[ التفويض عند السلف والتفويض عند الأشاعرة]
إن تصور الأقوال والعقائد من أهم ما يجب أن يعتني به طالب العلم، ومن لم يدرك الفروق لن يميز الحقائق.
وهناك فروق مؤثرة بين تفويض السلف وتفويض الأشاعرة، فكل واحد منهما استصحب أصوله فيه..
وتفصيل ذلك: أن من أصول عقيدة السلف في الصفات إثبات معنى الصفة على حسب مقتضى لغة العرب، وهو تصور ذهني مطلق للصفة مع إثبات التغاير بين حقيقة كل صفة وصفة وإثبات ما دل عليه ظاهر الخطاب..
فالمعنى الذهني مجرد تصور مطلق من غير أن استصحاب صورة خارجية
وظاهر الخطاب دال على أنها صفات أعيان في الصفات الخبرية الذاتية كالوجه
ولما كان إثبات الصفات إثبات وجود خارجي كان لابد للصفة خارج الذهن من حقيقة خارجية وهيئة، ولذا أثبت السلف المعنى ونفوا علمهم بالكيفيات والحقائق الخارجية
هذا هو التفويض ومحله
قال الإمام مالك بن أنس: "استواؤه معقول وكيفيته مجهولة".التمهيد ٧/١٣٨
وقال الإمام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته التي حكى فيها إجماع أهل الحديث:" والاستواء معقول والكيف فيه مجهول". مجموع الفتاوى لابن تيمية ٥/٦١
وقال الإمام أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي:"الواجب أن يعلم أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسرها النبي - ﷺ - لما أداها بتفسير يخالف الظاهر فهي على ما يعقلونه ويتعارفونه".
رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص١٥٢).
فالسلف لما فرقوا بين المعنى وبين الحقيقة والكيفية تسلط تفويضهم على ما زاد على المعنى الكلي وما دل عليه الظاهر
إذ المقصود بالمعنى في لغة العرب: بيان ما دل عليه اللفظ.
وأما بيان الذاتي فهو أخص من المعنى اللغوي.
ولم يجر عمل السلف على التفسير بالمعنى الأخص الذي عليه المناطقة
فقد أخرج البيهقي في الأسماء والصفات (٢/٣١٠) عن ابن عباس أنه فسر استوى ب صعد.
وفي صحيح البخاري(٤/١٢٤) قال أبو الغالية استوى: ارتفع.
وفي البخاري قال مجاهد استوى علا على العرش .
والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى.
قال ابن عبد البر في التمهيد (٧/١٤٥): ( أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لم يكيفوا سيئا من ذلك)
وعندما أجرى السلف الصفة على ظاهرها لم يريدوا أنه لا معنى لها بحسب لغة الغرب وما عليه الظاهر
قال عبد الله سألت أبي أحمد بن حنبل عن قوم يقولون: لما كلم موسى لم يتكلم بصوت؟
فقال أبي: بلى تكلم بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت..
وأما المفوضة من الأشاعرة فبنوا تفويضهم على أن المعنى هو الحقيقة بناء على الحد التام المنطقي، ولا حقيقة للصفة الخبرية الذاتية كالوجه إلا المشاهد، فحقيقة الوجه بالنظر إلى ذاتيه هو العضو بغض النظر عن الهيئة الخاصة.
فإثبات الوجه عينا عندهم هو إثبات للعضو والجزء، وهذا هو معناه الكلي الذاتي الذي يشترك فيه الخالق والمخلوق، كما توهموا
فكان تفويضهم للمعنى الذي هو الحقيقة والماهية وما زاد عليه من تصور شكل وهيئة خاصة.
ولهم في تفسير التفويض قولان بعد قطعهم بنفي المعنى الظاهر:
الأول: الإمساك عن ذكر الاحتمالات؛ لاحتمال وجود معنى مجازي مقصود لا يعرف.
الثاني: عدم تعيين أحد المعاني الموجودة في لغة العرب.
فالمعنى الذي يثبته السلف للصفة ليس هو المعنى الذي ينفيه الأشاعرة
وترتب عليه أن تفويض السلف ليس هو تفويض الأشاعرة
فمعاني الصفات عندهم هي حقائقها الذاتية، والقدر المشترك يكون على الحقائق الذاتية التي لا تعرف إلا بعد مشاهدة الصفة!!
وهذا يلزم منه تفسير جميع الموجودات وصفاتها بحقائقها الذاتية المشاهدة فيترتب عليه ألا نتصور معنى للمغيبات كالجنة والنار والملائكة والصراط والميزان ...؛ لأننا لم نشاهدها، فيؤول بنا الأمر إلى جعلها خيالات!!
ويقال للأشاعرة المفوضة:
أتثبتون الوجه واليد صفات وجودية في الخارج؟
فإن قالوا: نعم، قلنا: يلزمكم إثبات كيفية مجهولة لنا وإلا كنتم نافين لكونها صفات وجودية في الخارج؛ إذ الصفات الخارجية لها حقائقها التي تتميز بها في الخارج.
ثم يقال لهم: أتثبتون لها معنى ذهنيا كليا وظاهرا؟
سيقولون: لا نثبت؛ لأن المعنى لا يكون إلا ذاتيا، ومعرفة الذاتي يتوقف على معرفة حقيقة الصفة بالمشاهدة.
قلنا: يكفي في المعاني الذهنية التصور الذهني للفظ وإن لم نشاهد حقيقة الصفة وذاتياتها
وهذا هو محل الإشكال عندكم
فإن قلتم: ليست صفات وإنما هي إضافات؛ لأنها لغة أعضاء وأجزاء، ويمتنع عقلا على الله الجسمية
قلنا: بنيتم قولكم على أنها ليست صفات كونها في الحس أعضاء وأجساما
وهنا نسألكم: هل كل عضو وجزء وجسم يجب أن يكون مخلوقا محدثا
فإن قلتم: نعم، لم يسلم لكم الكرامية؛ لأنهم يثبتون جسما لا كالأجسام فانتفى فيه الحدوث والنقصان.
والذي نقوله نحن: يجب إخراج العضو المخلوق والجسم المحدث من البحث؛ لأنه خارج محل النزاع
وأما ما عداه فلا نتكلم فيه وإنما نثبت اتصاف الذات بصفات تقوم بها
هذا الذي يعرفه الصحابة والتابعون والأئمة
بل وعامة العقلاء ولا يسمونه تركيبا من أجزاء وأعضاء
فإن سماه مسم تركيبا فهذا النزاع معه في اللفظ ولا يكون مانعا لنا من إثبات الوجه صفة قائمة بالذات ما دمنا ننفي عنه ما هو من خصائص المخلوق
ولابد في الموجود خارج الذهن من صفات يتميز بعضها عن بعض فيه.
وللكلام بقية في مناقشة أصل منعهم الجسم مطلقا
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق