حكم العمليات التي يُقدم الرجل فيها على قتل نفسه في الجهاد
د.
أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة
علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن النفس البشرية أمر الله بالحفاظ عليها ونهى عن
قتلها, فبقاء النفس وحياتها حق لله وحده, لا يملكه أحد من الخلق, فليس للعبد أن يتصرف
في نفسه إلا فيما أذن له الشرع, والتعدي عليها تعدٍّ على حق الله وملكه.
وما يسمى بالعمليات
الانتحارية أو الفدائية أو الاستشهادية تصويرها على النحو الآتي: إقدام المسلم على
قتل نفسه بمتفجرات ونحوها؛ نكاية في العدو.
وقبل الكلام عن حكمها, يجب
بيان الأصل فيها, فالأصل فيها التحريم؛ لأنه من باب مباشرة المسلم قتل نفسه, وقتل
المسلم نفسه حرام, بل كبيرة من كبائر الذنوب؛ فعن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن تردى من جبل فقتل نفسه
فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل
نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن قتل نفسه
بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً )
رواه البخاري ( 5442 ) ومسلم ( 109)
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : ( مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ) رواه
البخاري ( 5700 ) ومسلم ( 110 ) .
فهذا هو الأصل, ويعم كل
صورة إلا ما استثناه الشرع لفظا أو معنى, وإن الناظر في ألفاظ النصوص ومعانيها يجد
أنها استثنت صورا وهي: الرجل يحمل وحده على صف الكفار ويدخل فيهم, ويسمي العلماء
ذلك: "الانغماس في العدو", أو الرجل ينهزم أصحابه فيقاتل وحده العدو؛
نكاية في العدو .
ودليله: ما جاء في صحيح
مسلم من قصة أصحاب الأخدود, وفيها: أن الغلام دل على قتل نفسه.
فأقدم على إهلاك نفسه بما
يغلب على ظنه, أو يتحقق به الهلاك؛ لمصلحة ظهور الدين.
وأيضا ما أخرجه الترمذي عن
أسلم أبي عمران التجيبي قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم
فخرج إليهم من المسملين مثلهم أو أكثر على أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة
فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا
سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة؟
فقام أبو أيوب فقال يا
أيها الناس أنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر
الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى
الله عليه و سلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلما
اقمنا في أموالنا فأصلحنا ماضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه و سلم يرد
علينا ما قلنا { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت
التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في
سبيل الله حتى دفن بأرض الروم
وروى أحمد عن أبي إسحاق، قلت للبراء: الرجل يحمل
على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا. لأن الله عز وجل بعث رسول
الله صلى عليه وسلم فقال: « فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك » إنما ذاك في
النفقة.
ووجه: عدم دخوله: أن الله أمر بالجهاد وهذا من تمامه وإكماله, وأما الآية فهي في غير الجهاد في سبيل الله.
ووجه: عدم دخوله: أن الله أمر بالجهاد وهذا من تمامه وإكماله, وأما الآية فهي في غير الجهاد في سبيل الله.
فالصور الجائزة يجمعها:
فعل ما أمر الله به مع إفضائه إلى قتل النفس غالبا أو محققا؛ لمصلحة المسلمين.
ولما كانت الصور الجائزة
مستثناة من أصل شرعي, فيجب عدم التوسع فيها توسعا يخرج عن دلالة لفظ النص ومعناه.
والنصوص قيدت الجواز
بأمور:
الأول: أن يكون في جهاد
توفرت شروطه, وهو جهاد في سبيل الله, ولإعلاء كلمة الله.
الثاني: أن يكون مع كفار
حربيين, لا مع معاهدين ونحوهم, فضلا عن المسلمين ولو كانوا بغاة.
الثالث: أن تكون فيه مصلحة
للمسلمين.
الرابع: ألا يترتب على
الفعل مفسدة أكبر.
الخامس: أن تدعو الحاجة
إليه, أو يتوقف النصر عليه.
السادس: ألا يكون عملا
فرديا من غير الرجوع إلى من له الأمر في تقدير المصالح والمفاسد.
فإذا كان اقتحام مكان
العدو توفرت فيه هذا القيود وغلب على الظن أو تحقق أن القائم بها يُقتل فهو جائز؛
لدلالة النصوص المتقدمة على الجواز, وإلا فلا.
قال ابن حجر في فتح الباري
لابن حجر (8/ 185): (وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور
بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك
من المقاصد الصحيحة فهو حسن, ومتى كان مجرد تهور فممنوع, ولا سيما إن ترتب على
ذلك وهن في المسلمين)
وقال أبو عبد الله القرطبي
في تفسيره (2/ 363): (وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة
العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن
سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكى نكاية
أو سيبلى أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما
لقي الفرس نفرت خيل المسلمين منالفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به
فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها
فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما
تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة «2» وألقوني
إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب).
بقي أن نبين أن مقتضى
ألفاظ النصوص تقييد الجواز بأن يتم قتله بيد الأعداء لا بيده هو, وهو مستمسك من
منع هذه العمليات- والخلاف معتبر-, لكن بالنظر إلى معنى النصوص الذي بني على تجويز
الإقدام الذي يغلب على الظن معه قتل النفس أو يتحقق؛ لمصلحة المسلمين: جوزنا
العمليات التي تقوم على مباشرة المسلم قتل نفسه؛ لمصلحة المسلمين بالقيود المتقدمة,
فالظن غالب في كليهما أو محقق, وهو وسيلة لتحقيق مأمور به؛ إذ إن المسلم مأمور
بالجهاد في سبيل الله وهذا من إكماله, ولا يجتمع الأمر به مع النهي عما يُكمِّله,
وهو أيضا من باب ما لا يتم المأمر إلا به فهو مأمور به؛ إن توقف تحقيق الأمر عليه.
ومما يدل على اعتبار القصد
بين من يقتل نفسه؛ اعتراضا على قدر الله, وبين من يقتل نفسه في الجهاد؛ لإعلاء
كلمة الله ونصرة المسلمين: ما أخرجه مسلم عن إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال:
قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع
سيفه على نفسه، فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: فخرجت، فإذا نفر من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، قال: فأتيت النبي صلى
الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، بطل عمل عامر؟ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «من قال ذلك؟» قال: قلت: ناس من أصحابك، قال: «كذب من قال ذلك، بل له
أجره مرتين».
فمات بسيف نفسه ولم يعده
النبي صلى الله عليه وسلم انتحارا؛ بالنظر إلى مقصده, وهو دليل أيضا على ما ذهب
إليه الشافعية والحنابلة من أن من عاد إليه سيفه فقتله فهو شهيد.
يبقى أن تحقيق المناط
مرجعه لأهل العلم وأمراء الحرب.
ويجب أن يعلم: أنه ليس من
الجهاد في شيء ما يفعله من تلبس بتكفير المسلمين بغير حق, فيفجر نفسه في المسلمين؛
ظنا منه أنهم كفار, أو من يفجر نفسه في كفار معاهدين, أو في حربيين ويعود ذلك بمفسدة
أكبر من قتل عشرات من المسلمين بل مئات؛ انتقاما لقتل أنفس قليلة من الكفار, أو
تشويه الإسلام, ونحو ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق