[تأصيل دقيق نبه عليه أهل العلم الراسخون]
عندما يأتي دليل شرعي له
أفراد, ونجد أن السلف تركوا العمل ببعض أفراده أو كان عملهم به قليلا , مع وقوع
العمل الكثير بغير تلك الأفراد, علمنا أن السنة المتبعة للكثير لا للقليل, ويجب حمل
الدليل عليه, قال الشاطبي في الموافقات: (فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا
الأقل لابد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به)
فيكون العمل بالقليل أو
النادر الذي يحتمله الدليل الشرعي هو في حقيقة الأمر مخالف للسلف الأولين؛ إذ لا
يعدوا أن يكون رأيا لبعضهم لم يتابعوا عليه, فكيف إذا تركوا العمل به على كل حال؟
وهذا من دقيق الاستنباط,
وليس هو من قبيل الرأي.
أضف إلى ذلك -مما هو بعيد
عن فقه الكثير - أننا ننظر في عمومات النصوص الشرعية على الأصل الاستعمالي كما عبر
بذلك الشاطبي في الموافقات, بمعنى: أن نفهم عمومات النصوص على ضوء النظر إلى مقصد
الشارع لا إلى مجرد الوضع.
وبالمثال يتضح هذا
التأصيل: عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من
نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته
ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا
يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه
فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»
فقوله:" ومن
جاهدهم بلسانه فهو مؤمن" يدخل فيه أفراد وصور, فيدخل فيه بذل الجهد بنصح
الحكام سرا, وبإنكار فعلهم وبيان حكمه في الشرع, وبالإنكار عليهم عندهم وأمامهم,
وبالإنكار عليهم حال غيبتهم بذكرهم وذكر منكراتهم
إلا أن العمل الكثير الدائم
من السلف هي الصور الثلاث الأولى, وأما الصورة الأخيرة فإن سلمنا أن السلف عملوا
بها فهي قليلة, والعمل بالقليل أو
النادر مما يحتمله الدليل الشرعي هو في حقيقة الأمر مخالف لعمل السلف الأولين؛ إذ
لا يعدوا أن يكون رأيا لبعضهم لم يتابعوا عليه, ونكتة المسألة: أنهم لم يعملوا بهذا
القليل لوجود معنى راعوه وهو إفضاء الفعل إلى مفسدة أكبر, فالصورة الأخيرة هي مظنة
الخروج بالسيف والفوضى العامة, كما صرح بذلك السلف والأئمة.
قال ابن الصلاح: (وما ورد في
هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة,
على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة) شرح النووي
على مسلم (2/ 28) فلم يحمل الحديث على كل صوره, وإنما حمله على الصور التي لا تكون
مظنة الخروج, بل أخرج الحديث عن العمل به؛ لكونه شرعا لمن قبلنا.
ثم إن عموم اللفظ لجميع
الصور وضعا لا يفيد عمومه استعمالا؛ لأن نصوص الكتاب والسنة مبنية على تحصيل
المصالح وتعطيل المفاسد, فيجب فهمها على هذا النحو, ولهذا لم يكن الخروج بالسيف
داخلا في عموم جهاد الحكام باليد؛ بالنظر إلى العموم الاستعمالي, وكذلك الإنكار
باللسان حال غيبة الحاكم لا تدخل في العموم بالنظر إلى عموم الاستعمال.
ولما ذكر ابن رجب هذا
الحديث قال في جامع العلوم والحكم (2/ 248): ( وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه:
«يخلف من بعدهم خلوف، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن» الحديث، وهذا يدل على جهاد الأمراء
باليد. وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث
التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة. وقد يجاب عن ذلك
بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال. وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح، فقال:
التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، وحينئذ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه
من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم أو
يكسر آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان
له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي
ورد النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده).
فبين استنكار الإمام أحمد
لهذا الحديث من جهة أن عموم معناه مخالف لما تواترت به النصوص, ومخالف لمقصود
الشارع والنظر الكلي للشريعة.
إلا أن ابن رجب حمل الحديث
على بعض صوره, وأفرغه من عمومه؛ ليستقيم مع روح الشريعة وما تواترت به النصوص,
فحمل جهادهم باليد على التغيير الفردي الذي أعظم ما يخشى منه أن يقتل المنكر من
غير أن يسبب فتنة عامة.
ونظيره الإنكار باللسان
فهو محمول على الصور الخاصة الفردية التي أعظم ما يخشى منها أن يقتل المنكر, وهذا
المعنى لا يتحقق في الإنكار العلني الموجه إلى العامة حال غيبة الإمام.
فلله درهم ما أفقههم
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق