدت الكلمة بكونها عدلا وحقا, فليس كل
كلمة تكون من أفضل الجهاد وإنما يجب أن تكون عدلا وحقا, وكون الكلمة حقا وعدلا
يعرفها العالم الراسخ في العلم خصوصا فيما بتعلق بالأمر العام؛ لأن ما يتعلق
بمصلحة الرعية من دقيق العلم؛ لتعلقه بالمصالح والمفاسد, وربما يكون الأمر كله
مفاسد فيحتاج إلى نظر مقاصدي كلي في احتمال أدنى المفسدتين.
فيتبين لنا أن الإنكار على
الحاكم الجائر عنده لا يكون أفضل الجهاد إلا إذا كانت الكلمة الموجهة إليه حقا
وعدلا.
4-قوله: "عند"
ظرف مكتن تفيد اتحاد المكان وسماع الكلمة, فهي عندية مكانية, وتقييد كلمة العدل
والحق عند السلطان الجائر؛ منعا من إفضاء الإنكار إلى منكر أعظم وفساد أكبر,
فالشرع ينظر إلى مآلات الفعل ويعتبره.
وهذه العندية مؤثرة في
الفضل الوارد في أول الحديث وهو: "أفضل الجهاد"؛ لأن كونه عنده مظنة
قتله وتعرضه للتلف, فهو إنما كان أفضل الجهاد لغلبة الخوف, وهذا لا يتحقق فيما إذا
لم يكن عنده, فقد أخرج الطبراني والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر،
فنهاه وأمره، فقتله»؛ مما يدلل أيضا على العندية المكانية والسماع.
وهذا ما وقع من نصح بعض
الصحابة على أمرائهم, عن طارق بن شهاب - وهذا حديث أبى بكر
- قال أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل
الخطبة. فقال قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ». أخرجه مسلم
فهذا الرجل أسقط على نفسه الواجب فأنكر, لكن أمام
الحاكم, فهذا قيد مهم.
وعن سعيد بن جمهان قال لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو
محجوب البصر فسلمت عليه قال لي من أنت فقلت أنا سعيد بن جمهان قال فما فعل والدك قال
قلت قتلته الأزارقة قال لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنهم كلاب النار قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها قال بلى الخوارج
كلها قال قلت فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم قال فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة
ثم قال ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان
يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه أخرجه أحمد
فلا يصح الاستدلال بالحديث
على من أنكر على الحاكم وهو ليس عنده, لاختلاف المعنى.
قال الخطابي في معالم السنن
(4/ 350): ( إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو وكان متردداً بين رجاء وخوف
لا يدري هل يغلب أو يغلب؟, وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف
فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف والله
أعلم).
وقال العز بن عبد السلام
في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 111): (جعلها أفضل الجهاد لأن قائلها قد جاد
بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون
بذله نفسه مع تجويز سلامتها، كبذل المنكر نفسه مع يأسه من السلامة).
5-قوله: "سلطان
جائر" وفي لفظ "أمير جائر": وصف السلطان والأمير بالجائر؛ لأن
الجائر مظنة الفتك بالناصح وقتله, والناصح لا يستطيع أن يدافع عن نفسه كما يدافع
من كان يجاهد في المعركة, ولذا جعله من أفضل الجهاد, كما تقدم
وفيه إقرار السلطان على
سلطانه وتسميته أميرا وسلطانا مع جوره وظلمه؛ نظرا لمنع المفاسد الكبرى, سواء كان
الظلم خاصا أو عاما.
وأخيرا: هذا الحديث يدل
على أن منزلة الناصح للحاكم الجائر عنده مع تحقق الخوف أو غلبة الظن على أنه
سيقتله منزلة الشهداء, قال الحسن: (هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء)
خاتمة: صور
الإنكار على الحاكم المسلم.
للإنكار عليه صور، عرفت بالاستقراء، وهي:
1-الإنكار
عليه سرا، وهو مشروع, بل هو الأصل.
وصورته: أن يكون بينه وبين الحاكم سرا لا أحد معهم.
وهذا يحقق المصلحة الشرعية في حفظ الشريعة, وصيانة
عرض الإحكام وإبقاء هيبته, وعدم إيغار الصدور عليه؛ مما يتسبب في فوضى عارمة وسفك
للدماء.
قال ابن عبد البر – رحمه الله-:” مناصحة ولاة الأمر
فلم يختلف العلماء في وجوبها إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها “.
2-الإنكار
عليه جهرا بين يديه، وهو مشروع إذا لم يمكن أن يكون سر, وأمنت الفتنة وحقق المصلحة.
وصورته: أن يتوجه الإنكار على الحاكم أمامه علانية.
روى أبو داود، وابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عل وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ
كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ.
3-الإنكار
على فعله علنا بين يديه، وهو مشروع إذا أمنت الفتنة وحقق المصلحة.
وصورته: أن يتوجه الإنكار على فعل الحاكم أمامه.
4- الإنكار
على فعله في غيابه علنا، وهو مشروع.
وصورته: أن يتوجه الإنكار إلى فعل الحاكم من غير أن
يربط به ويذكر اسمه, كما لو شيد أبنية للربا, فينكر الربا ويبين حكمه.
وهو داخل في تبليغ الشريعة وعموم إنكار المنكر,
وحفظ الشريعة, وصيانتها من إدخال ما ليس منها, ولا يترتب عليه مفسدة تفضي إلى
الفوضى العامة.
5- الإنكار
عليه في غيابه علنا، وهو غير مشروع.
وصورته: أن يتوجه الإنكار على الحاكم بذكره وتسميته
والحكم عليه علانية في غير حضوره.
وهذه
الصورة الأخيرة هي التي يدور حولها الجدل, ولم يرد في مشروعيتها دليل خاص، بل ورد
ما يدل على عدم مشروعيتها مرفوعا وموقوفا، وهو الذي جرى عليه العمل، وتعضده مقاصد
الشريعة وكلياتها.
ومن
يستدل على جوازها بما يصح أن يكون دليلا تجده يخلط بين هذا الصورة والصور الثلاث
التي قبلها, أو يستدل بمن ليس فعله حجة باتفا, أو يخلط بين الغيبة بسبب المجاهرة
بالفسق وبين الإنكار العلني.
والشريعة
إذ منعت هذه الصورة ليس تقديسا للحاكم ولا حبا له وإنما مراعية باب المفاسد، وسدا
للذرائع، وحفظا للضروريات الخمس.
وليس حكم
هذه الصورة معلقا بباب المصالح والمفاسد, وإنما المنع بني على درء المفاسد الراجحة.
فإن قيل:
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: وأن نقول بالحق حيثما كنا "
قيل:
عموم الحديث مخصوص بالمصلحة الشرعية, فالصورة الخامسة لا تدخل في قوله" وأن
نقول بالحق" لأنها ليست من الحق بالمصلحة الشرعية.
الملخص:
الحكم, هو: المنع بإطلاق إلا لضرورة يقدرها الراسخون في العلم.
ووجه المنع: الضرر المترتب على الفعل نفسه, من إيغار القلوب
وخلق فوضى عامة والخروج عليه بالسيف, وكذلك تضييق الحاكم على المسلمين كما فعل
القذافي لما سجن الدعاة وكل ما أطلق لحيته وسامهم سوء العذاب, وضيق عليهم في
المساجد مع إزهاق أنفس كثير منهم,
وقبل ذلك ما نتج عن هذا الفعل من قتل عثمان , وحصول فتنة ابن
الأشعث إلى غير ذلك ...
فهذا الضرر يمس الدين والنفس والعرض والمال (الضرورات الخمس)؛
مما يجعل المصالح المرجوة من الإنكار عليه علانية خلف ظهره وخطاب العامة به دون
المفاسد التي ذكرنا بعضها على سبيل المثال, فرتبة هذه المصالح دون رتبة المصالح
التي ستضيع بسبب الإنكار
وبهذا النظر المقاصدي, لا ننظر إلى الحاكم هل متدين أو ليس
متدينا؟ هل هو قريب من تطبيق الدين أو لا؟ وهل ظلمه كبير أو لا؟...
وإنما ننظر إلى مصلحة العامة وحفظ دينهم وأنفسهم وأعراضهم
وأموالهم.
وليس هذا وقوفا مع الحكام, بل نبغض كل حاكم يخالف للشريعة, ولا
نبرر تصرفاتهم بل ننكرها ونبين للناس حكمها علانية؛ حفظا للشريعة, كبيان حكم
الربا...
وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق