هل كره الإمام مالك التحديث بأحاديث الصفات؛ لكونها (موهمة للتشبيه) وتوقع في التجسيم و(ظاهرها غير مراد)
أو كره التحديث (ببعضها) لسبب آخر متعلق بالمستمع لا بذات النص الشرعي؟
مقدمة:
هناك فرق بين منع المتكلمين
التحديث بأحاديث الصفات وبين منع بعض أئمة الحديث التحديث بها من جهتين:
الأولى: أن المتكلمين يعممون، فيمنعون التحديث بجميع أحاديث الصفات
أو بأحاديث الصفات الخبرية؛ لمصادمتها العقل
بينما أئمة الحديث لا يعممون، فلا يقولون: نكره التحديث بجميع أحاديث الصفات
أو بأحاديث الصفات الخبرية.
الثانية: أن المتكلمين ينطلقون في المنع من التحديث من كون ظاهرها غير مراد وأنها توهم التشبيه؛ لمعارضتها الدليل العقلي..
بينما أئمة الحديث ينطلقون في المنع من التحديث ببعض النصوص الشرعية من قصور السامع ونقص إدراكه، ولا ينطقون بحال من قصور دلالة النص.
قال ابن تيمية:(ولهذا كان الإمام أحمد وغيره إذا خشوا فتنة بعض المستمعين بسماع الحديث لم يحدثوه به، وهذا الأدب مما لا يتنازع فيه العلماء)
فمناط المنع عند بعض أئمة أهل الحديث خشية الافتتان بسبب قصور الفهم، فمخاطبتهم به مضرة بلا منفعة.
وقد سأل رجل ابن عباس عن تفسير قوله تعالى: ((الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن)) فلم يجبه وقال: "ما يمنعك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك بها تكذيبك بها.
فالمتكلمون نظروا إلى أن الحديث موهم في نفسه ودلالاته فمنعوا
وليس هذا هو نظر بعض أئمة أهل الحديث.
ولو كان الإمام مالك ينطلق من أن ظاهر نصوص الصفات غير مراد ويفيد التجسيم والتشبيه لما روى أحاديث الصفات في الموطأ
خشية أن يفتتن العوام
فقد روى حديث النزول (ينزل ربنا) وحديث الضحك (يضحك الله)
وحديث الجارية أين الله قالت في السماء
وحديث فيه أن لله يمينا...
وقد تعلق بعض لمتكلمين بما روي عن مالك أنه كره التحديث ببعض أحاديث الصفات..
فعمموا جميع الصفات وجعلوا منطلقهم في ذلك أن أحاديث الصفات في نفسها توهم التشبيه وأن ظاهرها غير مراد.
والسؤل هنا
إذا كان مالك ينهى عن رواية أحاديث الصفات فلماذا يرويها في الموطأ؟!!
ثم
ما الأحاديث المتعلقة بالصفات التي كره مالك التحديث بها؟ وما السبب؟
أولا: إنما كره التحديث ببعض أحاديث الصفات، فهو لم ينه عن التحديث بجميع الأحاديث التي اشتملت على الصفات الخبرية أو الصفات الفعلية، كما يفعله المتكلمون..
ثانيا: الحديث الذي كره مالك التحديث به هو حديث الصورة
وروي غيره
قال ابن تيمية عن حديث الصورة الذي أنكر مالك التحديث به:(الأئمة المتفق على إمامتهم في الأمة ما زالوا يروونه ولا ينكرونه ولا يتأولونه) جواب الاعتراضات المصرية(١٦٣)
وقال:(وقد حملت طائفة ثالثة نهي مالك لرواية هذا الحديث على العموم، وقد روي عنهم أنه كره رواية أحاديث في هذا الباب فجعلوا هذا قدوة في المنع من رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، ثم ينزلون ذلك على رأيهم، فمنهم من يجعل ذلك عاما في رواية جميع أحاديث الصفات كما يقوله من يقوله من المعتزلة ومحوهم من الجهمية)
ثالثا: كره مالك التحديث بالأحاديث التي ثبت ضعفها عنده، أو غلب على ظنه افتنان من سيحدثه بها، كما منع بعض السلف تحديث السلطان ببعض الأحاديث التي يستغلها بفهم خاطئ في الظلم
وكقوله صلى الله عليه وسلم (لا تخبرهم فيتكلوا)
فليس هو منعا عاما، وإنما هو منع مخصوص اقتضاه الحال المخصوص.
قال ابن القاسم: ((وكان مالك يعظم أن يحدث أحد بهذه الأحاديث التي فيها "أن الله خلق آدم على صورته" وضعفها)) أصول السنة ص75 والبيان والتحصيل16/ 400
2 - وقال أبو بكر الأبهري المالكي في شرح جامع ابن عبد الحكم ص162 : ((إنما كره أن نتحدث بهذه الأشياء من قبيل أنها ليست صحيحة الإسناد عنده، ولا يجوز أن تضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث عنه ما ليس بصحيح الرواية عنه))
3 - وقال الذهبي في السير: ((أنكر الإمام ذلك، لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور، كما أن صاحبي " الصحيحين " معذوران في إخراج ذلك))
4 - وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية ص158 ما نصه:((كان في السلف من يترك روايته-يعني حديث الصورة- فإن مالكاً روي عنه أنه لما بلغه أن محمد بن عجلان حدث به كره ذلك، وقال: إنما هو صاحب أمراء .. و إنما كره مالك ذلك لأن العلم الذي قد يكون فتنة للمستمع لا ينبغي للعالم أن يحدثه به لأنه مضرة بل فتنة وأن يكون بلغه لمن لا يفتتن به، لوجوب تبليغ العلم)
وأما قول ابن عبد البر في التمهيد 7/ 150: ((وإنما كره ذلك مالك خشية الخوض في التشبيه بكيف "هاهنا"))
فقد ذكره في بعض الأحاديث دون بعض ولم يجعله قاعدة عامة في كل أحاديث الصفات أو في كل أحاديث الصفات الخبرية
وليس منطلقه أنها توهم التشبيه وإنما خشي ممن قصر عقله أن يحدد ويكيف.
وهذا معنى قول ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 195 ما نصه: ((وقد روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمّروها كما جاءت، نحو حديث التنزل وحديث: "إن الله خلق آدم على صورته"، وأنه يدخل قدمه في جهنم، وما كان مثل هذه الأحاديث))
وأما ما ذكره الحافظ ابن حجر في قولهقال الحافظ: (..وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم" فتح الباري 1/ 225
فليس مناطا ينسجم مع عقيدة اهل الحديث، فظاهر نصوص الصفات عند السلف مراد
بخلاف ما عليه المتكلمون بناء على حاكمية العقل.
كتب
د. أحمد محمد الصادق النجار
http://abuasmaa12.blogspot.com/2024/09/blog-post_21.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق