[بيان الحكم المطلق مع عجز الناس عن تطبيقه ليس هو من بيان الحق
ولا الصدع به]
أرأيتم
لو إنسانا يصاب بالدوران والمشقة إذا صلى قائما..
أيصح أن
يقال له: يجب عليك أن تصلي قائما؛ لأن هذا هو الحكم الشرعي ويجب بيانه، وأما العمل
به والاستطاعة فشيء آخر!!
أرأيتم
لو أن إنسانا اشتبه عليه ماء طاهر بماء نجس ولا يملك غيره..
أيصح أن
يقال له: يجب عليك أن تتوضأ بالماء الطاهر!!
أرأيتم
لو أن حكومة إسلامية ضعيفة ألزمها الكفار بدفع مال لها وإلا انقلبت أرضها جمرا..
أيصح أن
يقال لها: يحرم عليك دفعه، ويجب عليك قتالها!!
أهذا من
الصدع بالحق وبيان الحق وكلمة حق عند سلطان جائر!!!
عجب
أمركم!!
الصدع
بالحق ليس هذا بابه، بل هذا باب إفساد وفساد..
بعد هذا
فلنأصل المسألة:
إن
الفقيه يعطي الحكم الخاص على الواقع الخاص ويراعي فيه مقاصد الشريعة, ولذا لم تشرع مخالفة اليهود في
بداية ظهور الإسلام في المدينة للواقع الخاص..
فلما قوي
أمر المسلمين أمر الله نبيه بمخالفتهم، فروعي في الواقع الخاص حكم خاص...
وانظر
إلى فقه ابن تيمية رحمه الله عندما ذكر أن الحكم الشرعي لمن أقام عند الكفار وخشي
على نفسه الضرر أو أراد دعوتهم أنه يلبس لباسهم ولا يتميز عنهم ولا يؤمر بمخالفتهم
فكان
الحكم الشرعي خاصا لواقع خاص يتناسب مع الاستطاعة...
ولم يذكر
الحكم العام وهو الأمر بمخالفتهم...
قال ابن
تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 471) : "إن
المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء
لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن
المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي
الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم
أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع
على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من
المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على
الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة
لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا"
بل إن
الجمود على الحكم المطلق المجرد دون مراعاة الواقع الخاص وعرفه ومناطاته: ضلال
تصان عنه الشريعة،
وإذا أدى
القول به إلى الحرج وإلى ما لا يستطاع فلا يمكن أن يكون هو الحكم الشرعي، فالشريعة
جاءت لمصالح الناس في معاشهم ومعادهم...
قال
الشاطبي في الموافقات (1/ 159):
"إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن
عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق"
ومنه ما
قاله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (4/ 470):(والجمود
على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)
وقوله في
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 52): وهذا
محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم
وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين
أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في
كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما
على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان"
كذلك
تصان الشريعة عن تنزيل حكم مطلق على واقعة مخصوصة فيؤول إلى مفسدة أكبر
كمن يأتي
ويفتي الحكومة بعدم التعامل مع الكفار وأنها موالاة كفرية هكذا بإطلاق ولا يراعي
ما تؤول إليه هذه الفتوى من سيطرة على بلاد المسلمين وسفك دمائهم..
أو يدندن
حول خروج الناس إلى الميادين من غير أن ينظر للمآلات..
ولله در
الشاطبي القائل في الموافقات (5/ 178) :
"وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل
على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه
إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية،
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى
مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب
المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة"
والكلام
يطول...
وبهذا
ندرك أنه ليس من بيان الحق والصدع به تنزيل حكم مطلق على واقع مخصوص يختلف مع
مناطات الحكم المطلق
وأن هذا
من العبث الذي تصان عنه الشريعة، ويؤدي إلى الحرج ومفاسد كبرى ...
كتبه د.
أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق