ضوابط مراعاة الفقيه المتاهل للحكم السائد في البلد
تقدم معنا في مقال: [فقه الخلاف في مسائل الاجتهاد
لا يقوم على إلغاء الخلاف, ومنع المفتين من الإفتاء بغير مشهور المذهب] أن
المذهب السائد في البلد لا يراعيه المفتي الذي هو أهل للنظر في الأدلة إذا غلب على
ظنه أنه خلاف الصواب, فقد جاء صحيح البخاري (2/ 142) عن مروان بن الحكم، قال: شهدت
عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما»، فلما «رأى
علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة»، قال: «ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول
أحد» قال ابن حجر تعليقا عليه في فتح الباري شرح صحيح البخاري (165/ 25): (وفيه أن
المجتهد لا يلزم مجتهدا آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام
إذ ذاك)
وقال النووي في روضة الطالبين وعمدة المفتين (11/
117) في حق العامي: (والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي
من شاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص).
ولا يعني ذلك أن المذهب السائد لا يراعى من المفتي
والمجتهد مطلقا, وإنما يراعيه في أحوال:
الحال الأولى: إذا توقف حكم المسألة أو عُلق على
عرف البلد, فهنا يجب على المفتي أن يراعي الأعراف والعوائد التي تعلقت بها الأحكام,
قال القرافي في الفروق (1/ 176): (الأحكام المترتبة على العوائد تدور
معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت) .
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه عمر بن عبد العزيز ,
فقد أخرج الدارمي في سننه عن يزيد بن
هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: قلت لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
لو جمعت الناس على شيء؟ فقال: «ما يسرني أنهم لم يختلفوا» قال: ثم كتب إلى الآفاق
وإلى الأمصار: ليقض كل قوم، بما اجتمع عليه فقهاؤهم "
قال القرافي في الفروق (1/ 176): (فمهما تجدد في العرف
اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من
غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف
بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا
هو الحق الواضح)
الحال الثانية: ما تعلق بالخصومات
والقضاء ونحوهما مما لا يصح فيه نقض حكم الحاكم, فهنا يراعى فيها السائد في البلد
الذي عليه المؤسسة الرسمية التابعة للدولة ما لم تخالف نصا صريحا أو إجماعا, أو
خرجت عن مقتضى المقاصد والكليات للشريعة, أو بنت حكمها على سبب غير صحيح؛ لأن
حكمها داخل تحت مسألة "حكم الحاكم يرفع الخلاف" وبذلك ينسجم الوضع العام
وتتحقق المصلحة الكلية العامة.
وأما في غير ذلك فلا تكون
فتوى المؤسسة الرسمية التي تفتي بناء على مذهب معين ملزمة؛ لأن الله أمر بالرجوع
إلى الراسخين في العلم من غير تخصيص ولا تقييد ﴿ وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم ﴾ [النساء:
83]
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 378): ( وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين
إتباع الشرع الذى هو الكتاب والسنة وإذا تنازع بعض المسلمين فى شيء من مسائل الدين
ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه بإتباع حكم حاكم)
الحال الثالثة: ألا يغلب
على ظن المفتي أن ما في المذهب خلاف الصواب فهنا له أن يفتي بما في المذهب إذا كان
أحوط؛ إعمالا لقاعدة: الخروج من الخلاف, مالم يؤد إلى الضيق والحرج الشديد.
الحال الرابعة: إذا غلب
على ظن المفتي في مسألة أن حكمها الاستحباب أو الكراهة وكان القول في المذهب
الوجوب أو التحريم فله أن يترك قوله – مؤقتا- إلى قول المذهب إذا خشي مفسدة أكبر,
فهو وإن خالف مقتضى دليل جزئي إلا أنه وافق مقتضى دليل كلي, وهو: الاجتماع
والائتلاف, ففي سنن أبي داود سنن أبي داود (2/ 199): أن
عبد الله بن مسعود صلى أربعا، قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا، قال: «الخلاف
شر». .
الحال الخامسة: المفتي
المقلد الذي لا يكون أهلا للنظر في الأدلة فله أن يفتي بالمذهب السائد ويكون ناقلا
للفتوى.
الحال السادسة: ألا يترجح
للمفتي حكم بعد النظر في الأدلة فله أن يفتي بما في المذهب, وله أن يتوقف.
فهذه الأحوال استثناء من
الأصل.
مع التنبيه إلى أنه لا
يجوز الخروج عن المذهب السائد إلى قول شاذ؛ لأن القول الشاذ خطأ قطعا, وإنما جوزنا
الخروج عن المذهب السائد إلى قول لا يكون شاذا؛ لأن الحق ليس محصورا في المذهب
السائد, ومن منع الخروج يلزمه أن يحصر الحق في المذهب السائد, وهو باطل قطعا وإجماعا.
واحتجاج من احتج بضبط
المذهب وانضباطه على منع الخروج عليه, فهذه ليست بحجة في المنع؛ إذ لو كان من شرط
الأخذ بقول إمام أن يضبط فقهه لما أخذت أقوال الصحابة لعدم ضبط أولها وآخرها,
ولعدم الاتفاق على تحرير أصول كل صحابي تفصيلا, وهذا الأمر موجود أيضا في الأئمة
الأربعة, ولذا اختلف أتباعهم في تحرير أصولهم التفصيلية, وكذا في التشهير والترجيح
داخل المذهب.
والله أعلم
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق