من أين دخل نفي الجسم عن الله على أهل الإسلام؟ ومن أول من قال به ؟
إن نفي الجسم عن الله لم يرد في الكتاب والسنة ولا نطق به أحد من سلف الأمة
وهذا يجعلنا نسأل: من أدخل هذا النفي على أهل الإسلام؟ ومن أول من قال به؟
وجواب هذا السؤال:
أن هذا النفي أدخلته الصابئة على أهل الإسلام عن طريق الجعد بن درهم مؤسس مذهب الجهمية
فالصابئة -ومنهم الفلاسفة- كانوا ينفون عن الله أن يتصف بصفات ثبوتية ...
فتلقى عنهم الجعد الذي نشأ بينهم دليل الأعراض وحدوث الأجسام
فكان هذا الدليل طريقه في إثبات وجود الله
وهو يقوم على أن المتصف بالصفات جسم، والأجسام حادثة ومتماثلة.
فأول من قال من المنتسبين للإسلام بنفي الجسم عن الله هو: الجعد
وأول من أظهره هو: الجهم بن صفوان.
وجعل من خصائص الجسم: الحدوث، فوصف الموجود بالجسم يدل على حدوثه وافتقاره، وحدوث العالم لا يكون إلا بإثبات حدوث الأجسام
ويعرف حدوث الأجسام بقيام الأعراض -التي هي الصفات- بها.
وفي المائة الثالثة تولى كبر هذا الدليل: بشر بن غياث المريسي، فتسرب إلى عقيدة المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، بل قال أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة (١٩٧): ( فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلا)
واختلف هؤلاء: بم يعرف حدوث الأجسام؟ وهل يكون ذلك بقيام كل الصفات بها أو بقيام بعضها؟
ولذا لم يتفقوا على نفي جميع الصفات عن الله سبحانه، فنفى الجهمية والمعتزلة كل الصفات؛ لأن قيامها به تجعله جسما، والأجسام حادثة.
وإنما لزم قيامها به الجسم؛ لأنها تحتاج إلى محل مخصوص وهذا من خصائص الأجسام.
ونفى متأخروا الأشاعرة قيام الصفات الخبرية الذاتية كالوجه وقيام الأفعال بالله؛ لأنه يلزم من قيامها به أن يكون جسما.
بخلاف صفات المعاني!!
وجعلوا من خصائص الأجسام: الحركة والانتقال والجهة والاستقرار ...
فنفوا النزول والاستواء والمجيء ...
وكما تلاحظون أن مجرد تجويز أن يكون الله قابلا للصفات أو بعضها ولو كانت الصفات تليق به ولا تماثل في الهيئة والكنه ما عليه المخلوق: يجعله جسما.
ويجب أن يعلم أنهم لا يريدون بنفي الجسم: الجسم بمعناه اللغوي وهو الجسد، وإنما يريدون ما هو أعم من ذلك.
فجميع المتكلمين لما اعتقدوا هذا الاعتقاد السابق الذي عرفنا مصدره ودليله
جعلوا كل نص شرعي يوهم ظاهره أن الله جسم في نظرهم ولمقتضى دليلهم: متشابه وظاهره التشبيه ويجب فيه التأويل؛ لأن الدليل العقلي -ويقصدون به دليل حدوث الأجسام المأخوذ عن الصابئة ولم يعرفه الأنبياء والرسل- قطعي لا يحتمل الخطأ، بخلاف القرآن فيحتمل ويدخله الإضلال.
وهذا يبين لنا مأخذ قولهم بأن آيات الصفات من المتشابه.
ولماذا يقولون عن آيات الصفات بأنها إضافات ومجرد أخبار!!
وهذا معنى قولنا: إنهم يقدمون العقل على النقل.
ولتوضيح ذلك أكثر: يرون أن دليل حدوث الأجسام دليل قطعي، وقد ثبت وجود الصانع به دون غيره
وبالتالي فكل ما عداه ولو كان قرآنا نزل من عند الله إذا صادم دليل الأعراض وحدوث الأجسام انتفت فيه القطعية، فلا يمكن لنص شرعي يصادم ظاهره دليل حدوث الأجسام أن يكون قطعيا.
فتسلطوا على ظاهر النص بالنفي والتأويل أو التفويض.
فالباعث الحقيقي على نفي ظاهر النص مع التأويل أو التفويض هو معارضته لدليل حدوث الأجسام الذي هو مقتضى العقل القطعي عندهم.
وترتب عليه نفي الوجه واليد والأصابع والاستواء والنزول عن أن تكون صفات لله؛ لأنها توهم الجسمية!!
قال البيجوري في شرح الجوهرة (٩٢) : ( والحاصل أنه إذا ورد في القرآن والسنة ما يشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح: اتفق أهل الحق وغيرهم على تأويل ذلك؛ لوجوب تنزيهه تعالى عما دل عليه ما ذكر بحسب ظاهره)
ويقصد بأهل الحق وغيرهم من أخذ بدليل الأعراض وحدوث الأجسام الذي منشؤه الصابئة ولم يعرفه الرسل
وهو بهذا يبين أن دليل الأعراض أقوى من دلالة النص، وأن نفي الجسمية والجهة عن الله قد دل عليه دليل حدوث الأجسام لا دلالة النص الشرعي.
فالقواطع العقلية عندهم هو دليل الأعراض وحدوث الأجسام
وهي أقوى من دلالة الدليل الشرعي
وهذا الدليل قال فيه ابن الجوزي في تلبيس إبليس:( أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الجوهر ولا العرض
فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت)
والغريب ان الآمدي في غاية المرام (١٩١) قال عنه: ( وهو عند التحقيق سراب غير حقيق)
ومما يبطل الدليل نفسه تناقض أهله فيما يقتضي التجسيم
ثم تناقضهم فيما يطلق عليه الجسم.
وكذا تناقصهم في مقدماته
ومن مقصود من استعمل نفي الجسم: نفي أن تقوم بالله صفات وأنه يُرى وينزل ويستوي وله وجه
وهذا المعنى للجسم حق بمعنى الذي تقوم به الصفات إلا أننا لا نسميه جسما؛ لكونه لم يرد واضطرب من استعمله في معناه.
وإذا كنت -أيها النافي للصفات الخبرية الذاتية- تثبت أنه متصف بالحياة والعلم والقدرة وليس بجسم مع أنه في الشاهد لا يتصف بها إلا من هو جسم ولها محل ومتميزة وليست هي الذات
فكذلك هو مستو على عرشه وله وجه ويد وقدم وليس بجسم
فعرفنا مما سبق سبب التلازم بين إثبات الصفات والجسمية عند من قال إن اتصاف الله بالوجه واليد والقدم والاستواء يلزم منه أن يكون جسما
والأصل الذي اعتمد عليه، وما بني على باطل فهو باطل.
فارفع رأسك أيها السنى، وأثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات
ولا يهولنك التشغيب بمصطلحات وأدلة ما عرفها الأنبياء ولا الصحابة
كتبه د أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق