توجيه ما حصل من امتناع بعض الصحابة عن البيعة وأنه ليس بخروج
د.
أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة
علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد,
فيخلط البعض بين الخروج والامتناع عن البيعة ممن له أتباع وأنصار وشوكة, فالخروج يكون
بعد المبايعة؛ منازعة في الحكم, ويعد نكثا وغدرا, كما حصل من أهل المدينة يوم
الحرة, فعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ( لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ
المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ،
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (
يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ )، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا
هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا
أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ
بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ) رواه
البخاري
وأما ما حصل بين علي ومعاوية
رضي الله عنهما, والحسين ويزيد, وابن الزبير ويزيد, فهو: امتناع عن البيعة ممن له
شوكة وأتباع, ومن أهل المشورة والحل, وليس خروجا بالسيف؛ لانتزاع الخلافة.
فحقيقة ما حصل بين معاوية
وعلي رضي الله عنهما أن معاوية امتنع عن المبايعة؛ طلبا للقصاص من قتله عثمان أولا,
وهو اجتهاد منه, وأما علي فرأى تأخير ذلك؛ للمصلحة, ورأى أن يقاتل معاوية لإدخالهم
في الطاعة, قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله تعال وقد
ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " من تأليفه
، بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع عليا في الخلافة ؛
أو أنت مثله ؟قال : لا ، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون
أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه ، ووليه ؛ أطلب بدمه ؟ فأْتُوا عليا فقولوا له
يدفع لنا قتلة عثمان .
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ، وسار معاوية حتى نزل هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر ، فوقع القتال ." فتح الباري " (13 / 86(
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ، وسار معاوية حتى نزل هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر ، فوقع القتال ." فتح الباري " (13 / 86(
وقال ابن حزم: (ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة
لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة
ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 124)
وقال ابن تيمية: (ومعاوية
" لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة،
ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا
كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
بل لما رأى علي - رضي الله
عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد،
وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا
هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم،
وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين،
وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي
لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على
أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف). الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 455)
وكذلك ما وقع من الحسين
وابن الزبير , فإنهما قد امتنعا من مبايعة يزيد؛ اجتهادا منهما, فهما من أهل
المشورة والحل ولهما أتباع وشوكة, قال أبو العباس ابن تيمية عن ابن الزبير: (وأما في
حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا، ثم بذل المبايعة له، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه
أسيرا، فجرت بينهما فتنة) منهاج السنة النبوية (4/ 523)
ويجب أن يعلم أن يزيد لم يستتب
له الأمر على جميع بلدان المسلمين, فقد مات وبعض البلدان لم تبايع له, وكانت خارجة
عن طاعته, قال ابن تيمية: (فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك، ملوك المسلمين
المستخلفين في الأرض، ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته، لم يتول
على جميع بلاد المسلمين، كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين، بخلاف
عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين، وكذلك الخلفاء الثلاثة ومعاوية
تولوا على جميع بلاد المسلمين، وعلي - رضي الله عنه - لم يتول على جميع بلاد المسلمين).
منهاج السنة النبوية (4/ 524)
وقال عن يزيد: (وتولى بعد أبيه
على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم) مجموع الفتاوى (3/ 410)
فامتناع من امتنع من
الصحابة على المبايعة صادر من أهل المشورة والحل, وهو اجتهاد منهم, ولا يعد هذا من
الخروج في شيء.
بقي أن أبين أن ما حصل بين
عائشة وطلحة والزبير لا علاقه له بالبيعة ولا بالخروج بالسيف, وإنما كانوا يطالبون
بالقصاص من قتلة عثمان, قال ابن تيمية: (وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين
علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه، لم يكن لعلي غرض في
قتالهم، ولا لهم غرض في قتاله، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان، وكان للقتلة
من قبائلهم من يدفع عنهم، فلم يتمكنوا منهم، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم، عرفهم أن
هذا أيضا رأيه، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر، فلما علم بعض القتلة ذلك، حمل على أحد
العسكرين ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين
الأولين، ثم وقع قتال على الملك). منهاج السنة النبوية (6/ 339)
وإني لأعجب ممن يستدل
بواقعة الجمل على جواز المظاهرات؛ زعما منه أن خروجهم الجماعي والإنكار على علي
رضي الله عنه هو بعينه ما يحدث في المظاهرات, ولا أدري كيف صح لهم جعل ما حدث وقت
الفتنة أصلا مع التباس الأمر فيه ووقوع التأويل!, بل ظهر خطأ المعترضين على علي
رضي الله عنهم من جهات:
الأولى: أن عائشة رضي الله
عنها تحققت خطأ فعلها, وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها منه إلا أنها استمرت؛
للإصلاح, فقد أخرج
أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: أن عائشة رضي الله عنها لما بلغت مياه بني
عامر ليلاً نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا
راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "كيف بإحداكن تنبح عليها
كلاب الحوأب". فقال لها الزبير: ترجعين!! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين
الناس)
وكانت نادمة فقد أخرج ابن عبد البر عن ابن أبي عتيق
قال: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر،
فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب
عليك، وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت.
فإذا صح أن يكون أصلا للمظاهرات
فهو أصل في النهي عنها؛ لما تقدم.
الثانية: مع حرص الصحابة على البعد على الدماء وعدم إرادة القتال إلا أن أهل الفتنة أشعلوا فتيل الحرب, وترتب على هذا الصنيع مفسدة كبرى, ففعلهم هذا أدى إلى مفسدة كبرى؛ مما يبين لنا حكمه, وهكذا فليكن الأمر في المظاهرات.
الثانية: مع حرص الصحابة على البعد على الدماء وعدم إرادة القتال إلا أن أهل الفتنة أشعلوا فتيل الحرب, وترتب على هذا الصنيع مفسدة كبرى, ففعلهم هذا أدى إلى مفسدة كبرى؛ مما يبين لنا حكمه, وهكذا فليكن الأمر في المظاهرات.
الثالثة: أنهم كانوا
مخطئين في إنكارهم؛ إذ لم يفهموا الأمر على وجهه؛ حتى وضح لهم علي رضي الله عنه
حقيقة الأمر, وهذا التوضيح لا يحصل في المظاهرات, ثم هو قد يبنى على أمور لم تفهم
على وجهها فلا يكون وسيلة مشروعة للإنكار, فكيف وهو بالوجهين المتقدمين وسيلة منهيا
عنها, فلا يكون من باب الوسائل التي لها
أحكام المقاصد.
وكلامي هنا من جهة
الاستدلال عليها بما حدث في معركة الجمل, وليس من الممنوع: المظاهرة التي لا يكون
فيها اعتراض بل موافقة إذا لم يصاحبها مخالفات شرعية.
فإن قيل: ذكرت امتناع بعض
الصحابة عن البيعة, فهل يسوغ الآن الامتناع عن البيعة؟
قيل: البيعة تحصل من أهل
الحل والعقد ممن تتحقق بهم الشوكة وتحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة وهم أهل المشورة,
فقد جاء في صحيح البخاريِّ عن عُمرَ رضي الله عنه أنَّه قال:
«مَن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يُبايَع هو ولا الذي بايَعَه؛
تغِرَّةَ أن يُقتلَا»،
ولا يشترط فيهم عدد, ولا تسقط بتخلف من ليس لهم شوكة ولا أتباع, ولا تنعقد بهم إمامة, بل الواجب عليهم أن يبايعوا ولا يفرقوا الأمة؛ لأن العبرة بالقدرة والقوة, وقد تخلف عن بيعة أبي بكر سعد بن عبادة ولم يضر.
ولا يشترط فيهم عدد, ولا تسقط بتخلف من ليس لهم شوكة ولا أتباع, ولا تنعقد بهم إمامة, بل الواجب عليهم أن يبايعوا ولا يفرقوا الأمة؛ لأن العبرة بالقدرة والقوة, وقد تخلف عن بيعة أبي بكر سعد بن عبادة ولم يضر.
ومن هنا يظهر ضلال ما تسمى
بـ دولة الخلافة التي تبنتها "داعش", فهي قائمة على أفراد ليسوا من أهل
المشورة, ولا لهم شوكة؛ حتى تنقاد لهم الأمة الإسلامية, ولا تتحقق بهم مقصود
الإمامة العظمى.
أما إذا تخلف من لهم أتباع
وشوكة من أهل الحل والعقد والمشورة فله حالان:
الحال الأولى: أن يقاتلهم
فيدخلوا في طاعته طوعا أو كرها, أو يقاتلوه فيدخل في طاعتهم, فهنا يكون الأمر لمن
استتب له, كما حصل مع عبد الملك بن مروان, وجعل الإمام أحمد انعقاد الإمامة
بالإجماع, فقال: "مَن وَلِي الخلافة، فأجمع عليه الناسُ
ورَضُوا به، ومَن غلبهم بالسَّيف حتى صارَ خليفةً، وسُمِّي أميرَ المؤمنين،
فَدَفْعُ الصَّدقاتِ إليه جائزٌ، بَرًّا كان أو فاجرًا"، وقال في رواية إسحاق
بن منصور، وقد سُئِل عن حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن مات وليس له
إمامٌ، مات مِيتةً جاهليَّة» ما معناه؟ فقال: تَدْري ما الإمام؟ الإمامُ الذي
يُجمع عليه المسلمون، كلُّهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه" (انظر: منهاج
السُّنة النبويَّة [1/530])
الحال الثانية: ألا يحصل
اقتتال ولا يمكن أن يكون الإمام واحدا ويستقل كل واحد بقطره, فهنا لكل واحد من
الأقطار ولاية تخصه؛ للضرورة, كما حصلت خلافة بني أمية في الأندلس مع قيام خلافة
بني العباس في غيرها.
خاتمة: إذا تقرر هذا علمنا
أن الصحابة لم يخرج أحد منهم على إمام بايعه واستبب له الأمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق