[حكم المسح على الجوربين من نظرة مقاصدية
أصولية]
قال أبو داود في سننه (1/
224): (ومسح على الجوربين: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن
مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث, وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس).
قد ثبت المسح على الجوربين
عن عدد من الصحابة, ولا يعلم لهم مخالف فيكون إجماعا, والإجماع السكوتي إجماع وحجة
على أصح أقوال الأصوليين, فيكون ثبوت جواز أصل المسح على الجوربين من جهتين: مذهب
الصحابي وهو حجة على أصح الأقوال, ومن جهة حجية الإجماع السكوتي.
واختلف في كون المسح على
الجوربين منصوصا عليه باللفظ من جهة السنة الفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان التحقيق أن
الجوربين خفان معنى وتعليلا أو تعليلا فقط, فقد أخرج الدولابي في الكنى والأسماء
(2/ 561) بسنده عن الأزرق بن قيس قال: " رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه
ومسح برأسه، ومسح على جوربين من صوف فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفان ولكنهما
من صوف "
فجعل الجوربين لغة من
الخفين؛ إذ ليس من شرط الخفين أن يكونا من الجلد.
وفي مصنف عبد الرزاق (1/
200) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أنه كان يمسح على الجوربين قال:
" نعم، يمسح عليهما مثل الخفين.
فجعل الجوربين تعليلا من
الخفين.
ولا أريد التفصيل من هذه
الجهة؛ لأنها ليست مدار المقال, وإنما مدار المقال على حكمه مقاصديا وأصوليا, فحكم
المسح على الجوربين: رخصة, وسبب الرخصة: الحاجة, ومقصود الشارع من مشروعية الرخصة:
الرفق بالعبد عن تحمل المشاق.
وإنما دخله أحكام الرخص؛
لأن القول بعموم غسل الرجلين مع لبس الجوربين يؤدي إلى الحرج والضيق, فحمل الغسل
على عمومه أو إطلاقه يؤدي إلى مفسدة اعتنى الشارع بإلغائها ومنعها, وهذا يتطلب
تقييدا وتخصيصا بما يرفع الحرج والضيق, ولهذا جاءت الشريعة بالترخيص بالمسح على
الجورببين.
ورخصة المسح على الجوربين
مستمد من مقصد رفع الحرج, فقوة الأخذ بالحكم مبني على قوة الأخذ بالمقصد ودلالة
الأدلة عليه.
والشريعة في أحكامها راعت
مصالح العباد, فاستثنت أحكاما طلبا لدرء مفسدة وقوع العبد في الحرج والمشقة
الخارجة على المعتاد؛ مما يدل على مقصد رحمة الله بعباده.
وكذا درء مفسدة الانقطاع
عن الاستباق إلى الخير، والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة، وكراهية العمل،
وترك الدوام.
والرخصة المتعلقة بالمشاق
تدخل تحت باب الحاجيات لا الضروريات؛ لقدرته على عدم فعلها وإن لحقته مشقة, وباب
الحاجيات مكمل للضروري وحام له.
ولما كان حكم المسح على
الجوربين: الرخصة كان لابد من الاقتصار فيه على موضع الحاجة وما يرفع الحرج
والمشقة؛ لأن الرخصة مستثناة من حكم ثابت أصلي, فالحكم الأصلي هو المقصود الأول,
وأما الرخصة فهي مقصود ثان شرعت لتحقيق مقصد رفع الحرج, فرخصة المسح على الجوربين
شرعت للمحافظة على مصلحة تحسينبة.
ثم مما ينبغي أن يعلم: أنه
إذا تعارض عندنا أو تردد الأخذ بالعزيمة أو الرخصة بما لا يغلب على الظن أحدهما
كان الواجب الأخذ بالعزيمة؛ لأنه حكم أصلي كلي بخلاف حكم الرخصة فهي حكم ثانوي أو
تبعي جزئي.
وكذا حكم العزيمة حكم
راتب, وأما حكم الرخصة فعارض, فيقدم الراتب على العارض.
والأصل هو البقاء
على الأصل من العزيمة, والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي .
ومع هذا متى وجدت مظنة
الترخص كان اعتبار جانب الرخصة أولى من اعتبار جانب العزيمة؛ لأن الظن معتبر, وأصل
الترخص قطعي في الشريعة.
واعتبارها أيضا من جانب
إيماني وهو قبول إحسان الله وفضله وتمننه, وهو بهذا الاعتبار يقوى على الأخذ
بالعزيمة, فيقوى الأخذ برخصة المسح على الجوربين على عزيمة غسل الرجلين.
كما أن الأخذ بها أخذٌ بما
يعين على طاعة الله والإقبال عليه والمسارعة في الخيرات الذي هو طريق محبة الله
سبحانه, فالله أعلم بما ينشط النفس وما يدعو إلى المداومة.
إذا تقرر هذا فيجب في
تحرير وتحقيق إثبات رخصة المسح على الجوربين من بيان الحقيقة الشرعية للجورب, وأنواعه؛
للنظر في تحقق مصلحة الرخصة فيها أو لا.
الجورب لغة, قال
الفيروزآبادي في القاموس المحيط (ص: 67): (والجورب: لفافة الرجل)
فيدخل فيه كل لفافة ثخينة
أو رقيقة.
أما الحقيقة الشرعية للجورب
فهي: ما لُبس على القدمين محل الفرض لحاجة.
وللجورب أنواع بحسب
المصنوع منه وما يترتب على ذلك من حكم.
1-الجورب المجلد, وهو:
الذي وضع الجلد أعلاه وأسفله.
2-الجورب المنعل, وهو:
الذي وضع الجلد أسفله.
3-جورب الصوف, وهو: الذي
يتخذ من غزل الصوف.
4-جورب الكتان والقطن
والشعر وهو: الذي يتخذ من الكتان أو القطن أو الشعر بشرط كونه كثيفا يمكن متابعة
المشي فيه
هذه الأنواع في:
- معنى الخف,
فصح إلحاق غيره به بطريق الدلالة وهو أن يكون في معناه، ومعناه: الساتر لمحل الفرض,
وتعليق حكم المسح بالخف ليس لصورته وإنما لمعناه ورفع الحج, فمن الجمود حصر
المسح في الصورة, وهو ينافي عموم الشريعة واتساع أحكامها.
-تدعو الحاجة إلى لبسها
التي هي سبب الرخصة.
-تتحقق فيها المصلحة التي
من أجلها شرعت رخصة المسح تحققا ظاهرا.
فالحاجة التي تدعو إلى
المسح من الخف الذي هو من جلد هي الحاجة التي تدعو إلى المسخ من الجورب المجلد,
وهي نفسها الحاجة التي تدعو إلى المسح من الجورب المنعل وجورب الصوف, وكذا تحقق
المصلحة, ومع التساوي في الحاجة وتحقق مقصد الشارع -الذي
تقدم ذكره- يكون التفريق بينها تفريقاً بين المتماثلات، فهذه الأوصاف (مجلد ومنعل وصوف وكتان..) أوصاف طردية لا
يرتب الشارع عليها تأثيرا في الأحكام.
وقد جاء في مصنف عبد الرزاق
الصنعاني (1/ 190) عن الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله بن ضرار قال: رأيت أنس
بن مالك «أتى الخلاء، ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين
له مرعزا أسودين ثم صلى».
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى
(2/ 344) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا
أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعيرى، حدثنا محمش بن عصام، حدثنا حفص بن عبد الله، حدثنى
إبراهيم بن طهمان، عن سفيان الثوري، عن الأعمش أظنه، عن سعيد بن عبد الله أنه قال:
رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء فتوضأ، ومسح على قلنسية بيضاء مزرورة وعلى جوربين أسودين
مرعزىن.
والمرعزى: الزغب الذي تحت شعر
العنز، قاله الجوهري، وجعل سيبويه المرعزى صفة عنى به اللين من الصوف. انظر: تاج العروس
(15/ 157)
5-الجورب الرقيق المصنوع
من القماش ونحوه (الشراب), وهو نوعان:
فهذا النوع:
-ساتر لمحل الفرض, فتحقق
فيه مسمى الجورب وصورة الخف ومعناه.
-تدعو الحاجة إلى لبسه,
فتحقق بذلك سبب المسح في الخف والجورب الثخين
-تتحقق به مصلحة تشريع
الرخصة تحققا ظاهرا, فتحقق مقصد الشارع من الرخصة.
فظهر أن تعلق رخصة المسح
به ظاهر, ولذا يلحق بالخف والجورب الثخين لتحقق مناطه وحكمته.
وليس مناط المسح: الثخانة, ولا متابعة المشي به
وحده مسافة طويلة, وإنما مناطه: ستر محل الفرض وأن تدعو الحاجة إلى لبسه كالدفء به
وبذلك تتحقق المصلحة التي لأجلها شرعت الرخصة.
قال ابن جريج: فقلت لعطاء:
«أترى الرخصة في المسح على الخفين لئلا ينزع الرجل دفاه؟» قال: «نعم» مصنف عبد الرزاق
الصنعاني (1/ 198)
وفي هذا المعنى أخرج أحمد
في مسنده (37/ 66)عن ثوبان قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم
البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم
أن يمسحوا على العصائب والتساخين "
قال البغوي في شرح السنة
(1/ 452): (قيل: أصل التساخين كل ما يسخن القدم من خف، وجورب، ونحوه).
فالجورب الرقيق يحصل به
اتقاء البرد ويمكن متابعة المشي به مع النعلين مسافة طويلة, فقد تحقق فيه مناط
الخف.
وقد كان غالب خفاف الصحابة
وجواربهم مخرقة ومشققة ومع ذلك يمسحون عليها مادام أنها ساترة ويتحقق بلبسها دفع
الحاجة من البرد ونحوه, وفي حكمها: الجوارب الرقيقة.
قال النووي في المجموع شرح
المهذب (1/ 500): (وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب
وإن كان رقيقا وحكوه عن أبي يوسف ومحمد واسحق وداود وعن أبي حنيفة المنع مطلقا وعنه
أنه رجع إلى الإباحة)
فإن قيل: يحكي بعضهم
الإجماع استنادا على الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 10):
(وأما المسح على الجوربين، فإن كانا مجلدين، أو منعلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا
وإن لم يكونا مجلدين، ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما
بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد يجوز).
قيل: خفي على الناقل أن
الكاساني يريد بالإجماع إجماع أصحاب مذهبه, ولو صح الإجماع في المسألة عن غيره فهو
محمول على الرقيق الذي ترى منه البشرة.
فإن قيل: الجوارب المعهودة
وقت الخطاب أن تكون ثخينة.
قيل: المعهود وقت الخطاب
اختلاف أحوال الجوارب فتجد منها المخرق والمقطوع والذي لان بكثرة لبسه ومع ذلك
أطلق الصحابة جواز المسح وعلقوه بالاسم(الجورب)؛ مما يدل على إطلاقه وعمومه, فواقع
حال الصحابة يفهم منه تعميم اللفظ وإطلاقه, ففي مصنف عبد الرزاق مصنف عبد الرزاق الصنعاني
(1/ 194): قال الثوري «امسح عليها ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار
إلا مخرقة مشققة مرقعة) هذا من جهة.
ومن جهة أخرى النظر إلى
توسيع اللفظ من جهة التعليل؛ إذ إن سبب الرخصة الحاجة, ومناطه: ستر القدم لحاجة, والمقصد
رفع الحرج, وهذا يتحقق وجوده في الثخين والرقيق, فيتعدى حكم الأصل في الفرع؛ لوجود
معنى الأصل في الفرع.
فإن قيل: لم ينقل عنهم
المسح على الجوارب الرقيقة.
قيل: ولم ينقل عنهم عدم
المسح أيضا, وإن كان نقل مسح ما لان من كثرة المشي, هو في حكم نقل المسح على
الرقيق.
ولو فرضنا أنه لم ينقل
عنهم ما يفيد المسح وعدمه؛ لعدم وجوده, فالتعليل يقتضي المسح على الرقيق.
النوع الثاني: رقيق ترى
منه البشرة.
فهذا لا يمسح عليه ولا
تتعلق به الرخصة؛ لأنه لا يعد ساترا لمحل الفرض ولا يحصل به الاتقاء والتدفئة فلا
تندفع به الحاجة.
ولأنه موطن تردد, فيقوى
جانب العزيمة على الرخصة.
وإذا وجب غسل ما تحت
اللحية التي ترى منها البشرة في الوضوء فهذا من باب أولى.
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق