حم المظاهرات
بنظرة مقاصدية
الحمد لله وحدة, والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فالشريعة
الإسلامية حرمت كل فعل يفضي إلى مفسدة غالبة أو كثيرة وإن كان في الفعل مصلحة, فقد
جاء في الصحيحين أن عبد الله بن أبى بن سلول في غزوة بنى المصطلق قال:" أما
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه
وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"
فمع أن في قتل المنافقين
مصلحة؛ إذ إنهم وراء الفتن وإضعاف الدولة ونشر الشائعات إلا أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما رءا أن في قتلهم مفسدة: ترك قتلهم, فلا يأت أحد ويقول: يقتلون إذا
كان في قتلهم مصلحة, فهذا النوع لا يصح تعليقه بالمصالح والمفاسد, فيقال: يجوز إن
كانت مصلحته راجحة ويحرم إن كانت مفسدته راجحة.
وكل ما أدى إلى المفسدة
كثيرا لا غالبا ولا نادرا تأتي الشريعة بالنهي عنه وإن كانت فيه مصالح, ولذا حرم
عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم, ونهى عن
بناء المساجد على القبور, وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
قال الشاطبي في الموافقات
(3/ 85): (والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا
إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة،
بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني)
وإن الناظر في واقع أمر
المظاهرات يجد أن مفاسدها غالبة أو على أقل تقدير: كثيرة, وهذه المفاسد منها هو
ظاهر لكل أحد, ومنها ما هو خفي لا يظهر إلا لأهل العلم الراسخين.
فالظاهر منها: ما يصاحبها
من تخريب واعتداء وتضييع للحقوق والواجبات وإيذاء الناس وإغلاق الطرقات...
والخفي منها:
-ترفع هيبة الحاكم في نفوس
الرعية وتسلط عليه السفهاء؛ مما يذهب بالمصالح العامة, قال القرافي في الذخيرة للقرافي
(13/ 234): (ضبط المصالح العامة واجب ولا تنضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية ومتى
اختلف عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة)
فنخشى أن يخرج علينا من
يقول: القرافي من علماء السلاطين! خصوصا إذا قرأ قوله في الذخيرة (13/ 234): (ويجب
طاعة الأئمة وإجلالهم وكذلك نوابهم فإن عصوا بظلم أو تعطيل حد وجب الوعظ وحرمت طاعته
في المعصية وإعانته عليها)
-أنها سبيل لتمكين الأعداء
من المسلمين وإشعال الحرب بينهم,.
-تزرع الشقاق والعداوة.
-تحجب المسلمين عن السبب
الحقيقي وهو البعد عن دين الله وضعف التدين
إلى غير ذلك...
وهذه الأمور محرمة شرعا,
وإذا حرم الرب شيئا حرم الطرق المفضية إليه, وإلا عُد هذا تناقضا, فكيف يحرم شيئا
ويبيح الطرق المفضية إليه؟!!
فحكمته سبحانه وعلمه
يأبيان ذلك.
أضف إلى ذلك: أن الفوضى
العامة التي تخشى من المظاهرات والتي في الغالب أو الكثير لا تفارقها: تذهب بالضرورات.
فتتعرض الأنفس للقتل, والأموال للنهب, والأعراض للانتهاك إلى غير ذلك, بينما
المطلوب للمتظاهرين في الغالب متعلق بالحاجيات والتحسينيات, وليس من الفقه في شيء:
الدعوة إلى حفظ الحاجيات والتحسينيات مع ضياع وذهاب الضرورات؛ إذ إن الضرورات أرفع
قدرا, ولا تقوم الحاجيات والتحسينيات إلا بقيام الضرورات, فهما مكملات, والمكمل
متى ما عاد إلى الأصل بالنقض والبطلان فإنه يلغى.
وأشير إلى أن من يقول
بجوازها: يخرج عن إجماع العلماء على مر العصور؛ إذ إن الجور والظلم وترك أداء
الحقوق كان موجودا في كثير من الأمراء, ومع ذلك نجد أن العلماء لم يخرجوا في
مظاهرات يطالبون بأداء الحقوق, فتركهم مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على
التحريم.
ولا أظن أن أحدا ينكر أن
المظاهرات طريقة محدثة أخذت من الغرب ودساتيرهم, وبدل أن تكون البيعة على الكتب
والسنة صارت التعاقد على ما في الدساتير الغربية!!
وليعلم أن العلاقة بين
الحاكم والمحكوم ليست علاقة تعاقد على أداء الحقوق, وإنما هي بيعة لا يجوز نكثها
ونقضها وإن قصر الحاكم في حقوقه, كما وردت بذلك النصوص, وقد قال ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (35/ 16): ( وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله
بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله. ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية
والمال فإن أعطوه أطاعهم؛ وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق. وقد روى
البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم؛ ولا يزكيهم؛ ولهم عذاب أليم. رجل على
فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له
بالله لآخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا؛
فإن أعطاه منها وفى؛ وإن لم يعطه منها لم يف} ).
فإن قيل: المتظاهر يريد رفع
للظلم, ورفع الظلم مطلوب شرعا.
قيل: المتظاهر لرفع الظلم فاعل
لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة ومفسدة، مع إمكان فعله على وجه آخر لا يلحق فيه
مضرة ولا تقع فيه مفسدة، وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر
دون الآخر, كما فصل ذلك الشاطبي في الموافقات.
ففاعل التظاهر الذي لا يقع
إلا بمفسدة إما أنه قصر نظره عن الفعل المشروع في الإنكار بما لا يقع معه مفسدة,
وإما أنه قاصد للإضرار, وكلاهما ممنوع .
فإن قيل: في المظاهرات
مصلحة. فتجد أن الحاكم يستجيب للمطالبات.
قيل: الواقع يكذب أن تكون
المصلحة راجحة وكثيرة, وإنما هي في حقيقة الأمر: نادرة وقليلة, وحتى الاستجابة –إن
وقعت- تقع بعد وقوع المفاسد, إذ لا توجد في العادة مفسدة عارية عن المصلحة جملة؛
إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المفاسد وكثرتها، ولم يعتبر ندور
المصلحة وقلتها, وهنا يخرج الفعل عن أصل مشروعيته وهو الإباحة.
والخلاصة: أن المظاهرات
محرمة؛ لكونها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المفاسد, ولا يتحقق بها المطلوب على وجه لا تقع معه
مفسدة, ولا يصح تعليق حكمها بالمصالح, وليست طريقة مشروعة للإنكار, فلا تجوز مع
الحاكم أو نوابه.
مناقشة ما استدل به مجوزوا المظاهرات من قواعد ومقاصد
يحتج بعض إخواننا بـ:
1-المظاهرات وسائل,
والوسائل لها أحكام المقاصد.
فهنا اشتملت هذه الحجة على
مقدمة صغرى ومقدمة كبرى ونتيجة, ونتيجتها: المظاهرات لها أحكام المقاصد, فيختلف
حكمها بحسب المقصد.
لكن الذي خفي على هؤلاء:
ما ضابط الوسائل التي لها أحكام المقاصد؟ وبعبارة أخرى: هل كل وسيلة لها أحكام
المقاصد؟
فمثلا: الإصلاح بين الزوجين
مقصد حسن, فلو أن رجلا أخذ بإطلاق القاعدة فجعل السحر وسيلة لهذا المقصد, فلا يشك
مسلمان أن هذا لا يصح, والغاية لا تبرر الوسيلة.
فكما أن الوسيلة لها أحكام
المقاصد فأيضا الغاية لا تبرر الوسيلة, ولا تعارض بينهما.
إذن يجب أن تكون الوسيلة
غير منهي عنها شرعا إما بنص جزئي كنصوص تحريم السحر, أو بالنظر إلى قواعد الشريعة,
فليس النهي عن الشيء محصورا في المنصوص, بل يكون في المنصوص عليه وفيما يؤخذ حكمه
من قواعد الشريعة وكلياتها ومعانيها.
والمظاهرات من منعها منعها
من جهة كونها تفضي غالبا أو كثيرا إلى مفاسد, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم, ومن جوزها لم ير أنها وسيلة منهي عنها, فرجعنا إلى النقطة الأولى وهي
كونها منهيا عنها أو لا, وبالتالي فلا يصح الاستدلال بقاعدة الوسائل لها أحكام
المقاصد؛ لأن استعمال هذه القاعدة فرع إثبات كون الوسيلة غير منهي عنها, وهذا هو
أصل البحث.
والمظاهرات عند المانعين
منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم.
2-المظاهرات تعتريها
الأحكام الخمسة, فقد تكون واجبة وقد تكون محرمة وهكذا...
فهنا أجرو المظاهرات مجرى
الفعل غير المنهي عنه من حيث هو , ولهذا تلحقه الأحكام الخمسة بحسب ما يعرض له,
وهذا لا يسلم به المانعون فرجعنا إلى أصل البحث.
وعليه فلا يقال: تعتريها
الأحكام الخمسة؛ لأن كون الفعل تعتريه الأحكام الخمسة فرع إثبات كونه غير منهي عنه
في نفسه.
فمثلا: لا يقال: الخلوة
بالأجنبية تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأن الفعل منهي عنه, بينما يقال ذلك في النكاح
والأكل والشرب ونحو ذلك.
والمظاهرات عند المانعين
منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني
المحرم, فنظروا إلى كليات الشريعة.
3-المظاهرات لم يأت نص
بتحريمها, فتكون جائزة أو تعتريها الأحكام الخمسة.
فحصروا التحريم في
المنصوص, وهذا مسلك خطير يلزم منه حصر المحرمات فيما ورد به النص دون غيره, ولا
يقول به فقيه أصولي, فالمحرمات تثبت بالملفوظ وتثبت بالقياس الجزئي والكلي.
4-المظاهرات تحقق مقصد
الشارع في حفظ الضرورات الخمس.
فهنا أيضا انطلقوا من كون
المظاهرات فعلا غير منهي عنه, وحكموا عليه بأنه يحقق مقصد الشارع, ولا يسلم
المانعون بذلك, وإنما يرون أنه منهي عنه ولا يحقق مقصد الشارع, فرجعنا إلى أصل
البحث؛ إذ إن المانعين انطلقوا من كونه وسيلة إلى تعطيل أو وقوع حرج في الضرورات
الخمس؛ لأنها سبب لقتل الأنفس والتعدي على حقوق المجتمع والتضييق عليهم في معاشهم,
كما يشهد به الواقع, فصار كون المظاهرات تحقق مقصد الشارع في حفظ الضرورات الخمس
مجرد دعوى لا يشهد لها الواقع.
5-مصلحة الناس ضيعها
الحكام فاستدعى ذلك تجويز المظاهرات.
فهنا انطلقوا من كون
المظاهرات غير منهي عنها من جهة, ومن جهة أخرى أن الحاكم ضيع الضرورات الخمس جملة وتفصيلا,
فتراهم منعوا من إقامة الصلوات ومن رفع الأذان وحرموا الناس من صلاة الجمعة
والعيد, وألزموهم بالربا والزنا, وقتلوا الأنفس المسلمة بغير حق إلى غير ذلك.
وغفلوا أن المصالح متفاوتة
في نفسها, وكذا المفاسد, وأن الشريعة تأمر باحتمال أدنى المفسدتين, وترى تقديم
المصالح الضرورية الأصلية على المكمل لها.
ولذا ترى المانعين يقولون:
إن أصل الضرورات الخمس موجود واقعا, وما يفعله الحكام من استئثار وظلم يجب أن يكون
إنكاره بما لا يرفع أصل الضرورات الخمس, ومتى ما كان الفعل ناقضا لأصل الضرورات
الخمس فإنه ينهى عنه.
ولما كانت المظاهرات وسيلة
إلى رفع أصل الضرورات الخمس أو كانت نتيجتها أكثر ضررا فإنها تمنع, وانطلقوا من أن
المصالح المكملة إذا رجعت إلى المصالح الأصلية بالنقض ألغيت, ورجعوا أيضا إلى
احتمال أدنى المفسدتين, وهذا ما أمرت به الشريعة مع الحاكم المسلم الفاسق, ولم
تناد بطلب الحقوق منهم طلبا يؤدي إلى منكر أعظم.
هذا هو النظر المقاصدي, لا
التمسك بكون الشريعة تحفظ الضرورة الخمس من غير مراعاة لتفاصيل هذا الحفظ ودقائقه.
وعندما تمنع المظاهرات ليس
من باب تثبيت الاستبداد والسيادة للبشر, وإنما هو من باب تعطيل المفاسد وتقليلها,
والنظر إلى مصلحة الأمة, والمحافضة على المصالح الضرورية الأصلية.
والعبث كل العبث أن نبطل
المصالح الضرورية الأصلية بمصالح دونها ومكملة لها.
قال القاضي عياض (( جماهير أهل السنة من الفقهاء
والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, ولا يخلع ولا
يجوز الخروج عليه بذلك, بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك )).
فجُلُّ من تكلم عن المظاهرات خرج عن أصل البحث,
وتمسك بقواعد ومقاصد لا تفيده في الحكم.
والله أعلم
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق