وضع الجوائح في الإجارة
د.
أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة
علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده.
أما بعد؛ فإن
لوضع الجوائح أدلة وأصولا وقواعد ومعنى مراعى في تنزيل الحكم الشرعي, فقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه عند أبي داود "أن النبي صلى
الله عليه وسلم وضع الجوائح" وجاء في مسلم"أمر بوضع الجوائح"، وجاء
أيضا في مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو بعت من أخيك ثمرًا
فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "
فهذه الأحاديث تضمنت حكاية فعل النبي صلى الله عليه
وسلم في وضع الجوائح, وأمره بوضعها- والأصل في الأمر أنه للوجوب-, وتعليل وضعها,
وهو: أنه من أكل مال المسلم بدون حق, وهذه العلة تقتضي التحريم ووجوب وضع الجوائح.
قال ابن رشد الجد في المقدمات: (فأما وجوب وضع الجائحة في الجملة فالأصل فيه ما روي أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح، وما روي أنه
قال «من باع ثمرة فأصابتها جائحة فلا يأخذ من مال المشتري شيئا على ما يأخذ أحدكم
مال أخيه بغير حق» وما روي أنه «نهى عن بيع الثمار حتى تزهى وقال: أرأيت إذا منع
الله الثمرة، ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه).
وأما أصول وضع الجوائح
وقاعدتها, فهي: الأصل في العقود: العدل, والضرر يزال, وقاعدة: "تلف المقصود
المعقود عليه قبل التمكن من قبضه يبطل العقد"
ولأن عدم الوضع من أكل
أموال الناس بالباطل؛ حيث إنه أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر.
وأما المعنى الذي من أجله
وضعت الجوائح فهو: ما بقي على صاحب الأصل من حق التوفية فلم تنقطع يده بالكلية, ولذا
لم يكن قبض المشتري لها قبضا تاما ناجزا, فمثلا في الثمار التي بدا صلاحها ولم
تقطع بعدُ: المشتري لم يقبضها قبضا تاما ناجزا؛ لبقاء يد البائع عليها بالسقي فيما
يحتاج منها إلى السقي.
والمستأجر لم يقبض منفعة
العين قبضا تاما ناجزا؛ لبقاء مصروفات بقاء العين على المؤجر.
وكذا إذا كان الإيجار على
موصوف في الذمة؛ لعدم التمكن من استيفاء قبض المنفعة.
ووضع الجائحة في الثمار هو
ما ذهب إليه المالكية بقيد الثلث, والحنابلة مطلقا, خلافا للحنفية والشافعية.
وأما في
الإجارة فحكي على وضع الجوائح: الإجماع, قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (وأما
الجوائح في الإجارة فنقول: لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل
التمكن من استيفائها سقطت الأجرة لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في تلف الثمرة
المبيعة. لأن الثمرة هناك قد يقولون: قبضت بالتخلية وأما المنفعة التي لم توجد فلم
تقبض بحال. ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها بطلت
الإجارة وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الانتفاع؛ إلا خلافا شاذا حكوه
عن أبي ثور). وقال أيضًا: (قد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت
قبل التمكن من استيفائها، فإنه لا تجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل
التمكن من الانتفاع). وقال أيضًا: (لا خلاف بين الأمة أن تعطل المنفعة بأمر سماوي
يوجب سقوط الأجرة، أو نقصها، أو الفسخ، وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع: كموت الدابة،
وانهدام الدار، وانقطاع ماء السماء، فكذلك حدوث الغرق، وغيره من الآفات المانعة من
كمال الانتفاع بالزرع)
بعد تقرر هذه الأصول, فمن
وضع الجوائح: سقوط الأجرة على المستأجر الذي لم يتمكن من الانتفاع بمنفعة المكان
الذي استأجره؛ بسبب جائحة عامة كفيروس كورونا؛ لأن مقتضى العدل انتفاع كل منهما
بما عاقد عليه, فينتفع صاحب العين بالمال, وينتفع المستأجر بمنفعة العين, وفي
الجوائح العامة لا يمكن للمستأجر الانتفاع بالعين, فيكون المؤجر قد أخذ مالا بلا
مقابلة.
ولا يلزم من إباحة التصرف
في المنفعة: تمام القبض؛ بدليل أنها لو تلفت كانت من ضمان المؤجر.
فإن قيل: هذا خلاف القياس؛
باعتبار أن المشتري قد ملك منفعة العين وملك التصرّف فيها، ولو ربح فيها كان الربح
له وليس لصاحب العين.
قيل: حديث وضع الجوائح أصل
بنفسه, يقضي على كل ما خالفه, فما ذكرتموه يرده النص فيكون باطلا مهدرا.
ووضع الجوائح في الإجارة
مجمع عليه, فيكون ما ذكروه مهدرا بالنص الوارد في الثمار, وبالإجماع في الإجارة.
ثم إنه لابد في صاحب العين
كالدكان حتى يأخذ الأجرة من المستأجر أن يتمكن المستأجر من القبض التام للمنفعة,
فالمنفعة في الإيجار لا تقبض مرة واحدة كما يقبض الكيلو من الأرز وإنما تقبض شيئا
فشيئا, فمن استأجر الدكان شهرا فالقبض التام يكون بنهاية الشهر, فكل يوم ينتفع به
يقابله عوض يأخذه المؤجر, ومع انتفاع المستأجر بالعين إلا أن المؤجر لم تنقطع
علاقته بالعين, ولذا فإن مصروفات بقاء العين على المؤجر لا المستأجر.
إذن, المستأجر لم يتسلم تسليما
تاما، فإذا جاء أمرٌ غالب كالوباء العام من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع
إلزامه بالثمن؛ لعدم تمكّنه من قبضها القبض المعتاد, فتكون المنافع هنا معدومة فلا
يصح قبضها ولا تدخل في ضمان المستأجر, وهذا معنى قول النبيّ -صلى اللَّه عليه
وسلم-: "أرأيت إنْ منعَ اللَّه الثّمرة؟ فبمَ يأخذ أحدكُم مالَ أخيه بغير حق؟
".
فالقبض في
الإجارة لا يكون بمجرد التخلية؛ قال القاضي عبد الوهاب في الإشراف: (...لأن الثمار
تؤخذ حالاً فحالاً، كالمنافع إنما تستوفى أولاً فأولاً، ثم إن المنافع إذا تلفت
قبل مضي المدة كانت ضمان المكري، فكذلك الثمار يجب أن تكون من ضمان البائع، ودليلنا
على أن مجرد التخلية في بيع الثمار لا يكون قبضاً بمجرد التخلية: اتفاقنا على أنها
لو تلفت بعطش لكانت من البائع، فلو كانت مقبوضة بنفس التخلية لم يكن ضمانها من
البائع بوجه كالعبد والثوب، وتحريره أن يقال: لأنها ثمرة مبيعة محتاجة إلى تبقيتها
في النخل تلفت بآفة سماوية، فوجب أن تكون من البائع، أصله إذا تلفت بعطش. لأنه لما
لم يكن للبائع مطالبة المبتاع بقطعها دل على أنها غير مقبوضة، ولم ينفع وجود
التخلية كمن ابتاع طعاماً من رجل فكاله ليلاً، وخلى بينه وبينه، لم يلزمه نقله حتى
يصبح، ولم يكن ملك التخلية قبضاً له).
وهذا بخلاف ما لو تمكن من
القبض المعتاد وأغلق دكانه مثلا, فعدم انتفاعه لتفريطه, فيجب عليه دفع الإيجار,
ولا يوضع عنه شيء, وكذلك إذا كانت الجائحة خاصة يمكن معها التضمين.
فمنع أخذ الأجرة من
المستأجر إنما هو للجائحة العامة التي لا يمكن الاحتراز منها ولا ضمانها كآفاة
سماوية, أو نهب الحرب كما يحصل الآن في حرب طرابلس.
قال ابن
رشد الجد في المقدمات: (...الجوائح تنقسم على قسمين:
أحدهما:
ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن دفعه والاحتراس منه.
والثاني:
ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه والاحتراس منه.
فأما ما
لم يكن أمرا غالبا وأمكن الاحتراس منه وقدر على دفعه فليس بجائحة أصلا.
وأما ما
كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه ولا قدر على الاحتراس منه، فإن ذلك ينقسم على قسمين:
أحدهما:
أن يكون ذلك من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق فيه.
والثاني:
أن يكون من اكتساب المخلوقين المكلفين.
فأما ما
كان من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق مكلف فيه، فلا اختلاف أنه جائحة يجب
القضاء بها، كالريح تسقط الثمرة أو تفسدها. قال الله عز وجل {وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] {مَا تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] وقال تعالى:
{كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل
عمران: 117]، أو المطر قال الله عز وجل: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ
السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، أو البرد: قال الله عز وجل:
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ} [النور: 43]، وكذلك ما أشبهه من الجراد
والجليد والطير الغالب. وأما انقطاع الماء، فإنه جائحة في القليل والكثير بإجماع
واتفاق، قال الله عز وجل: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ
لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41].
فصل
وأما ما كان من اكتساب
المخلوقين المكلفين ولا يمكن الاحتراس منه كالجيش والسارق، فاختلف فيه هل هو جائحة
أم لا فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك جائحة، لأنه عنده مما لا يمكن الاحتراس منه، ولا
يقدر على دفعه، وذهب ابن الماجشون ومطرف إلى أن ذلك ليس بحائحه، لأن ذلك مما يمكن
عنده دفعه...)
والإجارة عقد لازم, لا
ينفسخ إلا بسبب كتلف العين, أو المنع من الانتفاع بالعين بسبب لا يمكن الاحتراز
منه, أو النقص.
وإذا تلفت العين في أثناء مدة
الإجارة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة دون ما مضى, فيدفع المستأجر الأجرة بقدر
ما انتفع به في الماضي.
وتعطل المنفعة بسبب
الجائحة على أحوال:
الأولى: أن تتعطل من كل
وجه فلا يبقى فيها منفعة, فهنا كالتالفة, وينفسخ العقد بنفسه.
الثانية: أن يتعطل منها
بعض مقصود العقد ويبقى بعضٌ بأن يزول بعض نفعها ويبقى بعض, فهنا تنقص الأجرة بقدر
زوال بعض المنفعة, وللمستأجر أن يفسخ الإجارة؛ لذهاب كمال مقصوده, ولأنه كالعيب.
الثالثة: أن يتعطل نفعها
بعض المدة, فهنا يلزمه من الأجرة بقدر ما انتفع.
الرابعة: أن يتعطل منها
المقصود من العقد بالكلية وتبقى منفعة أخرى, كأن يتعطل المقصود من عقد الدكان وهو
البيع وتبقى منفعة غير مقصودة وهي التخزين, فللعلماء قولان:
أحدهما:
تبطل الإجارة. وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة
بالعقد كان وجودها وعدمها سواء.
والثاني: يملك الفسخ.
وما ذكرته من أحكام لا فرق
فيها بين إجارة عين, أو إجارة موصوف في الذمة؛ لأن العلة عدم تمام القبض, إلا أنه
في أجرة الموصوف في الذنة نطالب المؤجر أولا بالتعويض, فإن عجز نقص من الأجر بقدر
ما نقص من المنفعة.
بقي أن نبين نازلة الإجارة
في واقعنا الحالي: مما لا يخفى أننا ابتلينا بوباء عام حصد كثيرا من الأنفس, وترتب
على وباء فيروس كورونا غلق كثير من المحلات وإلزام الدولة بهذا الإغلاق؛ خشية انتشار
الوباء,
وترتب على هذه النازلة من
الناحية الشرعية:
1-عدم جواز أخذ الأجرة
المتفق عليها بين المتعاقدين؛ لتعطل المنفعة المعقود عليها وقت الإغلاق, وإنما
يأخذ المؤجر من المستأجر بقدر المدة التي انتفع بها المستأجر.
2-لكلا المتعاقدين أو
أحدهما: الفسخ؛ للضرر.
3-للمتعاقدين التراضي على
عدم الفسخ؛ إذا وجدت منفعة أخرى كتخزين البضاعة فيمن استأجر دكانا مثلا, لكن مع
عدم أخذ الأجرة المتفق عليها, وإنما للمؤجر أن يتنازل عن تكلفة إبقاء البضاعة في
المحل إلى زوال الوباء, أو يتفق معه على أجر مناسب؛ تكلفة التخزين.
وهذه الأحكام تشمل كل مؤجر
سواء كانت الدولة أو الأوقاف أو أشخاص.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الدكتور
ردحذفجزاكم الله خيرا وبارك فيكم. وهل ينطبق هذا على العمال مثلًا الذين يشتغلون في ما يسمى بالبنوك الإسلامية؟
شيخنا لا بد أن نفرق بين تعطل الأرض أو المبنى وتعطل الربح ومجيء الزبائن.
ردحذفقال شيخ الإسلامية ابن تيمية في المجموع (٢٦١/٣٠): وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلِازْدِرَاعِ فَأَصَابَتْهَا آفَةٌ فَإِذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بَعْدَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ أَخْذِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْدَرِ فَيَسْرِقَهُ اللِّصُّ أَوْ يُؤَخِّرَ حَصَادَهُ عَنْ الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ. فَهُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْآفَةُ مَانِعَةً مِنْ الزَّرْعِ فَهُنَا لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ.